العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

قاعدة في مآلات النوازل

إنضم
11 يوليو 2012
المشاركات
350
التخصص
أصول فقه
المدينة
قرن المنازل
المذهب الفقهي
الدليل
قاعدة في مآلات النوازل
النوازل الزمانية التي يشاهدها الانسان وتؤثِّر في قلبه من طفولته إلى وفاته وإن كانت قاسية ومُرَّة ، لكن لا بُدّ في طياتها من حِكم وعِبر يستطيع الانسان أن يستفيد منها ، له ولغيره إن أحسن ذلك .

وهناك مجموعة من الفوائد التاريخية والشرعية التي يُمكن أن يستأنس بها المسلم لتخفيف ظروف الزمان والمكان على نفسه ، وبها تتبين مآلات النوازل . وهي إما فوائد معلومة لكنها مهجورة، أو فوائد بعيدة لكنها محجوبة ومستورة .

والزمن لا تأثير له في حدوث الأشياء، وإنما التأثير بيد الله تعالى فهو سبحانه كل يوم في شأن، يخلق ما يشاء ويختار .

والمسلم قد ينزعج من الأكدار الزمانية ، مما يجعله يطمع في تغييِّر الأحوال في عشية أو ضحاها ، إما بسبب الجهل المفزع أو الفقر المدقع أوالمرض المفجع !.

والله تبارك وتعالى استعمل التاريخ في الردِّ على أهل الكتاب ، كما في قوله سبحانه : "يا أهل الكتاب لم تُحاجُّون في إبراهيم وما أُنزلت التوراة والأنجيل إلاّ من بعده أفلا تعقلون " (آل عمران: 65) ، فلماذا لا نستعمله إذا في مداواة همومنا ونوازلنا ؟! .

ومن يتأمل بعض نوازل الزمان من معركة الجمل ( سنة : 36 هـ ) إلى نوازل الربيع العربي ( سنة :1432 هـ ) ، يلاحظ قاعدة يمكن الافادة منها في التخفيف من الأكدار الزمانية .
وهذه القاعدة هي أن كل أُمة تنظر ببصيرة في أحداث زمانها ، ستجد في التاريخ ما يفيدها في التخلُّص من عوائق زمانها . والعكس بالعكس ، فكل أمة لا تنظر إلى من قبلها يُسلَّط عليها بعض ما حَلَّ بغيرها . فالتسلية بالوقائع مما جاءت به الأدلة ورغبت فيه .

والنظر يكون بالقياس والاعتبار وتأمل العواقب واستخراج سنن الله من الحوادث .
وعوائق الزمان إما الأخطار المادية والمعنوية ، أو الهموم والأكدار النفسية . لكن يبدو أن الاعتبار والافادة من الأحداث لا تستقيم لكل أحد . والشواهد على هذا أكثر من أن تُحصر أو تُعدّ .
ولو تأمل العاقل في القرآن والسنة والتاريخ ، لوجد لكل حدث كبير في عصرنا ، أصلاً يُستأنس به في القياس عليه ، لأجل تخفيف أعباء الحياة .

قال الله تعالى : " كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم " ( الحشر : 59 ) .وقال سبحانه : " ويستعجلونك بالسيئة قبل الْحسنة وَقد خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِم الْمَثُلات "( الرعد : 6 ) . وقال سبحانه : " لقد كان لكم فيهم أُسوة حسنة " ( الممتحنة :6 ) . وضرب الأمثال في القرآن والسنة كثير ومستفيض .

• وبين يدي ثلاثة أمثلة تاريخية يمكن القياس عليها والافادة منها، وفيها حِكم ودروس بالغة لمن كان له عقل أو ألقى السمع وهو شهيد :

1- " لما هرب ابن الأشعث(ت: 85هـ ) بعد أن أثار فتنة أهلكت الحرث والنسل ، فقُتل من أتباعه من قُتل ، وأُسر كثيرٌ منهم ، فقتلهم الحجاج بن يوسف الثقفي(ت: 95هـ )، وهرب من بقي منهم ، ومنهم عامر الشعبي(ت: 103هـ ) رحمه الله تعالى ، فأمر الحجاج أن يُؤتى بالشعبي، فجيء به حتى دخل على الحجاج . قال الشعبي : فسلَّمتُ عليه بالإمرة ، ثم قلت : أيها الأمير ، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق ، ووالله لا أقول في هذا المقام إلا الحق ، قد والله تمرَّدنا عليك وحرَّضنا ، وجهدنا كل الجهد ، فما كنا بالأتقياء البررة ، ولا بالأشقياء الفجرة ، لقد نصرك الله علينا ، وأظفرك بنا ، فإن سطوتَ فبذنوبنا ، وما جرَّت إليك أيدينا، وإن عفوتَ عنَّا فبحلمك ، وبعد فالحجة لك علينا .

فقال الحجاج لما رأى اعترافه وإقراره : أنت يا شعبي أحبُّ إليَّ ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا، ثم يقول ما فعلتُ ولا شهدتُ ، قد أمنتَ عندنا يا شعبي .
ثم قال الحجاج : كيف وجدتَ الناس بعدنا يا شعبي ؟ وكان الحجاج يُكرمه قبل دخوله في الفتنة .
فقال الشعبيُّ مخبراً عن حاله بعد مفارقته للجماعة : أصلح الله الأمـير ؛ قد اكتحـلتُ بعدك السـهر ، واستـوعرت السـهول ، واستجلـست الخوف ، واستحليت الهمَّ وفقدتُ صالح الإخوان ، ولم أجد من الأمير خلفاً ! . فقال الحجاج : انصرف يا شعبي ، فانصرف آمنا " .

2- صلاح الدِّين الأيوبي( ت: 589هـ ) رحمه الله تعالى، أكرمه الله بالفتوحات الاسلامية والظفر على الحملات الصليبية ، ونشر الاسلام والسنة ورفع راية الجهاد . لكن دولته سقطت بعد وفاته بيسير ، بسبب تنازع أبنائه واخوانه على شؤون المملكة والاستبداد بأمور الدولة ! . وحكمت بعدهم امرأة قادت الرجال وكانت مِلء السمع والبصر ، ولكنها سقطت هي الأُخرى ، وكانت مُدة حكمها ثمانين يوماً ، وقد ماتت أبشع موتة ! .

3- من العلماء الربانييِّن قديماً من أكلوا الجلود والعِظام بسبب الجوع وضعف الحال ، لكنهم كانوا ثابتين على قِيمهم ومبادئهم وأُصولهم ، وما بدَّلوا تبديلا . ومنهم الامام الشاطبي(ت: 595هـ ) رحمه الله تعالى ، الذي هجر بلده بسبب فتنة الُأمراء التي شاعت في عصره ، فقد كانوا يحتجبون عن رعيتهم وضعفائهم ولا ينُصتون لمطالبهم . وفي الحديث المرفوع : " من ولَّاه الله عز وجل شيئاً من أمر المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخَلتهم وفقرهم ، احتجب الله عنه دون حاجته وخَلته وفقره " أخرجه أبو داود بإسناد صحيح .

وبالنظر إلى ما تقدَّم تتبين عِدة فوائد :
أ- الواجب على المسلم في ظل هذا الصراع والتجاذب ، أن يعلم أن الدنيا رحلة مؤقتة ،لا يستريح فيها أحد ، لا الغنيُّ في غِناه ، ولا الفقير في ضناه . والسعيد من وعظ بغيره .

ب- الخلاف بين الناس لا حَدَّ له ودائرته متسعة – لا سِّيما في هذا العصر - والناس كإبل مئة لا تكاد تجد فيها راحلة ! . والعضُّ بالنواجذ على الوحي يقي من التردِّي والوسوسة .

ج- اليوم تتزاحم المصالح والرغبات والأماني في الحياة ما بين مُنظِّر ومُقَرِّر ومُعَبِّر !
ومن كمال التعبُّد أن يُقدَّم النص على المصلحة بأنواعها الثلاثة : المعتبرة والملغاة والمرسلة ،لأن الله تعالى أعلم بخلقه وأرحم . وبهذا يمكن الجمع بين الأصالة والحداثة .

د- من الظالمين والمجرمين من يُدبِّر ، لكن الله تعالى قد جعل لكل أجلٍ كتاب . وتدبير الظالمين تدميرٌ لهم .وقد ورد الأمر في كتاب الله بالصبر وعدم الحزن على الظالمين المسرفين .

ه- من الإيمان المنسي تكرار المسلم للنظر والتدبُّر في حوداث التاريخ ، ليعرف العواقب ومآلات الأحداث في الأمم . وقد قال الأصوليون إن الأمر المطلق للتكرار ، فلا يصلح أن يُهمل النظر بعد ورود الأثر .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
 
أعلى