د. نعمان مبارك جغيم
:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
- إنضم
- 4 سبتمبر 2010
- المشاركات
- 197
- الجنس
- ذكر
- التخصص
- أصول الفقه
- الدولة
- الجزائر
- المدينة
- -
- المذهب الفقهي
- من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
لماذا نُقلت آيات الآحكام بالتواتر ولم تنقل الأحاديث المتعلقة بها بالتواتر؟
كنت أقرأ في موضوع: الزيادة على النص هل تكون نسخا؟ من كتاب أصول الجصاص، فاستوقفتني عبارة للإمام الجصاص عليه رحمة الله متعلقة بالحديث الذي ورد فيه ذكر التغريب مع الجلد، وهي قوله: (...فلو كانت الزيادة ثابتة مع الأصل لذكرها النبي صلى الله عليه وسلم عقب التلاوة، ولو ذكرها لنقلتها الكافة التي نقلت الأصل، إذ غير جائز عليهم أن يعلموا الحد الجلد والنفي جميعا فينقلوا الجلد دون النفي...)
وليس المراد هنا مناقشة المسألة الفقهية المتعلقة بالجمع بين التغريب والجلد، ولا مناقشة المسألة الأصولية المتعلقة بالزيادة على النص، ولكن المراد هو مجرد التعليق على مقارنة نقل الآية الواردة في عقوبة الزنى بالحديث المتعلق بذلك. وهي قضية منهجية لها تعلق بمسائل أخرى.
الواقع أنه يوجد فرق واضح بين نقل القرآن الكريم ونقل السنّة النبوية. فنقل القرآن الكريم يختلف عن نقل السنّة بصفة عامة؛ لأن القرآن الكريم مُتَعَبَّدٌ بتلاوته، وقد رغّب الله عزّ وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ترغيبا عظيما في تلاوته آناء الليل وأطراف النهار وحفظه، وحرص النبي صلى الله عليه وسلم من بدء الوحي على تدوينه وحفظه، وهذا ما دعا المسلمين إلى نقله بالتواتر حفظا وكتابة. أما السنّة النبويّة فإنه لما لم يكن مُتعبَّدا بتلاوتها قلَّت الدواعي إلى حفظها وتواتر نقلها. وهي وإن ورد عنه صلى الله عليه وسلم الترغيب في تبليغها، لم يرد عنه الترغيب في الاعتناء بكتابتها، بل ربما نهى عن كتابتها في بعض الأحيان مخافة الاختلاط بالقرآن الكريم. ومعلوم أن ما وردت به السنّة النبوية من أحكام تتعلق بما يحتاج إليه الناس في حياتهم اليومية من عبادات وشعائر قد اعتنى به المسلمون وتناقلوه بالتواتر العملي، أما ما لم يكن من ذلك الباب فلم تتوجّه إلى نقله عناية عامّة المسلمين، فلم يُنقل بالتواتر، بل بالآحاد. وعقوبة الزنى ليس مما تَعُمُّ به البلوى؛ فهي ليس مما يحتاج إليه الناس في حياتهم اليومية كالعبادات والمعاملات حتى تتوفّر الدواعي على نقله بالتواتر. وما يحتاج إليه الناس هو معرفة حرمة الزنا، أما معاقبة الزاني فليس من مهام آحاد الناس، بل أمره موكول إلى الحاكم.
ومن جهة أخرى لا يمكن مقارنة طريق نقل آية عقوبة الزنا بطريق نقل حديث التغريب في عقوبة الزنا؛ لأن آية الزنا لم تُنقل لوحدها لخصوص كونها عقوبة للزنا، بل نُقلت بوصفها جزءا من القرآن الكريم. لما تحقق وصف التواتر للقرآن الكريم، ثَبَت ذلك التواتر لجميع أجزائه ومنها آية الجلد. أما الحديث فنُقل لوحده غير مرتبط بغيره مما تدعو الحاجة إلى نقله بالتواتر. وكانت المقارنة تستقيم لو أن الرواة عمدوا إلى رواية آية الرجم منفردة بصفة أن النبي صلى الله عليه وسلم تلاها عليهم لبيان عقوبة الزنى فنقلوها بالتواتر، في حين لم ينقلوا ما ذكره من تغريب بالتواتر، بل نقله آحاد فقط، فعندئذ تكون مقارنة الجصاص عليه رحمة الله في غاية الاستقامة والحجة. أما وأن الآية قد نُقلت بوصفها جزءا من القرآن الكريم فثبت لها التواتر تبعا للتواتر الثابت لجميع القرآن الكريم، فالمقارنة لا تستقيم.
وعليه، فالقول بأن ما ورد في السنّة من أحكام مُكمِّلة لما ورد في القرآن الكريم ينبغي أن يُنقل بنفس الطريق، وأنه لو كان صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان نُقل بنفس الطريق التي نُقل بها النص القرآني لا يستقيم. والمقارنة إنما يستقيم فيما لو ورد حكمٌ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وتواترت روايته عنه، وروى البعض جزءا مُكمِّلا لذلك الحكم بطريق الآحاد. فهنا يمكن القول بأنه لو كان هذا صدر عنه صلى الله عليه وسلم لنُقل بنفس الطريق التي نُقل به الأول، لتشابه الدواعي إلى النقل. أما وقد اختلفت دواعي النقل وطريق النقل بين القرآن والسنّة فإن الجمع بينهما جَمْعٌ بين مفترقين افتراقُهما بَيِّنٌ.
التعديل الأخير: