عبد الرحمن بكر محمد
:: قيم الملتقى المالكي ::
- إنضم
- 13 يونيو 2011
- المشاركات
- 373
- الجنس
- ذكر
- الكنية
- أبو أنس
- التخصص
- الشريعة والقانوزن
- الدولة
- مصر
- المدينة
- القاهرة
- المذهب الفقهي
- المالكي
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد ألا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأن محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، وارض اللهم عن سادتنا وأئمتنا المهدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد؛ فالشوق جارف لملتقانا الحبيب الذي طالما شرفنا بالانتساب إليه، وطالما حلمنا بالريادة له، وكم نشتاق له كلما غبنا عنه، وإن كنا نعاتب أحبتنا على التقصير في حقنا بعدم التواصل معنا، والسؤال عنا، وقد صرحت بذلك وألمحت، وبينت وفصلت، ولكن لنا عزاء بانشغال الجميع بمجريات الأحدث في بلاد المسلمين،وقد يعن لأحدنا ما يحتاج معه لبذل السؤال وكذا الدعاء، والله المستعان، وعليه التكلان، فكلامي قديم حديث، وهي قضية أدندن حولها كثيرًا لعلي أفتح أفقًا جديدًا، وأبين أمرًا ربما خفي على البعض، فأبدأ ببعض الإيضاح مقدمًا بمقدمة حول المقصود، والله ربي الموفق والمحمود، ونسأله التوفيق وجنات الخلود،
فأقول: إن منهج النقد عند الفقهاء والمحدثين منهج قديم، اشتهر فيه أكابر، ولا يخلو عصر من أمثال هؤلاء الأكارم، يرمون بسهامهم كبد الحقيقة، فلا يخيب رميهم، ويقصدون الرأس فيشدخون بتعليلهم، ويقصدون التصويب فلا يخطئ تصويبهم، وما يزال الناس يصنفون وينتقدهم من بعدهم، وما قال أحد من الناس بالعصمة، ولو قال لما سلم بقوله، ولا أمن مؤمن لفهمه، بل كل يؤخذ منه ويرد، إلا النبي محمد، بل إن نظرت للرعيل الأول لوجدت قولهم: (لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم) ولوجدت: (ثلاث من حدثكم بهن فقد أعظم على الله الفرية) ولوجدت: (فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا).
ثم انتقل هذا الفهم العميق لمن بعدهم، فتجد القول والرد، فكم من حامل فقه لمن هو أفقه منه، فنقل عن تلامذة أبي حنيفة من رد على إمامه، وأنكر شذوذه في مسائل، ونقل عن مالك رجوعه عن مسائل، بل واختلاف أصحابه معه في حياته، بل ونزوله عن قوله، وتراجعه عن مذهبه لدليل كما في قصة ابن وهب مع مالك في تخليل القدمين، وكم نقل من مخالفة لأصحابه له، مما يدل على عظم هذا الدين، وأن الله عز وجل يفتح للناس أبواب الفهم، فمنهم من فُتِحَ له في باب، ومنهم من فتح له أبوابًا {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها} هذا مع الاعتراف بفضل الأكابر، ورب مبلغ أوعى من سامع، فلا أحد يقدم ابن وهب على مالك، ولكن هذا لا يعني ألا ينكر على المخطئ في قوله أو رأيه أو اجتهاده، فالشافعي صاحب المقولة: (إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط)، ولكن لا شك أن وضع القواعد وتأصيل الأصول مهم جدًّا، مع بقاء أدب النقد، والاعتراف بالفضل لأهل الفضل، وهما قاعدتان غابتا عن كثير من النقاد -سواء أكانوا من أهل الحديث أو المشتغلين بالفقه- فصار الأمر تطاولًا بحتًا على شيوخ الإسلا من الأئمة الأعلام، فهذا يتسرع فيوهم، وذاك يقول فيشنع، وآخر يزحم أن رده مفحم، والكل مسبوق بما يقول، إنما قوله منقول، وقوله مرذول، ذاك يشنع على شيخ الإسلام ابن حجر وهذا يفتري على النووي، وذلك يرد على النووي، ودواليك، إنما نفتقد في زمننا النقاد المنصف، والباحث المتقن لما ينقد لا كمن يهرف بما لا يعرف، ويخبط خبط عشواء فيما لا يدرك ولا يفهم، فصار الأمر كما قال الأول: (إن البغاث بأرضنا يستنسر) أو (استسمنت ذا ورم) فالإنصاف في النقد أن تنقد بعلم وأدب، وتستدرك بفهم وعلم، وأسوق مثالين مخافة الإطالة وخشية الإملال والسآمة، فأقول الخلاصة والعصارة، عل قارئ يدعو لي بالمغفرة والسلامة يوم الحسرة والندامة استوقفني أدب الشيخ خليل الجم في انتقاده لشيخه ابن الحاجب -وتلمذته على كتبه لا على يديه- في نقده لكتابه فقال: (إلا أن ما ذكره رحمه الله من اجتماع الثلث مع الثمن لا يصح؛ لأن الثمن لا يكون إلا للزوجة أو الزوجات عند وجود الولد، فإذا وجد الولد لا يكون ثلث؛ لأن الثلث إنما هو للإخوة للأم أو للأم. والإخوة للأم لا يرثون مع الولد، والأم إنما لها مع الولد السدس) اهـ. فانظر يا رحمك الله إلى أدبهم مع من سبقهم، وأفضى إلى الله بما قدم، فعليه ترحم، ومعه تلطف في العبارة وتجمل، رغم كونه نقد وما سكت عن خطأ صراح كهذا.
ثم مثال آخر لإمام نقاد في مذهب إمام دار الهجرة وهو ابن غازي المكناسي، قدم في تحشيته على شراح بهرام على مختصر الشيخ خليل رحم الله الجميع، فقال في المقدمة ما نصه: (... فبين لنا صلى الله عليه وسلم الحدود والأحكام، وفصَّل لنا الحلال والحرام، وأورث علماءنا من معارفه ما جلوا به عنا غياهب الظلام، وكشفوا به عن أبصار بصائرنا سدف الغمام، فصنفوا لنا في ذلك المطولات الضخام، والمختصرات الصغيرات الأجرام، جزاهم الله تعالى عنا أفضل ما جزى إماما عن ذوي إئتام ، وجعلنا وإياهم في مستقر رحمته بدار السلام) ثم قال بعد ذلك: (فإن مختصر الشيخ العلامة خليل بن إسحاق أفضل نفائس الأعلاق، وأحق ما رمق بالأحداق، وصرفت إليه همم الحُذَّاق؛ إذ هو عظيم الجدوى، بليغ الفحوى، مُبَيِّنٌ لما به الفتوى، أو ما هو المرجح الأقوى، قد جمع الاختصار في شدة الضبط والتهذيب، وأظهر الاقتدار في حسن المساق والترتيب، فما نسج أحد على منواله، ولا سمحت قريحة بمثاله) ثم قال: (ولقد عنى تلميذه الإمام أبو البقاء بهرام بحل رموزه، واستخراج كنوزه، وافتراع أبكاره، واقتباس أنواره، واجتناء ثماره، واجتلاء أقماره بأظرف عبارة، وألطف إشارة، إلا أماكن أضرب عنها صفحًا، أو لم يجدها شرحًا، فتحرك مني العزم الساكن لتتبع تلك الأماكن، فشرحتها في هذا الموضوع بقدر الاستطاعة، وإن كنت في العلم مزجي البضاعة). اهـ. فرحم الله الأكابر على حسن أدبهم وجميل نظمهم، ورائق الشهد من أقلامهم، ولم يمنعهم ذلك من انتقادمه، فسطروا بأيمانهم ما عجز القلم عن مجاراتهم، أو حتى أن يقوم بواجب الشكر على حسن صنيعهم، وانظر لاستدراكه على شيخه بهرام في موضع من أحد عشر موضعًا من كتابه ذكرها فيه، فقال في باب الفرائض ما نصه: (والظاهر من الشارح أنه صَحَّفَ هذه اللام بالكاف، فظن أن البنت وبنت الابن تُسقطان الأخ للأب، ودرج على ذلك في "الشامل" فقال: وسقط أخ لأب بأخت شقيقة، وابن وابنة وبنت فأكثر، وهذا من أفظع الوهم الخارق للإجماع، الذي لا يحل السكوت عليه مع إطلاقه في الأخت الشقيقة؛ إذ لم يقيدها بالعاصبة كما هنا. وكم فيه من أشباه هذا، فيجب أن يحترز منه). اهـ.
فأردت أن أشحذ الهمم وأبين موقع هذه القمم، فهؤلاء حفظوا على الناس أمر دينهم، وبهم تحفظ الأمم، فكم من شاب بدأ بالنقد ولما يشتد عوده بعد، وكم من رام لما يتعلم الرمي بعد، وكم من مريد للخير لا يبلغه، وكم من همم قصرت عن مجارة أمثال هؤلاء الأعلام، وكَلَّتْ سيوفهم عن مجاراتهم في الميدان، وكل الناس يغدو، فهذا تنبيه عارض عرض لي من ثنايا مطالعتي القاصرة في مذهب مالك بن أنس، الذي به الفخر وبه نأتنس، والدال على الخير كفاعله، رحم الله راقم هذا وقارئه، والسلام على من قرأ وانتفع، ثم وعى وبلغ، والله أسأل حسن القول والعمل، وألا يؤاخذنا بما جنت يدانا ولا اجترأت خطانا، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فأقول: إن منهج النقد عند الفقهاء والمحدثين منهج قديم، اشتهر فيه أكابر، ولا يخلو عصر من أمثال هؤلاء الأكارم، يرمون بسهامهم كبد الحقيقة، فلا يخيب رميهم، ويقصدون الرأس فيشدخون بتعليلهم، ويقصدون التصويب فلا يخطئ تصويبهم، وما يزال الناس يصنفون وينتقدهم من بعدهم، وما قال أحد من الناس بالعصمة، ولو قال لما سلم بقوله، ولا أمن مؤمن لفهمه، بل كل يؤخذ منه ويرد، إلا النبي محمد، بل إن نظرت للرعيل الأول لوجدت قولهم: (لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم) ولوجدت: (ثلاث من حدثكم بهن فقد أعظم على الله الفرية) ولوجدت: (فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا).
ثم انتقل هذا الفهم العميق لمن بعدهم، فتجد القول والرد، فكم من حامل فقه لمن هو أفقه منه، فنقل عن تلامذة أبي حنيفة من رد على إمامه، وأنكر شذوذه في مسائل، ونقل عن مالك رجوعه عن مسائل، بل واختلاف أصحابه معه في حياته، بل ونزوله عن قوله، وتراجعه عن مذهبه لدليل كما في قصة ابن وهب مع مالك في تخليل القدمين، وكم نقل من مخالفة لأصحابه له، مما يدل على عظم هذا الدين، وأن الله عز وجل يفتح للناس أبواب الفهم، فمنهم من فُتِحَ له في باب، ومنهم من فتح له أبوابًا {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها} هذا مع الاعتراف بفضل الأكابر، ورب مبلغ أوعى من سامع، فلا أحد يقدم ابن وهب على مالك، ولكن هذا لا يعني ألا ينكر على المخطئ في قوله أو رأيه أو اجتهاده، فالشافعي صاحب المقولة: (إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط)، ولكن لا شك أن وضع القواعد وتأصيل الأصول مهم جدًّا، مع بقاء أدب النقد، والاعتراف بالفضل لأهل الفضل، وهما قاعدتان غابتا عن كثير من النقاد -سواء أكانوا من أهل الحديث أو المشتغلين بالفقه- فصار الأمر تطاولًا بحتًا على شيوخ الإسلا من الأئمة الأعلام، فهذا يتسرع فيوهم، وذاك يقول فيشنع، وآخر يزحم أن رده مفحم، والكل مسبوق بما يقول، إنما قوله منقول، وقوله مرذول، ذاك يشنع على شيخ الإسلام ابن حجر وهذا يفتري على النووي، وذلك يرد على النووي، ودواليك، إنما نفتقد في زمننا النقاد المنصف، والباحث المتقن لما ينقد لا كمن يهرف بما لا يعرف، ويخبط خبط عشواء فيما لا يدرك ولا يفهم، فصار الأمر كما قال الأول: (إن البغاث بأرضنا يستنسر) أو (استسمنت ذا ورم) فالإنصاف في النقد أن تنقد بعلم وأدب، وتستدرك بفهم وعلم، وأسوق مثالين مخافة الإطالة وخشية الإملال والسآمة، فأقول الخلاصة والعصارة، عل قارئ يدعو لي بالمغفرة والسلامة يوم الحسرة والندامة استوقفني أدب الشيخ خليل الجم في انتقاده لشيخه ابن الحاجب -وتلمذته على كتبه لا على يديه- في نقده لكتابه فقال: (إلا أن ما ذكره رحمه الله من اجتماع الثلث مع الثمن لا يصح؛ لأن الثمن لا يكون إلا للزوجة أو الزوجات عند وجود الولد، فإذا وجد الولد لا يكون ثلث؛ لأن الثلث إنما هو للإخوة للأم أو للأم. والإخوة للأم لا يرثون مع الولد، والأم إنما لها مع الولد السدس) اهـ. فانظر يا رحمك الله إلى أدبهم مع من سبقهم، وأفضى إلى الله بما قدم، فعليه ترحم، ومعه تلطف في العبارة وتجمل، رغم كونه نقد وما سكت عن خطأ صراح كهذا.
ثم مثال آخر لإمام نقاد في مذهب إمام دار الهجرة وهو ابن غازي المكناسي، قدم في تحشيته على شراح بهرام على مختصر الشيخ خليل رحم الله الجميع، فقال في المقدمة ما نصه: (... فبين لنا صلى الله عليه وسلم الحدود والأحكام، وفصَّل لنا الحلال والحرام، وأورث علماءنا من معارفه ما جلوا به عنا غياهب الظلام، وكشفوا به عن أبصار بصائرنا سدف الغمام، فصنفوا لنا في ذلك المطولات الضخام، والمختصرات الصغيرات الأجرام، جزاهم الله تعالى عنا أفضل ما جزى إماما عن ذوي إئتام ، وجعلنا وإياهم في مستقر رحمته بدار السلام) ثم قال بعد ذلك: (فإن مختصر الشيخ العلامة خليل بن إسحاق أفضل نفائس الأعلاق، وأحق ما رمق بالأحداق، وصرفت إليه همم الحُذَّاق؛ إذ هو عظيم الجدوى، بليغ الفحوى، مُبَيِّنٌ لما به الفتوى، أو ما هو المرجح الأقوى، قد جمع الاختصار في شدة الضبط والتهذيب، وأظهر الاقتدار في حسن المساق والترتيب، فما نسج أحد على منواله، ولا سمحت قريحة بمثاله) ثم قال: (ولقد عنى تلميذه الإمام أبو البقاء بهرام بحل رموزه، واستخراج كنوزه، وافتراع أبكاره، واقتباس أنواره، واجتناء ثماره، واجتلاء أقماره بأظرف عبارة، وألطف إشارة، إلا أماكن أضرب عنها صفحًا، أو لم يجدها شرحًا، فتحرك مني العزم الساكن لتتبع تلك الأماكن، فشرحتها في هذا الموضوع بقدر الاستطاعة، وإن كنت في العلم مزجي البضاعة). اهـ. فرحم الله الأكابر على حسن أدبهم وجميل نظمهم، ورائق الشهد من أقلامهم، ولم يمنعهم ذلك من انتقادمه، فسطروا بأيمانهم ما عجز القلم عن مجاراتهم، أو حتى أن يقوم بواجب الشكر على حسن صنيعهم، وانظر لاستدراكه على شيخه بهرام في موضع من أحد عشر موضعًا من كتابه ذكرها فيه، فقال في باب الفرائض ما نصه: (والظاهر من الشارح أنه صَحَّفَ هذه اللام بالكاف، فظن أن البنت وبنت الابن تُسقطان الأخ للأب، ودرج على ذلك في "الشامل" فقال: وسقط أخ لأب بأخت شقيقة، وابن وابنة وبنت فأكثر، وهذا من أفظع الوهم الخارق للإجماع، الذي لا يحل السكوت عليه مع إطلاقه في الأخت الشقيقة؛ إذ لم يقيدها بالعاصبة كما هنا. وكم فيه من أشباه هذا، فيجب أن يحترز منه). اهـ.
فأردت أن أشحذ الهمم وأبين موقع هذه القمم، فهؤلاء حفظوا على الناس أمر دينهم، وبهم تحفظ الأمم، فكم من شاب بدأ بالنقد ولما يشتد عوده بعد، وكم من رام لما يتعلم الرمي بعد، وكم من مريد للخير لا يبلغه، وكم من همم قصرت عن مجارة أمثال هؤلاء الأعلام، وكَلَّتْ سيوفهم عن مجاراتهم في الميدان، وكل الناس يغدو، فهذا تنبيه عارض عرض لي من ثنايا مطالعتي القاصرة في مذهب مالك بن أنس، الذي به الفخر وبه نأتنس، والدال على الخير كفاعله، رحم الله راقم هذا وقارئه، والسلام على من قرأ وانتفع، ثم وعى وبلغ، والله أسأل حسن القول والعمل، وألا يؤاخذنا بما جنت يدانا ولا اجترأت خطانا، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.