رد: تأصيل تقسيمات الفقهاء
البحر المحيط للزركشي:
فَصْلٌ فِي الْمَنْدُوبِ وَهُوَ مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَلَا يُذَمُّ تَارِكُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَارِكٌ لَهُ ...
وَالنَّدْبُ , وَالْمُسْتَحَبُّ , وَالتَّطَوُّعُ , وَالسُّنَّةُ أَسْمَاءٌ مُتَرَادِفَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ .
وَفِي " الْمَحْصُولِ " : لَفْظُ السُّنَّةِ يَخْتَصُّ فِي الْعُرْفِ بِالْمَنْدُوبِ بِدَلِيلِ قَوْلِنَا : هَذَا الْفِعْلُ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ , وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : السُّنَّةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْمَنْدُوبِ بَلْ تَتَنَاوَلُ مَا عُلِمَ وُجُوبُهُ أَوْ نَدْبِيَّتُهُ . ا هـ .
وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ : مَا عَدَا الْفَرَائِضَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : سُنَّةٌ : وَهِيَ مَا وَاظَبَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم . وَمُسْتَحَبٌّ : وَهُوَ مَا فَعَلَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ , وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ بِهِ مَا أَمَرَ بِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ فَعَلَهُ , وَتَطَوُّعَاتٌ : وَهُوَ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ بِخُصُوصِهِ نَقْلٌ بَلْ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ ابْتِدَاءً كَالنَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ , وَرَدَّهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " الْمِنْهَاجِ " بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ فِي عُمُرِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً , وَأَفْعَالُهُ فِيهَا سُنَّةٌ , وَإِنْ لَمْ تَتَكَرَّرْ , وَالِاسْتِسْقَاءُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةُ لَمْ يُنْقَلْ إلَّا مَرَّةً , وَذَلِكَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ ا هـ .
وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ : أَنَّ النَّفَلَ وَالتَّطَوُّعَ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ وَهُمَا مَا سِوَى الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ, وَالْمُسْتَحَبِّ , وَنَحْوُ ذَلِكَ أَنْوَاعٌ لَهَا .
وَفِي وَجْهٍ رَابِعٍ قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ : السُّنَّةُ مَا اُسْتُحِبَّ فِعْلُهُ وَكُرِهَ تَرْكُهُ , وَالتَّطَوُّعُ مَا اُسْتُحِبَّ فِعْلُهُ وَلَمْ يُكْرَهْ تَرْكُهُ .
وَفِي وَجْهٍ خَامِسٍ : حَكَاهُ فِي بَابِ الْوُضُوءِ مِنْ " الْمَطْلَبِ " : السُّنَّةُ مَا فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم , وَالْمُسْتَحَبُّ مَا أَمَرَ بِهِ سَوَاءٌ فَعَلَهُ أَوْ لَا , أَوْ فَعَلَهُ وَلَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ , فَالسُّنَّةُ إذًا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْإِدَامَةِ.
وَقِيلَ : السُّنَّةُ مَا تُرَتَّبُ كَالرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرَائِضِ , وَالنَّفَلُ وَالنَّدْبُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ . حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ ".
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " : النَّفَلُ قَرِيبٌ مِنْ النَّدْبِ إلَّا أَنَّهُ دُونَهُ فِي الرُّتْبَةِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا ارْتَفَعَتْ رُتْبَتُهُ فِي الْأَمْرِ وَبَالَغَ الشَّرْعُ فِي التَّخْصِيصِ مِنْهُ يُسَمَّى سُنَّةً , وَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ تَطَوُّعًا وَنَافِلَةً , وَمَا تَوَسَّطَ بَيْنَ هَذَيْنِ فَضِيلَةً وَمُرَغَّبًا فِيهِ .
وَفَرَّقَ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْهَيْئَةِ: بِأَنَّ الْهَيْئَةَ مَا يَتَهَيَّأُ بِهَا فِعْلُ الْعِبَادَةِ , وَالسُّنَّةَ مَا كَانَتْ فِي أَفْعَالِهَا الرَّاتِبَةِ فِيهَا , وَجَعَلَ التَّسْمِيَةَ وَغَسْلَ الْكَفَّيْنِ فِي الْوُضُوءِ مِنْ الْهَيْئَاتِ , وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا سُنَّةٌ , وَالْخِلَافُ يَرْجِعُ إلَى الْعِبَارَةِ .
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو تَمَّامٍ بِمَكَّةَ . قَالَ : سَأَلْت الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ بِبَغْدَادَ عَنْ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ : إنَّهُ سُنَّةٌ وَفَضِيلَةٌ وَنَفْلٌ وَهَيْئَةٌ , فَقَالَ : هَذِهِ عَامِّيَّةٌ فِي الْفِقْهِ , وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إلَّا فَرْضٌ لَا غَيْرُ . قَالَ : وَقَدْ اتَّبَعَهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فَذَكَرَ أَنَّ فِي الصَّلَاةِ سُنَّةً وَهَيْئَةً , وَأَرَادَ بِالْهَيْئَةِ رَفْعَ الْيَدَيْنِ وَنَحْوَهُ . قَالَ : وَهَذَا كُلُّهُ يَرْجِعُ إلَى السُّنَّةِ . قَالَ : وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ سَأَلْت عَنْ هَذَا أُسْتَاذِي الْقَاضِي أَبَا الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيَّ بِالْبَصْرَةِ . فَقَالَ : هَذِهِ أَلْقَابٌ لَا أَصْلَ لَهَا , وَلَا نَعْرِفُهَا فِي الشَّرْعِ . قُلْت لَهُ : قَدْ ذَكَرَهَا أَصْحَابُنَا الْبَغْدَادِيُّونَ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَغَيْرُهُ , فَقَالَ : الْجَوَابُ عَلَيْكُمْ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا النُّظَّارُ , فَقَالُوا : السُّنَّةُ مَا صَلَّاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي جَمَاعَةٍ وَدَاوَمَ عَلَيْهَا , وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ مَالِكٌ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ سُنَّةً , وَالْفَضِيلَةُ مَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَلَيْسَ مِنْ أَصْلِ نَفْسِهَا كَالْقُنُوتِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ .
قَالَ : وَهَذَا خِلَافٌ لَفْظِيٌّ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي الثَّوَابِ , فَالسُّنَّةُ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ , وَالنَّدْبُ وَمُتَعَلِّقُهُ مِنْ الثَّوَابِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ.