العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

هام الاختلاف في مسألة الترك نظرات في اطروحة العلامة المجدد عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه (حفظه الله تبارك وتعالى )

إنضم
8 أبريل 2012
المشاركات
60
الكنية
كلية الامام الاعظم الجامعة
التخصص
أصول فقه
المدينة
سامراء
المذهب الفقهي
مالكي

السلام عليكم ورحمة الله تبارك وتعالى وبركاته أرجو أن تكونوا بخير وأرجو أن تساهم هذه المادة بتقريب المذاهب الفكرية ، بعد تحرير محل النزاع ، لتقليل شرر الاختلاف .فهذه بعض النظرات في اطروحة شيخنا العلامة المجدد عبد الله بن بيه (حفظه الله) في مسألة خطيرة ، حاولنا تقريبها ، وتسهيل تناولها ، لعلها تساهم في ازالة الاشكال . إن هذه المسألة وقع فيها خلاف كبير ، فلم يقتصر أمر الخلاف فيها على أهل العلم وطلابهم ، بل تجاوز الأمر هؤلاء النخبة ليقوم بالاختلاف بدلاً عنهم بإذنهم أو بغير اذنهم أغلب سواد الأمة من المتدينين ، مما زاد في تعمق الخلاف وتوسيع دائرة الفجوة بين أصناف المجتمع وأطيافه . ففي هذه الحالة قام الفرع على أصله بالنقض ، إذا أن الأصل في الاختلاف أن يكون تعاونياً ، وذلك يكون من خلال تظافر الجهود العلمية على استنباط المقاصد واستخراج العلل وإبصار المرامز والحكم ، فكل طرف أبصر جانباً ، وبالتالي كل طرف أضاف بعداً للنصوص من خلال استنباطه ، فكان مشروع الاختلاف تعاونياً على استنباط الحكم ، فأصبح المجتهد أمام مقاصد توصل إليه ، ويقابله المجتهد الآخر الذي توصل إلى مقاصد أخرى . وبما أن الشارع لم يجعل نصوص الشريعة تحتمل وجهاً واحداً لا يمكن تجاوزه ، فهذه إشارة إلى جواز الاجتهاد والنظر لإبصار مالم يبصره غيره ، أو أبصره لكنه لم تتحق شروط اناطة الحكم به حسب منهجيته ، وبالتالي فنحن أمام إقرار رباني بجواز النظر ممن لهم أهلية للاجتهاد ليتعاونوا على اصدار أحكام تقريبية ، تقرب وجهات النظر وتحصر أوجه الاختلاف في أضيق الدوائر ، وإذا كان أسلافنا منعتهم بعد المسافات ودخول جانب التعصب تارة أخرى في اعاقة بعض تلك المحاولات التقريبية ، فحري بنا اليوم ونحن نستظل تحت صروح الجامعات التي تتحلى بالاستقلالية وإن تسمت بأسماء أغلب أصحاب المذاهب ، فنحن نؤمن بأن تلك الاسماء لا تمثل التعصب الحقيقي لآراء هذا الإمام أو ذاك ، وإنما تعظيماً لشأنهم ، أو لظروف مكانية أو زمانية . فهذه الجامعات تمثل صروحاً علمية مستقلة ، فالأولى بها عمل مقاربات عملية لتوحيد الفكر الديني ، بإقامة ورشات عمل وندوات كبيرة وصغيرة لرسم معالم واضحة لتجاوز الاختلافات التي تؤدي إلى الاصطدام ، بل تنقل الخلاف من التضاد إلى التعاون لتجاوز كل أسباب الاختلاف التي جرت علينا الويلات ، ولا نزال نحصد علقم آثارها .لذلك اقتضى حديثنا عن هذه المسألة بجملة من المسائل
: المسألة الأولى : تحديد الاشكالية
:المسألة الثانية : المنهجية التجديدية المساهمة في رفع الاختلاف
المسألة الثالثة : دور مسلك الترك في استنباط المقاصد

المسألة الأولى : تحديد الاشكالية :
ونعود إلى مسألة "بدعة الترك " فإنها تندرج تحت باب الأفعال لا الأقوال ، ومما هو معلوم عند أهل العلم بأن الأقوال أوضح دلالة على مقصود المعنى من الأفعال ، وذلك لتطرق الاحتمال إلى الأخير أكثر من الأول : (فإن القول يدل على الموجود والمعدوم والمعقول والمحسوس بخلاف الفعل فإنه يختص بالموجود المحسوس إذ المعقول والمعدوم لا يمكن مشاهدتهما وللاتفاق على أن القول دليل بخلاف الفعل فإن من الناس من يقول إن الأفعال لا يستدل بها ولا تكون بيانا فهذه ثلاثة وجوه لكون الأقوال أقوى من الأفعال وإذا كانت أقوى من الأفعال فبالأولى أن تكون أقوى من التروك )[1] .
وبما أن الفعل ليس واضح الدلالة على مقصوده ، فإن الاختلاف في تروك الأفعال أشد غموضاً وأكثر تعقيداً ، ولذلك وقع الخلاف في مدى اعتبار التروك أحد مسالك الكشف عن مقصود الشارع ، وكذا مدى امكان إلحاق المتروكات من الأفعال بأحد الكليات الشرعية .ويوضح شيخنا مفهوم قضية الترك وما صاحبها من اختلاف كبير بين أهل العلم بقوله :( فعل أمر في محل ترك من قبل من أدق الأمور التي وقع فيها الالتباس واختلف فيها بل اختصم فيها الناس ...إن مسألة الترك تشبه أن تكون من المسائل الاجتهادية التي تختلف فيها أنظار العلماء فيرتب بعضهم عليها حكم الكراهة أو التحريم حسب الأدلة التي يسوقها لجانب ترك الفعل ، بينما لا يعتبرها البعض الآخر دليلاً إلا على مجرد رفع الحرج وعدم لزوم ذلك الفعل المتروك ، فيكون المتروك معروضاً على عموم الأدلة الأخرى التي تدل على اباحته أو استحبابه أو كراهته وقد تدل على وجوبه عند قيام مصلحة راجحة أو شمول دليل الوجوب له أو على التحريم لنشوء مفسدة واضحة)[2].

فالخلاف واقع بين أهل العلم بين من ينفي الاعتماد عليها جملة وتفصيلاً ، وبين من يرى بأن قضية الترك لا تنهض بذاتها لتكون أصلاً للتحليل والتحريم إلا بعد أن تعرض على اصول الشريعة وكلياتها ، فما وافق منها أئتلف وما تناكر فيها اختلف وأبعد .ولم يخلو قرن من الخلاف بين أهل العلم في كثير من مسائل الفروع التي انبنت على مسألة الترك ، فقد وقع خلاف بين الشاطبي وشيخه ابو سعيد بن اللب ، وقد وقع خلاف في القرن التاسع بين الحافظ السخاوي والإمام البقاعي الشافعي حول النداء الذي كان يفعل في الحرم الشريف وامتد الى مصر قبل صلاة الفجر يادائم المعروف " وانكره الأخير ورد عليه الأول برسالة عنوانها " القول المعروف في الرد على منكر المعروف " ولكلٍ أدلة وقل أن تعرو فترة من نزاع حول مسألة من قبيل بدع الترك[3] .
بل وقع في القرن المنصرم خلاف كبير بين عالمين من علماء الشمال الافريقي بين الإمامبين ابن عاشور وتلميذه عبد الحميد بن باديس (رحمهما الله تعالى) في مسألة "قراءة القرآن على الجنازة" فقد وقع خلاف بين الرجلين فرأينا تجاوزاً كبيرا وقع من ابن باديس تجاه شيخه ولم نجد في المقابل إلا رسوخ الجبال.فسأذكر طرفاً من الاشكال على طوله لأبين حجم الاشكالية التي تصاحب هذا الموضوع :فقد وردت أسئلة للإمام متنوعة ، فكان منها مكتوباً ، وبعضها شفهياً ، محصلها طلب معرفة الحكم الشرعي في مسألة قراءة القرآن في حالات مخصوصة ، وهي : قراءة القرآن عند تشييع الجنازة ، وحول الميت ، وحول قبره عند دفنه .وقد نتج عن هذه الأفعال مشاجرات بين أولياء الميت ، وبين من يخالف ذلك ، حتى كادت أن تقع فتنة .فيقول الإمام : ( إن السنّة في المحتضر وفي تشييع الجنازة والدفن الصمْتُ للتفكر والاعتبار[4]، فإذا نطق الحاضر فليكن نطقه بالدعاء للميت بالمغفرة والرحمة ، فإن دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مرجوة الإجابة.وأما قراءة القرآن عن الميت حين موته وحين تشييع جنازته وحين دفنه ، فلم تكن معمولاً بها في زمن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وزمن أصحابه ، إذ لم ينقل ذلك في الصحيح من كتب السنة والأثر من توافر الدواعي على نقله لو كان موجوداً ، إلا الأثر المروي في قراءة سورة يس عند رأس الميت وقت موته [5]على خلاف فيه .
ولهذا كان ترك القراءة هو السنة وكان أفضل من القراءة في المواطن الثلاثة المذكورة ، وحينئذ فتكون قراءة القرآن في تلك المواطن إمّا مكروهة أومباحة غير سنّة ، فتكون مندوبة في جميعها ، وإما مندوبة في بعضها دون البعض ، وفي حمل حكمها على أحد هذين الوصفين على الإطلاق أو بالتفصيل خلاف بين علماء المذهب ومن وافقهم رحمهم الله.فذهب مالك وجمهور أصحابه إلى أن القراءة في تلك المواطن الثلاثة مكروهة [6] ، حكى عنه الكراهة ابن بشير[7] (526هـ/1131م) من رواية أشهب[8] (204 هـ / 819م) ... ويبين الإمام سبب اعتبار الإمام مالك القراءة مكروهه لسببين :أحدهما : أنّ هذا لم يؤثر في السنّة...الثاني : أنّ مالكاً لا يرى انتفاع الميت بقراءة الحي عليه أو له ، ولا يرى صحة إهداء ثواب القراءة للميت فالاشكالية في هذه المسألة تقع في ثلاثة قضاياً :
أولاً : في تحديد مصطلح الكراهة .
ثانيا : في بيان العمل فيما لم يرد في السنة ، وعلاقته بالبدعة ، أي المسكوت عنه .
ثالثاً : في بيان انتفاع الميت بالثواب .
وقد ناقش الإمام هذه الاشكالية فليراجع كتاب الفتاوى .
ونحن نشير إلى هذه المسألة لبيان حجم الخلاف الواقع بين أهل العلم ، في مسألة الترك ، ولبيان ذلك فلا بد من التنبيه على مسألة خطيرة انبنت عليها ، وهي الهجوم السافر على الإمام من قبل معارضية ، والذي كان أشدهم تلميذه الشيخ عبد الحميد باديس ، الذي لم نجد لديه الحس النقدي البناء ، ولم نجد لديه الوفاء الحقيقي لشيخه .
وفي الجهة الأخرى وجدنا جبلاً راسخاً ، لم تهزه هذه الانتقادات ، ولم يعطها قدراً بحيث تغافل عنها ولم يكتب للرد عليها ولو بكلمة ، بل كان همّه السير في مشروعه رغم كل الانتقادات.ولكي نرى حجم التجاوزات التي هاجم بها ابن باديس شيخه ، سأذكر بعض مقولاته ، التي كانت هجوماً واضحاً من العنوان إلى الخاتمة .
فقد عنون ابن باديس تعقيباته بقوله : " شيخ الاسلام بتونس يقاوم السنّة ، ويؤيّد البدعة ، ويغري السلطة بالمسلمين " ، إن ابن باديس قد حاول في عنوانه أن يجمع ما فهمه من فتوى شيخه ـ وسأحاول قدر الإمكان أن أوضح عنوانه ببساطه والرد عليه :
أولاً : إن الشطر الأول من العنوان يوحي بكون الإمام قد قاوم السنة ، وهذا كلام لم يصح ، إذ أن الفتوى واضحة ، فلم ينكر الإمام سنّة للنبي (صلى الله عليه وسلم) وإنما كان عمله هو مناقشة قضايا استحسنها الناس ولها أصل شرعي ، يريدون معرفة مدى ارتباطها بالسنة ، فلم يؤيد البدعة في مقابل سنة .وقد ثانياً : أما الشطر الأخير من العنوان ، وهو :" يغري السلطة بالمسلمين " إن ابن باديس كان يحاول أن يبين حجم تأييد الإمام للبدع ، بحيث يطالب السلطة بردع من ينكر المنكر ، ويأمر بالمعروف ، وقد نسي أو تناسى كلام الإمام الواضح في بيان المفسدة التي نتجت عن هذا المسمى بالأمر بالمعروف فقد ورد في السؤال : ( فإنّه قد حصلت في هذه القضيّة مشاجرات بين من ينكرون ذلك وبين أقارب بعض الأموات ، وحدث من الخلاف بين المنكرين والمرخصين ما أوشك أن يوقع فتنة )[9] ، فكان جواب الامام يدور حول تهدئة الأمور ورفع الاختلاف الواقع بين الناس ، ولا سبيل لتحصيل ذلك إلا بولاة الامور فيقول : ( وعليه فكل من يتصدى لمنع أقارب الأموات من تشييع جنائزهم بالقراءة ، فقد أنكر عليهم بغير علم ، واجترأ عليهم بالتدخل في خاصة أمورهم بدون سبب يحق له ذلك . وإنما شأن العالم في مثل هذا أن يرغبهم في التأسي بالسنة ، وبيان أنها الحالة الفضلى بقول لين ، فإذا هم تجاوزوا ذلك فحقّ على ولاة الأمور في البلدان أن يدفعوا على أهل المأتم عادية من يتصدى بزعمه لتغيير المنكر دون أن يعلم من كلّ من تَزَبَبَّ قبل أن يتحصرم )[10].
ولم يكن الامام يدافع عن فئة معينة ، بدافع شخصي ، أو وظيفي ، أو مالي ، أو الشهرة ، فالرجل بنى لنفسه قاعدة عريضة ، فكان في غنى عن كل غرض ، وإنما كان يدافع عن فكر مقاصدي تغلب على فكره ، فشمل كل فروعه[11].
وبالتالي : فإن الغرض من سوق هذا المثال ، وهو لبيان حجم الخلاف الواقع بين أهل العلم ، وفي الاختلاف في حمل فتواه على وجوه لا يقره دليل ، ولا يقيمه برهان ، وإذا كان هذا الاختلاف واقع بين أهل العلم بهذا الشكل ، فلنا أن نتساءل إلى أي مستوى سيكون الاختلاف بين عموم الناس ، وإذا كانت هذه صورة الخلاف بين التلميذ وشيخه فكيف بمن لم تقم بينهما أي رابطة ؟وأخيراً أود تسجيل هذه الكلمة القصيرة : إن هذا الموضوع قد بحثه كثير من العلماء المعاصرين ، وألفت فيه جملة من الكتب التي ساهمت في رفع النقاب عن تلك المسائل التي وقع فيها الخلاف ، وكذا قامت بتحرير النزاع وربط الفروع بأصولها ، ولكن أغلبها لم يضع لهذه المسئلة معياراً منضبطاً للمساهمة في رفع الاختلاف في هذه المسألة ، ولتوظيفها في منهجية توسيع أوعية الاستنباط وتوليد الأحكام ، بل لم تتعدى تلك البحوث توضيح أصل هذه المسألة ببعض الصفحات ، لكنها في الغالب أعطت الفروع الفقهية حقها من البحث ، فساهمت في توضيح الاشكال ورفعه .أما هذه الدراسة التي بين أيدينها ؛ فإنها لم تقتصر على توضيح الإشكال ، بل كان لشيخنا فضل السبق بوضع جملة من الأوجه لضبط هذه المسألة ونقلها من دائرة الاختلاف وضمها للمسالك التي يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي ، فأصبحت من الأدوات لتوليد الأحكام
. المسألة الثانية : المنهجية التجديدية المساهمة في رفع الاختلاف
قبل بيان النظرة التجديدية لابد من ذكر وجهة النظر لمسألة عدم اعتبار الأحكام التي انبنت على مسألة الترك ، بأنها لا تصلح بالاحتجاج وأنها من باب البدع والإحداث في الدين .إن أصحاب هذا الرأي يقولون ، نحن لسنا بأفضل من النبي (r) وأصحابه (y) فهم أحرص منا على عمل القربات ، ولو كان الأمر فيه خير لعمله الصدر الأول ، فهم خير القرون ولا تتم الأفضلية إلا بأن يعملوا بأفضل الأعمال ، ولو كانت هذه الأعمال المبتدعة خير ولم يعمل بها الصدر الأول ، فعند ذلك تبطل صفة الخيرية .ومن أقوالهم : إذا أيدنا هذه المسائل المبتدعة ؛ فإنها تشير إلى ان الشريعة لم تتم ، وأنه بقي شىء يجب أو يستحب استدراكه ؛ لأنه لو كان معتقدا كمال الشريعة وتمامها من كل وجه، لم يبتدع ، ولا استدرك عليها ، وقائل هذا ومعتقده ضال عن الصراط المستقيم.
والذي أراه والله أعلم أن سبب الخلاف يرجع في هذه المسألة بناء على ما فهمته من اطروحة شيخنا بن بيّه (حفظه الله تعالى) ترجع إلى أحد الأمرين التاليين : الأول : الاختلاف في تأويل هذه النصوص وحملها .
الثاني : الاختلاف في التثبت من بعض النصوص ، أو عدم العلم بها .
فكان لهاذين السببن الأثر الكبير في اختلاف طوائف الأئمة بين من يعتبرها أداة يمكن استثمارها في توسيع أوعية الاستنباط وتوليد الأحكام ، ومن يعتبرها أصل الشرور والبدع .وقد كانت النظرة التجديدية لشيخنا تحاول الاجابة على الاشكال الذي تقدمنا به هذه المسألة ، من خلال بيان محامل عدم عمل السلف الصالح ببعض الاعمال ليس لأنها بدع وإنما لجملة من الاسباب ، قام سماحته بإعادة إحيائها لمحاولة ترميم ما تصدع من البنيان ، ولوضع هذه المقاربة لتقريب وجهات نظر المتأولين ، وتنبيههم إلى تلك المحامل التي تستفاد من وجهات النظر المخالفة ، لتكون بحق اختلاف تعاون لا اختلاف تضاد .المحمل الأول : أنه عليه الصلاة والسلام قد يترك شيئاً مباحا فلا يدل تركه إلا على رفع الحرج من أجل أن يعافه ، مثلاً كتركه لأكل الضب فلما سئل عنه قال : إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه[12] .
وقدم إليه طعاماً فيه ثوم فلم يأكل منه قال أبو أيوب _ وهو الذي بعث به إليه _ يارسول الله أحرام هو ؟ قال : لا ، ولكني أكرهه من أجل ريحه " .الترمذي قائلاً : حسن صحيح[13] .
فهذا الوجهة ليعتبر أصل في بابه ، فتحمل تروكه (r) على هذا المحمل ، وإنه لم يبين وجه تركه إلا بعد سؤالهم له ، فبين لهم سبب تركه [14].
المحمل الثاني : أنه قد يترك بعض المستحبات أحياناً خوفاً من أن تفرض على الناس فقالت عائشة : (وما سبح النبي (r) سبحة الضحى قط وإني لأسبحها)[15].
وقد ذكر الشاطبي هذا الحديث وفيه أن عائشة كانت تصلي الضحى ثمان ركعات وتقول : لو نشر لي أبواي ما تركتها)[16]
وذكر مسألة صلاة التراويح جماعة .وزاد الشاطبي تفسيراً آخر لترك النبي (r) لبعض المستحبات وهو الخوف من أن يظن فيها أحد من أمته بعده إذا داوم عليها الوجوب وهو تأويل متمكن[17]
. حسب عبارة الشاطبي قائلاً : إن الصحابة عملوا على هذا الاحتياط في الدين لما فهموا هذا الأصل من الشريعة وكانوا أئمة يقتدى بهم ليبينوا أن تركها غير قادح وإن كانت مطلوبة )[18] .
وذكر مسألة عثمان (t) في تركه القصر في الحج خوف ظن الأعراب أن الصلاة أصبحت ثنائية وكذلك ما رواه حذيفة بن أسيد شهدت أبا بكر وعمر فكانا لا يضحيان مخافة أن يرى الناس أنها واجبة وكان بلال يقول : لا أبالي أن أضحي بكبش أو ديك " إلى آخره [19].
وبالتالي فإن تروك النبي (r) كانت خوفاً بأن تفرض عليهم ، فإذا كان لبعضهم أن يفعلها فإنه (r) لا ينهاه وإنما هي من التخفيف عنهم ، وكلام الشاطبي واضحاً بأن الصحابة فهموا هذا الأصل وبنوا عليه أعمالهم ، وفعل سيدنا عثمان واضح لأن الواقع فرض عليه أن لا يقصر الصلاة خوفاً من يفهم فعله من قبل الأعراب بقصر الصلاة على العموم ، فيذهب الأعراب إلى مياهم ويختلفون مع من يراهم فتصبح مشكلة كبيرة ، فيصر بعضهم على ماراه من فعل أمير المؤمنين ويعمل به ، فينقل عنه وندخل في اشكالية أخرى . فالواقع هو الذي فرض العدول عن الحكم العام لعارض يعرض للمجتهد يجعل تطبيق الحكم العام يعود على أصله بالإبطال .المحمل الثالث : أن السلف قد يفعلون بعض الأفعال التي ليست من قبيل السنن المؤكدة فلا يظهرون أفعالهم فلا يكون تركهم حجة وقد يقولون إنهم لا يريدون إظهار ذلك العمل [20].
فعن أبي حازم قال : كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة فكان يمد يده حتى يبلغ إبطه فقلت له يا أبا هريرة ما هذا الوضوء فقال لي يا بني الفروخ أنتم ها هنا لو علمت أنكم ها هنا ما توضأت هذا الوضوء سمعت خليلي (r) يقول تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء[21].
وبهذا الصدد يذكر ابن القيم في كتابه "الروح" في مسألة قراءة القرآن لإهداء ثوابه للأموات ما نصه : (والقائل أن أحدا من السلف لم يفعل ذلك قائل مالا علم له به فإن هذه شهادة على نفي ما لم يعمله فما يدريه أن السلف كانوا يفعلون ذلك ولا يشهدون من حضرهم عليه بل يكفي اطلاع علام الغيوب على نياتهم ومقاصدهم لا سيما والتلفظ بنية الإهداء لا يشترط[22].
وهذا أصل آخر يمكن أن يعتبر وجها معتبراً في ترجيح الرأي الذي يقول بأن الترك لا ينهض دليلاً للتحريم ، إلا إذا خالف نصاً شرعياً ، وبالتالي فإن الترك قد تكون له محمل الورع ، لكي لا يطلع على سريرتهم إلا من خلقهم ، وهذا الأمر ثابت وقد نقلت شواهد كثيرة على ذلك . المحمل الرابع : كانوا يتركون بعض المباحات خوفاً من اعتقاد الناس أنها من القربات[23]
. كما كان مالك لا يغسل يديه قبل الطعام ، وقال لما قدَّم له أمير المدينة عبد الملك بن صالح الماء ليغسل يديه قبل الطعام : أما أبو عبد الله "يعني نفسه" ى يغسل يديه قبل الطعام " مع أن مالكاً لا يرى بأساً بذلك كما صرح به في موطن آخر ؛ ولكن يخاف من لزوم الناس لذلك وكأنه واجب[24].
وهذا محمل آخر جعل أهل العلم يتركون بعض المباحات خشية على أن يعتقد الناس أنها من القربات الواجبة ، فيرتبون على فاعلها الأجر وعلى تاركها الأثم ، بل الأمر واسع ، وسامح الله من ضيق على الناس واسعاً . المحمل الخامس : قد يترك (r) أمراً لأنه خلاف الأولى فيفعل الأولى ويواظب عليه وربما فعل المتروك في أوقات نادرة لبيان الجواز وعدم الكراهة[25] .
فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قدمت إليه ميمونة (رضي الله عنها) المنديل لينشف به أعضاء طهارته فلم يمسه، وفي رواية : لم يأخذه ، وفي رواية فرده[26] . فعلق إمام الحرمين في نهاية المطلب على ذلك بقوله : ولو نشف "شخص" لم ينته أمر ذلك إلى الكراهة ولكن يقال ترك الأولى ، وقد روي أنه (u) نشف أعضاء وضوئه مرة وكان (u) يواظب على الأولى ويأتي بما هو جائز في الأحاديين فيتبين الأفضل بمواظبته والجائز بنوادر أفعاله[27].
وهذا محمل آخر يمكن أن تحمل عليه التروك ، فما يفعله الناس اليوم من فعل ما ترك مع قيام الداعي لذلك قد يحمل على هذا المعنى ، وعلى أهل العلم أولاً أن لا يتجاوزوا هذه المحامل ويقفزوا إلى مسألة البدعة المضلة إلا بعد أن يستنفد جميع أوجه الحمل ، لكي لا يوصف بالتسرع في توصيف الأحكام ، ولا يكون سبباً في الشقاق بين المسلمين ، ولكي لا يصف المسلميم بالمبتدعين ، عافانا الله تعالى من ذلك .المحمل السادس : أننا نجد أصحاب رسول الله (r) يعملون بعض القربات في مقام الترك ويهجمون على العمل بدون سؤال ، مما يدل على أن تركه (r) ليس حائلاً دون عمل ولا حاجزاً دون مباشرة قول أو فعل ، وهو عليه الصلاة والسلام أحياناً يثني على فعلهم أو يسكت وما لامهم ولا وبخهم مما يدل على سعة الأمر .فمن ذلك : من قال : يامن لا تراه العيون ولا تخالطه الظنون ولا يصفه الواصفون ولا تغيره الحوادث ولا يخشى الدوائر يعلم مثاقيل الجبال ومكاييل البحار وعدد قطر الأمطار ، وعدد ورق الشجر ، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار لا تواري منه سماء سماء ولا أرض أرضاً ، ولا بحر ما في قعره ولا جبل ما في وعره اجعل خير عمري آخره وخير عملي خواتمه وخير أيامي يوم ألقاك فيه فوكل رسول الله (r) بالأعرابي رجلا فقال إذا صلى فائتني به فلما صلى أتاه وقد كان أهدي لرسول الله (r) ذهب من بعض المعادن فلما أتاه الأعرابي وهب له الذهب وقال ممن أنت يا أعرابي قال من بني عامر بن صعصعة يا رسول الله قال هل تدري لم وهبت لك الذهب قال للرحم بيننا وبينك يا رسول الله فقال إن للرحم حقا ولكن وهبت لك الذهب لحسن ثنائك على الله عز و جل[28].
فإن هذا الثناء للباري سبحانه وتعالى لم يكن قد سمعه الأعرابي من النبي (r) فهو قد ابتدعه من غير سبق لأحد فيه ، فلم يكتف النبي (r) بإقرراه على هذا الفعل ، بل أجزل له العطاء لحسن ثنائه على المولى (U) ، وهذا دليل على أنه ليس كل المتروكات هي من البدع ، لكنها تحتاج لإلحاقها بكليات الشريعة المقبولة زيادة في الامعان والتدبر وعدم التسرع في الحكم . قاتل الله العجلة . كذلك المواظب على سورة الاخلاص في صلاته : عن أنس بن مالك : كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء ، وكان كلما استفتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) [ الاخلاص : 1 ] حتى يفرغ منها ، ثم يقرأ سورة أخرى معها ، وكان يصنع ذلك في كل ركعة ، فكلمة أصحابه ، فقالوا : إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بالأخرى ، فإما أن تقرأ بها أما أن ،تدعها وتقرأ بأخرى ، فقال : ما أنا بتاركها ، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت ، وإن كرهتم تركتكم . وكان يرون أنه من أفضلهم ، وكرهوا أن يؤمهم غيره ، فلما أتاهم النبي ( أخبروه الخبر . فقال ( ( يا فلان ، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك ؟ وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة ؟ ) ) قال : إني أحبها قال : ( ( حبك إياها أدخلك الجنة ) )[29] .وهذا محمل آخر لإقامة البرهان على أن المتروكات لا يعني أنها من البدع المضلة ، فهذا الإمام ابتدع طريقة في القراءة في الصلة لم يعمل بها النبي (r) في الصلاة مع قدرته على فعل ذلك ، فهل تركه لفعل هذه الطريقة كانت لأجل أنها ضلال أم طريقة لم يلتزم بها ، ولا ينهى عن فعلها ، وهذا هو الذي حدث ، فقد تركها (r) وأسس لشرعية المتروكات ، فأقر الصحابي على فعله ، بل زاد الأمر بأن بشره بدخوله الجنة ، على حبه لسورة الاخلاص ولطريقته في توظيفها في طريقة القراءة . وهنا إشارة أخرى بأن هذه المسألة وقعت الزيادة فيها في مسألة الصلاة وهي من العبادات ، التي يقع الجانب التعبدي فيها والتوقيف إلى أبعد مستوياته ، فلا يحق لأحد أن يزيد أو ينقص ، فهل هذا النبي (r) نسي أن يوبخه على زيادته في العبادة ، وكأنه أضاف للدين شيئاً بعد اكتماله ، أو أنه شرع للناس مما تركه صاحب الشريعة ، لو كان الأمر كذلك للقي من النبي (r) مالم يلقه اليوم مما يلاقيه الناس من دعاة وسم الناس بالبدع ، فقد كان (r) أكثر الناس غضباً إذا انتهكت حرمات الله ، حتى انه ليحمر وجهه الشريف ، فالأمر لم يكن بهذه الصورة فرأينا كيف عامله وخاطبه وبماذا أكرمه . وكذلك في الحج فقد ثبت أن بعضهم كانوا يلبون تلبية فيها زيادة على تلبيته : ( وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله (r) عليهم شيئاً منه ولزم رسول الله (r) تلبيته )[30] .
قال القاضي عياض : فيه اشارة إلى ما روي من زيادة الناس في التلبية من الثناء والذكر كتلبية عمر لبيك ذا النعماء والفضل ، وزيادة ابن عمر : والخير بيدك والرغباء إليك . واستحب الاقتصار على تلبيته عليه الصلاة والسلام)[31].
وكذلك ما ورد في حديث عبد الله بن عمر عند مسلم غدونا من منى إلى عرفات منا الملبي ومنا المكبر [32]
. وفي رواية أخرى "عنده" منا المكبر ومنا المهلل فلا ينكر عليه ، وكان يكبر المكبر فلا ينكر عليه . كما في صحيح مسلم من حديث أنس[33] .
وفي الرواية الأخرى : فمنا المكبر ومنا المهلل ولا يعيب أحدنا على صاحب[34]ه
. وقال أبو طالب المشكاني : قال أحمد : والتعريف عشية عرفة في الأمصار لا بأس به إنما هو دعاء وذكر الله عز وجل وأول من لعله ابن عباس وعمرو ابن حريث وفعله إبراهيم[35].
ويشير العلامة بن بيّه في ختام هذا المحمل بقوله : (كل ذلك يدل على إفساح المجال للاجتهاد وأن ترك الشارع لا يدل على الحظر ولا على الكراهة ، بل إنه يدل على أن ما فعله وواظب عليه هو الأولى ؛ لكن لا إنكار في فعل ما تركه على ما وصفنا من اندراجه ضمن السياق العام والأصل المتبع والمنهج الفسيح وهو في حالة التلبية تعظيمه سبحانه وتعالى وتكبيره . وإن ذلك محل تقرير من الشارع وثناء أحياناً وتقاس على ذلك كل الأوراد الصالحة السالمة من المخالفات)[36] .
المحمل السابع : إن فعل السلف قد يكون نقل عن بعضهم دون بعض ، فهل يكون ذلك كافياً لنفي صفة البدعة عنه عند من يرى بدعة الترك ، أو لا وعليه فإن تتبع عبد الله بن عمر لآثار النبي عليه وآله الصلاة والسلام للتبرك وعدم إنكار أحد من الصحابة عليه لا يخرج ذلك الفعل عن كونه بدعة عند هؤلاء ، فإن الاستسقاء عند القبر النبوي الشريف بتوجيه الخطاب إلى النبي (r) باستسق لنا "يعتبر بدعة فاحشة أوصلها بعضهم إلى الكفر مع ورود أثر عن فعل شخص له إما صحبة أو تابعي وإبلاغ ذلك لعمر بن الخطاب (t) ولم ينكره ، وهذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبه[37] .
حدثنا أبو معاوية عن الاعمش عن أبي صالح عن مالك الدار ، قال وكان خازن عمر علي الطعام ، قال : أصاب الناس قحط في زمن عمر ، فجا رجل إلى قبر النبي (r) فقال : يا رسول الله ! استسق لامتك فإنهم قد هلكوا ، فأتى الرجل في المنام فقيل له : ائت عمر فأقرئه السلام ، وأخبره أنكم مستقيمون وقل له : عليك الكيس ! عليك الكيس ! فأتى عمر فأخبره فبكى عمر ثم قال : يا رب لا آلو إلا ما عجزت عنه[38].
حسب ما فهمته من أغلب متابعتي لما يطرحه شيخنا بن بيّه (حفظه الله) فإنه لا يقع التوافق على هذه المسائل بحسب التوجه الفكرية ، بحيث هناك جهة متأثر بها ويحاول أن تكون آرائه متقاربة ، بل يسير على منهج ضابط وحاكم على جميع الفروع ، لا يضره من خالف ومن وافق ، فكل يقف عنده على خط واحد ، إضافة إلى ذلك فهذه المسألة وغيرها التي تقع فيها شحنة كبيرة من الخلاف العقدي لم تقع في اطروحته بالقصد الأصلي أو الابتدائي وإنما جاءت بسياق تبعي لتأصيل مفهوم يعمها وأصل يضمها ، وهو بيان أن بدعة الترك لا تستقل بذاتها في التحريم وإنما ينظر للمسئلة قبل وصفها ببدعة أو سنة ، ويتم بعد ذلك عملية الالحاق والربط والايصال .وهذه المسألة وقع فيها خلاف في القرون الماضية ولا يزال الخلاف فيها قائم إلى الساعة ، ولا تزال كل جهة تكفر الأخرى ، بل وصل الحال بإحداها بتكفير الناس واستحلال دمائهم ، وأخيراً تفجير المراقد وعلى رأسهم مرقد نبي الله يونس (u) .
ولكي لا ندخل في موضوعات نوقشت كثيراً ،وأثيرت حولها وحول قائلها الشبهات ، فنكتفي بما ذكرنا ، وبما يستحق أن يذكر لتوضيح هذا المحمل ، ولكي نبتعد على أن نكون طرفاً في أي الجهتين فنفقد صفة الوسيط ، فنلتزم بما إلتزم به شيخنا من تأييد لهذا المحمل السابع لإثبات أوجه الحمل في قضية الترك .ونقول : إن مسألة الترك كانت في غالب أمرها ترك مقصود متعمد من الشارع ، فكما أن الأحكام الشرعية تستنبط من المنطوق ، فإن الشارع أناط بالمجتهدين دور استنطاق النصوص الجزئية ، والبناء على النصوص الكلية لإلحاق فروع لا تناقض أصلاً ، وأن عارضت فرعاً .ويصف شيخنا هذه المسألة وعمله فيها وما يصاحبها من سوء الاختلاف بقوله : (اعلم أن كلما ذكرناه _ في هذه المسئلة التي جرت خلافاً تجاوز حدود آداب الاختلاف بين طوائف من أهل السنة دعواها واحدة ومصادرها واحدة هي الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة ويرتبطون بوشائج المشيخة فقلَّ أن تجد منهم من لم يأخذ عن الآخر _ إنما هي مقدمات تحتاج إلى بحث منصف للوصول إلى حد أدنى من الاتفاق . وهذا ما توخيناه ولله الحمد)[39] .
وأخيرا يشير شيخنا إلى ضوابط التعامل مع المتروكات ، استفاد بعضها من الامام ابن عرفة وأضاف إليها ، وهي
: أولاً : أن لا يعطى حكماً شرعياً كالوجوب أو الندب إذا لم يكن مشمولاً بدليل كالأدلة المتعلقة بالذكر الدالة على استحبابه في كل الأحوال فلا يجوز لمن اختار تلك الأذكار أن يقول إنها واجبة مثلاً إلا إذا كانت بنذر .
الضابط الثاني : أن لا يحكم لها بثواب معين فإن من يحدد الثواب ومقاديره هو الشارع والدليل على ذلك أن الصحابي الذي قال : اللهم ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه . "الحديث" لولا أن الشارع أخبر بعظم ثوابها ما كان لأحد أن يحدد لها ثواباً معيناً .إلا أنه يدل من جهة أخرى على أنه لا حرج على من انشأ محامد في إطار ما علم من صفات الله تعالى وأسمائه ، وأن الأمر ليس فيه توقيف فهو عليه الصلاة والسلام لم يلمه على ذلك بل أقره وأثنى عليه .
الضابط الثالث : أن لا يشمل المتروك دليل نهي بالتحريم أو الكراهة .تلك هي الضوابط التي سبق عن ابن عرفة شيخ المالكية بعضها فمن ترك شيئاً احتياطاً فلا لوم عليه ، ومن فعل القربات بضوابطها استكثاراً من الخير فهو على خير ولا ينبغي أن ينكر البعض على البعض في مواطن الاجتهاد بله التشنيع والتبديع " وإنما الأعمال بالنيات" .وفي المسألة مجال فسيح وميدان واسع ولولا خوف الإطالة والخروج عن الغرض لذكرنا من مسائل الصحابة والسلف ما يدل على سعة الأمر فعلاً وتركاً وإعمالاً واهمالاً . والله سبحانه وتعالى أعلم[40] .
المسألة الثالثة : دور مسلك الترك في استنباط المقاصد
إن العلامة بن بيّه لا يعتبر (مسألة الترك) مرادفة لمسألة (المسكوت عنه) ، بل يعتبرها مسلكاً خامساً تضاف إلى المسالك التي ذكرها الإمام الشاطبي ، ويبين وجه نظره بقوله : (ويعنُّ لي أنَّ المقاصد تُعرف من جهة أخرى يمكن أن تعتبرَ خامسة بالنسبة لجهات الشاطبي الأربع ، وهذه الجهة هي جهة الترك . وليس الترك مرادفاً للسكوت)[41] .
ويبين مفهوم الترك الذي يمكن استثماره ليعتبر مسلكاً خامساً بقوله : (فالتركُ هو تركٌ متعمَّد من الشارع ، كتركه السجود في مواضع السجود ، وتركه صلاة التراويح ، الذي يُعرف منه قصدُ الشارع بيان مرتبة هذه العبادات ، وأنها لا ترقى إلى الوجوب حتى لا تفرض ولا يعتقد فيها الفرض)[42]
وقد تأصل هذا المسلك ليكون أصلاً برأسه من خلال التطبيقات العملية التي سبق ذكرها ، من أفعاله النبي (r) وأصحابه (رضوان الله عليهم أجمعين) ، ويمكن إرجاع هذا المسألة لأمرين : أولاً : التمايز المفهومي ، فقد كانت تلك التطبيقات العملية التي وردت عن صاحب الشريعة وعن صحابته إلى تمييز هذا المفهوم ليكون أصلاً يمكن استثماره لاستنباط المقاصد . ثانياً : التعاضد التطبيقي : فقد ساهمت تلك التطبيقات العملية ، لبلوغ ثلاثة غايات : 1. البيان : فقد أوضحت تلك الفروع العملية المفهوم ، بما لا يدعو للشك .2. البرهان : فقد مثلت تلك التطبيقات قواعد برهانية يمكن البرهنة عليها وإقامة الحجة .3. العنوان : فقد قام المفهوم بجانب التمايز عن مفهوم المسكوت عنه ، ليتميز مسلك الترك بمفهوم مستقل في العنوان والمجال . ويتمثل الجانب التجديدي في اطروحة شيخنا بن بيّه ، في توضيح المفهوم ، وتقويم البرهان ، وتأصيل العنوان ، من خلال جولة طويلة من البحث الاستقرائي ، للوصول إلى سبعة محامل يمكن من خلالها رد الأمور المتنازعة إليها ، لتأسيس مشروعية مسلك "الترك" ليكون أصلاً يعتمد عليه في استنباط المقاصد واستثمارها في توليد الأحكام وتوسيع أوعية الاستنباط .
[1] إجابة السائل شرح بغية الآمل ، (82) .[2] صناعة الفتوى في فقه الأقليات ، (94 ، 95) .[3] مشاهد من المقاصد ، (115) .[4] سحنون : المدونة 1/158 . [5] أبو داود : السنن : كتاب الجنائز : باب القراءة على الميت : 3/489 .[6] سحنون : المدونة 1/158 .[7] هو أبو طاهر إبراهيم التنوخي : مخلوف : شجرة النور الزكية ص 126 .[8] هو أبو عمرو أشهب بن عبد العزيز : ابن النديم : الفهرست : 281 ، عياض : المدارك : 2/447 .[9] فتاوى الشيخ الامام :ص 89 .[10] فتاوى الشيخ الامام : ص 93 ،94 .[11] ولكي لا نطيل من ذكر ردودات الشيخ ابن باديس ، التي جاءت عرضاً من طريقين الأولى : حيث أيد فتوى الإمام الشاطبي ، والثانية : إذ كان له رأي مخالف ، وكانت لآرائه صدى في ذلك ، ولذلك سأنقل بعض نصوص نقده لشيخه : حيث يقول : ( نطق ( شيخ الاسلام )ـ والحمد لله ـ بعد سكوت مألوف منذ السنين الطوال (! ؟) ، وإن كان أتى بما لا يرضي الله ورسوله ، والحق ودليله ...إننا لنشكر لشيخ الاسلام المالكي الهبوط إلى الميدان ، وإن كان هبط إليه هبوط المغيظ المحنق ، الذي أنساه الغيظ والحنق (! ؟) ما يناسب مقامه من التحري والاتزان ، فتعثّر في أذيال العجب ( ! ؟ ) ... فهل ابن عاشور هذا الملقب بشيخ الاسلام ، هو ابن عاشور أستاذي الذي أعرف ؟ لا ذلك رجل مضى ، قضى عليه القضاء ، وأقبرته المشيخة ، وقد أديت له حقه بما ذكرته به ...) ، الطالبي : د ، عمار : آثار ابن باديس ، ط (3) ، الشركة الجزائرية ، الحاج عبد القادر بو داود ، 24 ، شارع باب عزون ، الجزائر ( 1997م) ، 3/73 ،75.[URL="http://feqhweb.com/vb/%2
 
إنضم
15 أبريل 2019
المشاركات
7
الإقامة
ليبيا
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
ليبيا
المدينة
طرابلس
المذهب الفقهي
المالكي
رد: الاختلاف في مسألة الترك نظرات في اطروحة العلامة المجدد عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه (حفظه الله تبارك وتعالى )

بحث جدير بالقراءة والنشر لأهميته
 
أعلى