- إنضم
- 23 أكتوبر 2007
- المشاركات
- 8,140
- الجنس
- ذكر
- الكنية
- أبو أسامة
- التخصص
- فقـــه
- الدولة
- السعودية
- المدينة
- مكة المكرمة
- المذهب الفقهي
- الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
مسألة: الحق في العفو للورثة أم للميت قبل موته؟
درست هذه المسألة في رسالتي للدكتوراه؛ ومكثت يعييني البحث في تجاذب المسألة بين مآخذها أياماً أأجلها شهراً تلو شهر!
فكان الإشكال في مأخذ القولين بين الاستحسان والقياس!
وقد أوردتها في الترجيح على ما ستراه.
مسألة: الحق في العفو للورثة أم للميت قبل موته؟
— تحرير محل الخلاف:
لا خلاف بين أهل العلم في أَنَّ أولى الناس بدم المقتول هم أولياء الدم، ولكن ما الحكم لو عفى المقتول قبل موته عن دمه وعن قاتله؟.
قال ابن بطال: الأصل المجمع عليه أن عفو الولي لا يكون إلا بعد الموت؛ إذ قد يمكن أن يبرأ فلا يموت، وأما عفو القتيل فإنه قبل الموت[SUP]([SUP][1][/SUP][/SUP]).
— الموافقون على الإجماع:
وعلى هذا الإجماع جمهور العلماء من الحنفية[SUP]([2])[/SUP]، والمالكية[SUP]([SUP][3][/SUP][/SUP])، والشافعية[SUP]([SUP][4][/SUP][/SUP])، والحنابلة[SUP]([SUP][5][/SUP][/SUP])، والظاهرية[SUP]([6])[/SUP]، وهو قول الحسن البصري، وطاووس[SUP]([7])[/SUP]، وقتادة[SUP]([8])[/SUP]، والأوزاعي[SUP]([9])[/SUP].
— المخالفون للإجماع:
وخالف بعض أهل العلم فقالوا: عفوه باطل؛ لأن الله عزَّ وجلَّ جعل السلطان لوليه، فله العفو والقصاص إن شاء أو الدية، ولا يجوز ذلك إلا بموته، وهو قول الشافعي في القديم بالعراق، وبه قال أبو ثور[SUP]([10])[/SUP]، وداوود الظاهري[SUP]([11])[/SUP]، وهو اختيار الإمام ابن الوزير[SUP]([SUP][12][/SUP][/SUP]).
— أدلة الإجماع:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة:45].
وجه الدلالة: أَنَّ من تصدَّق بما وجب له من قَود أو قصاصٍ فعفا عنه فأجْره على الله، وعفوه عن الجاني كفّارة لذنب الجاني، كما القِصاص منه كفَّارة له[SUP]([SUP][13][/SUP][/SUP]).
ونوقش هذا: بأن قول الله تعالى: (فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) [المائدة:45]، فإِنَّما قال تعالى ذلك عقب قوله تعالى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) [المائدة:45]، وهذا كلُّه كلامٌ مبتدأ بعد تمام قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة:45]، فإِنَّما جاء نص الله تعالى على الصدقة بالجروح بالأعضاء[SUP]([SUP][14][/SUP][/SUP]).
فالمراد بقوله: (تَصَدَّقَ بِهِ) المجروح وولي القتيل معاً[SUP]([SUP][15][/SUP][/SUP])، وهو ما اختاره الإمام ابن جرير الطبري، فقال: (وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عني به: (فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) المجروح, فلأَنْ تكون الهاء في قوله: (لَهُ) عائدة على من أولى من أن تكون مِنْ ذِكْرِ من لم يجر له ذكرٌ إلا بالمعنى دون التصريح وأحرى, إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدق عليه في سائر الصدقات غير هذه, فالواجب أن يكون سبيل هذه سبيل غيرها من الصدقات)[SUP]([SUP][16][/SUP][/SUP]).
وأجيب عن هذا: بأَنَّه مخالفٌ لما انعقد عليه إجماع أهل العلم، قال ابن عبد البر: (ولم يختلف العلماء أَنَّ المتصدِّق ها هنا هو المقتول يتصدَّق بدمه على قاتله؛ أي: يعفو عنه)[SUP]([17])[/SUP].
الدليل الثاني: قول الله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى:40].
الدليل الثالث: قول الله تعالى: (وَإِن عاقَبتُم فَعاقِبوا بِمِثلِ ما عوقِبتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ لِلصّابِرينَ) [النحل:126].
وجه الدلالة من الآيتين[SUP]([SUP][18][/SUP][/SUP]): أَنَّ هاتين الآيتين تفيد أَنَّ للمجنيِّ عليه أن يعفو عن الجاني، وإذا ثبت ذلك له وجب أن يكون للعفو أثره تبعاً، وأثره هو سقوط القصاص، ولا شيء لولي الدم بعد ذلك.
الدليل الرابع: عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِدَمٍ فَمَا دُونَهُ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إلَى يَوْمِ تَصَدَّقَ بِهِ»[SUP]([19])[/SUP].
نوقش هذا: بأَنَّه حديثٌ لا يصحّ، فسقط به الاستدلال[SUP]([SUP][20][/SUP][/SUP]).
الدليل الخامس: عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ دَعَا قَوْمَهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ فَمَاتَ فَعَفَا عَنْهُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجَازَ عَفْوَهُ، وَقَالَ: «هُوَ كَصَاحِبِ يَاسِينَ»[SUP]([21])[/SUP].
الدليل السادس: عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ قَوْمٍ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ وَبَيْنَ حَيٍّ مِنْ الْأَحْيَاءِ قِتَالٌ، وَرَمْيٌ بِالْحِجَارَةِ، وَضَرْبٌ بِالنِّعَالِ، فَأُصِيبَ غُلَامٌ مِنْ آلِ عُمَرَ، فَأَتَى عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ خُرُوجِ نَفْسِهِ قَالَ: إنِّي قَدْ عَفَوْت رَجَاءَ الثَّوَابِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ قَوْمِي، فَأَجَازَهُ ابْنُ عُمَرَ[SUP]([SUP][22][/SUP][/SUP]).
نوقش: بأَنَّه حديثٌ منقطع؛ لأَنَّ أَبا بكر بن حفص لم يدرك ابن عمر رضي الله عنهما[SUP]([SUP][23][/SUP][/SUP]).
الدليل السابع: بعض الآثار الواردة في ذلك، منها:
الدليل الثامن: من المعقول: وهي خمسة أدلة:
أحدها: أن الجرح متى اتصلت به السراية تبين أنه وقع قتلاً من حين وجوده، فكان عفواً عن حق ثابت، فيصح، ولهذا لو كان الجرح خطأً، فكفَّر بعد الجرح قبل الموت ثم مات جاز التكفير[SUP]([SUP][27][/SUP][/SUP]).
ثانيها: أَنَّ القتل إن لم يوجد للحال فقد وجد سبب وجوده، وهو الجرح المفضي إلى فوات الحياة، والسبب المفضي إلى الشيء يقام مقام ذلك الشيء في أصول الشرع؛ كالنوم مع الحدث، والنكاح مع الوطء، وغير ذلك[SUP]([SUP][28][/SUP][/SUP]).
ثالثها: أَنَّه إذا وجد سبب وجود القتل كان العفو تعجيل الحكم بعد وجود سببه، وأَنَّه جائز؛ كالتكفير بعد الجرح قبل الموت في قتل الخطأ[SUP]([29])[/SUP].
رابعها: أَنَّ الولي لا يقوم إلا بما كان للمقتول القيام به، ولولا استحقاق المقتول بدم نفسه ما كان لوليِّه القيام فيه[SUP]([30])[/SUP]، وأَنَّ المقتول هو المجني عليه؛ فهو أولى بنفسه[SUP]([SUP][31][/SUP][/SUP]).
خامسها: أَنَّ الشَّيءَ الذي جعل للولي إِنَّما هو حقُّ المقتول فناب فيه منابه وأقيم مقامه؛ فكان المقتول أحقَّ بالخيار من الذي أقيم مقامه بعد موته؛ لأن من بعده يكون نائباً عنه في المطالبة بدمه أو ديته، فكيف يقبل من نائبه ولا يقبل منه؟![SUP]([SUP][32][/SUP][/SUP]).
— أدلة المخالفين للإجماع:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلّا بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظلومًا فَقَد جَعَلنا لِوَلِيِّهِ سُلطانًا فَلا يُسرِف فِي القَتلِ إِنَّهُ كانَ مَنصورًا) [الإسراء:33].
وجه الدلالة: أَنَّه صحَّ بنص كلام الله تعالى وحكمه الذي لا يردُّ أَنَّه جعل لولي المقتول سلطانًا، وجعل إليه القود، وحرم عليه أن يسرف، فمن الباطل المتيقن أن يجوز للمقتول حكمٌ في إبطال السُّلطان الذي جعله الله تعالى لوليه، ومن الباطل البحت إنفاذ حكم المقتول في خلاف أمر الله تعالى؛ وهذا هو الحيف والإثم من الوصية، فحرامٌ على كلِّ أحدٍ أن ينفذ حكم المقتول في إبطال تسليم الدية إلى أهله؛ فهذا بيان لا إشكال فيه[SUP]([SUP][33][/SUP][/SUP]).
نوقش: بأَنَّ هذا صحيحٌ في عموم القتل الذي لم يعف فيه المجني عليه؛ أَمَا وقد عفى المجني عن الجاني، وصرَّح عن عفوه حتَّى في حال سراية الجناية إلى القتل فهذه حالٌ غير التي ذكرتم؛ فهو أحقُّ بالعفو.
الدليل الثاني: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«لَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ هُزِمَ المُشْرِكُونَ، فَصَاحَ إِبْلِيسُ: أَيْ عِبَادَ اللهِ أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولاَهُمْ فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ، فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ اليَمَانِ، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ اللهِ أَبِي أَبِي، فَوَ اللهِ مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ: حُذَيْفَةُ غَفَرَ اللهُ لَكُمْ»[SUP]([SUP][34][/SUP][/SUP]).
وجه الدلالة: أَنَّ حذيفة عفا عن دم والده، ولم ينتظر عفو والده اليمان، فدلَّ على أَنَّ الحقَّ في العفو لأولياء الدم، لا للقتيل.
ونوقش: بأَنَّه قد يكون أدرك والده وقد قتل، وليس به رمقٌ ليعفو، فانتقل الحقُّ لولي الدِّم، وهو ولده.
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يُقِيدَ»[SUP]([SUP][35][/SUP][/SUP]).
وجه الدلالة: أَنَّ الله تعالى جعل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لأهل المقتول الخيار في القود، أو الدية، أو المفاداة، فنشهد بشهادة الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أَنَّه لا يحل للمقتول أن يبطل خياراً جعله الله ورسوله عليه الصلاة والسلام لأهله بعد موته، وأَنَّه لا يحلُّ لأحدٍ إنفاذ حكم المقتول في ذلك، وأَنَّ هذا خطأ متيقَّن عند الله تعالى[SUP]([SUP][36][/SUP][/SUP]).
الدليل الرابع: من المعقول: أَنَّ الفعل لا يصير قتلًا إلا بفوات الحياة عن المحلِّ، ولم يوجد، فالعفو لم يصادف محلَّه؛ فلم يصحّ[SUP]([SUP][37][/SUP][/SUP]).
— الراجـــــــــــح:
ما يترجح للباحث -والله أعلم- أَنَّ القول في المسألة قول الجمهور، وهو ما عليه إجماع أهل العلم؛ لقوة أدلتهم، واستنادها على الإجماع؛ ولأَنَّه إسقاط لحقِّه، فصحَّ؛ كما أَنَّه لو عبَّر عن عفوه بلفظ: (عفوت عن الجناية وما يحدث منها) لصحَّ العفو؛ لأَنَّه إسقاطٌ للحقِّ بعد انعقاد سببه[SUP]([SUP][38][/SUP][/SUP]). قال ابن القيم -رحمه الله-: (لو عفا عن القصاص قبل الجرح؛ فلغو، وبعد الموت عفو الوارث معتبر، وبينهما ينفذ أيضاً)[SUP]([SUP][39][/SUP][/SUP]).
ومأخذ القولين معتبرٌ[SUP]([SUP][40][/SUP][/SUP])؛ وهما: القياس والاستحسان؛ فالقياس يقضي بألا يصحَّ عفو المجنيِّ عليه، ولكن الاستحسان يقضي بصحته، فمن جعل الحقَّ في العفو للميت قبل موته فمأخذه الاستحسان؛ ومن جعل الحقَّ في العفو للورثة ولو عفى الميت قبل موته فمأخذه القياس.
فأَمَّا وجه القياس[SUP]([SUP][41][/SUP][/SUP]): فإِنَّ عفو المجنيِّ عليه عن القتل يستدعي وجود القتل، والفعل لا يصير قتلا إلا بفوات الحياة عن المحلِّ ولم يوجد، فالعفو حينئذٍ لم يصادف محله بعد!
وأَمَّا وجه الاستحسان[SUP]([SUP][42][/SUP][/SUP]): فإِنَّ القتل ولو لم يوجد للحال فقد وجد سبب وجوده: وهو الجرح؛ المفضي إلى فوات الحياة؛ والسبب المفضي إلى الشيءِ يقام مقام ذلك الشيء في أصول الشرع.
وإِنَّما رجَّحت تقديم القول بالاستحسان على القياس لثلاث اعتبارات ظهرت لي:
الاعتبار الأول: حكاية الإجماع وانعقاده على خلاف القياس.
الاعتبار الثاني: جرياً على أصول الشريعة في حبِّ العفو والنَّدب إلى الصفح.
الاعتبار الثالث: أَنَّ الجناية إن سرت للنفس بعد عفو المجنيِّ عليه فلا قصاص في نفس ولا طرف؛ لأَنَّ السراية تولَّدت من معفوٍّ عنه؛ فصارت شبهةً دافعةً للقصاص، والشُّبهة أبلغ في الدفع بعفو المقتول -قبل موته- عن قاتله من باب أولى[SUP]([SUP][43][/SUP][/SUP]).
([1]) يُنظر: شرح صحيح البخارى لابن بطال (8/512).
([2]) يُنظر: المبسوط، للسرخسي (26/157).
([3]) يُنظر: التهذيب في اختصار المدونة (4/604).
([4]) يُنظر: الأم للشافعي (6/16).
([5]) يُنظر: المغني (8/286).
([6]) يُنظر: المحلى (11/133).
([7]) هو: أبو عبد الرحمن، طاووس بن كيسان، الفارسي، اليمني، شيوخه: سمع من زيد بن ثابت، وعائشة، وأبي هريرة، وزيد بن أرقم، وابن عباس، وجابر، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، تلاميذه: روى عنه ابنه عبد الله، وعطاء، ومجاهد، وابن شهاب، وإبراهيم بن ميسرة، وأبو الزبير المكي، وسليمان التيمي، وعمرو بن دينار، وفاته: توفي سنة 106هـ. [يُنظر ترجمته في: طبقات ابن سعد (6/66)، وطبقات خليفة (ص516)، والثقات لابن حبان (4/391)، وسير أعلام النبلاء (5/38)].
([8]) هو: أبو الخطاب، قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز، السدوسي، وقيل: قتادة بن دعامة بن عكابة، شيوخه: روى عن عبد الله بن سرجس، وأنس بن مالك، وعمران بن حصين، وسفينة، وأبي هريرة مرسلًا، وسعيد بن المسيب، وأبي العالية، وأبي عثمان النهدي، وعكرمة مولى ابن عباس، وأبي المليح، والحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، ومحمد بن سيرين، وعامر الشعبي، تلاميذه: روى عنه أيوب السختياني، وابن أبي عروبة، ومعمر بن راشد، والأوزاعي، وشعبة بن الحجاج، وجرير بن حازم، وحماد بن سلمة، والصعب بن حزن، وفاته: توفي سنة 117هـ. [يُنظر ترجمته في: طبقات ابن خياط (ص213)، وطبقات الفقهاء، للشيرازي (ص89)، وسير أعلام النبلاء (5/269)، والأنساب، للسمعاني (3/235)].
([9]) يُنظر: الاستذكار (8/ 178).
والأوزاعي: هو: أبو عمرو، عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد، الأوزاعي، شيوخه: عطاء بن أبي رباح، وأبو جعفر الباقر، وعمرو بن شعيب، ومكحول، وقتادة، والقاسم بن مخيمرة، وربيعة القصير، وبلال بن سعد، والزهري، وعبدة بن أبي لبابة، ويحيى بن أبي كثير، وحسان بن عطية، وعبد الرحمن بن القاسم، وعطاء الخراساني، وعكرمة بن خالد، وعلقمة بن مرثد، ومحمد بن سيرين، وابن المنكدر، وميمون بن مهران، ونافع مولى ابن عمر، تلاميذه: أخذ عنه أبو إسحاق الفزاري، وعبد الله بن المبارك، وهقل بن زياد، والوليد بن مسلم، والوليد بن مزيد، وعقبة بن علقمة، ومحمد بن يوسف الفريابي، وفاته: توفي سنة 157هـ. [يُنظر ترجمته في: طبقات الفقهاء، للشيرازي (ص76)، والطبقات الكبرى، لابن سعد (7/488)، وطبقات خليفة (ص586)، وسير أعلام النبلاء (7/107)].
([10]) هو: أبو ثور، الكلبي، البغدادي، الفقيه، ويكنى أيضاً أبا عبد الله، شيوخه: سمع من: سفيان بن عيينة، وأبي معاوية الضرير، ووكيع بن الجراح، وابن علية، ويزيد بن هارون، ومعاذ بن معاذ العنبري، وروح بن عبادة، تلاميذه: حدث عنه أبو داوود، وابن ماجه، وقاسم بن زكريا المطرز، وأحمد بن الحسن الصوفي، وأبو القاسم البغوي، ومحمد بن إسحاق السراج، وفاته: توفي سنة 240هـ. [يُنظر: سير أعلام النبلاء (12/72)].
([11]) يُنظر: الاستذكار (8/ 178).
([12]) يُنظر: القواعد لابن الوزير (ص223).
([13]) يُنظر: تفسير الطبري (8/475).
([14]) يُنظر: المحلى بالآثار (11/135).
([15]) يُنظر: تفسير الطبري (8/472).
([16]) تفسير الطبري (8/479).
([17]) الاستذكار (8/179).
([18]) يُنظر: الجنايات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون (ص165-168).
([19]) ضعيفٌ، أخرجه أبو يعلى في مسنده (12/284)، ح(6869)، وسعيد بن منصور في السنن من التفسير (4/1495)، ح(762)، وضعَّفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (2/69).
([20]) يُنظر: المحلى بالآثار (11/137).
([21]) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (14/214)، ح(28177).
([22]) أخرجه ابن حزم في المحلى، بسنده إلى ابن أبي شيبة (11/133)، ولم أقف عليه في المسند والمصنف وباقي كتب ابن أبي شيبة.
([23]) يُنظر: المحلى بالآثار (11/138).
([24]) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (14/214)، ح(28176).
([25]) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (14/214)، ح(28175).
([26]) ذكره ابن عبد البر بسنده إلى الحسن في الاستذكار (8/180).
([27]) يُنظر: بدائع الصنائع (7/248).
([28]) يُنظر: بدائع الصنائع (7/248).
([29]) يُنظر: بدائع الصنائع (7/248).
([30]) يُنظر: الاستذكار (8/178).
([31]) يُنظر: المحلى بالآثار (11/138).
([32]) يُنظر: بداية المجتهد (2/403).
([33]) يُنظر: المحلى بالآثار (11/138، 139).
([34]) أخرجه البخاري في صحيحه (4/125)، في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، ح(3290).
([35]) متفقٌ عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (3/126)، في كتاب اللقطة، باب كيف تعرف لقطة أهل مكة، ح(2434)، ومسلم في صحيحه (4/110)، في كتاب الحج، باب تحريم مكة، ح (3284).
([36]) يُنظر: المحلى بالآثار (11/139).
([37]) يُنظر: بدائع الصنائع (7/248).
([38]) يُنظر: كشاف القناع (5/546).
([39]) يُنظر: بدائع الفوائد (1/4).
([40]) يُنظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (30 /177-178)، الجنايات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون (ص165-168).
([41]) يُنظر: درر الحكام شرح غرر الأحكام (2/95)، بدائع الصنائع (7/248-249).
([42]) يُنظر: درر الحكام شرح غرر الأحكام (2/95)، بدائع الصنائع (7/248-249).
([43]) يُنظر: مغني المحتاج (4/50-51)، شرح المحلى على منهاج الطالبين (4/127).
درست هذه المسألة في رسالتي للدكتوراه؛ ومكثت يعييني البحث في تجاذب المسألة بين مآخذها أياماً أأجلها شهراً تلو شهر!
فكان الإشكال في مأخذ القولين بين الاستحسان والقياس!
وقد أوردتها في الترجيح على ما ستراه.
مسألة: الحق في العفو للورثة أم للميت قبل موته؟
— تحرير محل الخلاف:
لا خلاف بين أهل العلم في أَنَّ أولى الناس بدم المقتول هم أولياء الدم، ولكن ما الحكم لو عفى المقتول قبل موته عن دمه وعن قاتله؟.
قال ابن بطال: الأصل المجمع عليه أن عفو الولي لا يكون إلا بعد الموت؛ إذ قد يمكن أن يبرأ فلا يموت، وأما عفو القتيل فإنه قبل الموت[SUP]([SUP][1][/SUP][/SUP]).
— الموافقون على الإجماع:
وعلى هذا الإجماع جمهور العلماء من الحنفية[SUP]([2])[/SUP]، والمالكية[SUP]([SUP][3][/SUP][/SUP])، والشافعية[SUP]([SUP][4][/SUP][/SUP])، والحنابلة[SUP]([SUP][5][/SUP][/SUP])، والظاهرية[SUP]([6])[/SUP]، وهو قول الحسن البصري، وطاووس[SUP]([7])[/SUP]، وقتادة[SUP]([8])[/SUP]، والأوزاعي[SUP]([9])[/SUP].
— المخالفون للإجماع:
وخالف بعض أهل العلم فقالوا: عفوه باطل؛ لأن الله عزَّ وجلَّ جعل السلطان لوليه، فله العفو والقصاص إن شاء أو الدية، ولا يجوز ذلك إلا بموته، وهو قول الشافعي في القديم بالعراق، وبه قال أبو ثور[SUP]([10])[/SUP]، وداوود الظاهري[SUP]([11])[/SUP]، وهو اختيار الإمام ابن الوزير[SUP]([SUP][12][/SUP][/SUP]).
— أدلة الإجماع:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة:45].
وجه الدلالة: أَنَّ من تصدَّق بما وجب له من قَود أو قصاصٍ فعفا عنه فأجْره على الله، وعفوه عن الجاني كفّارة لذنب الجاني، كما القِصاص منه كفَّارة له[SUP]([SUP][13][/SUP][/SUP]).
ونوقش هذا: بأن قول الله تعالى: (فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) [المائدة:45]، فإِنَّما قال تعالى ذلك عقب قوله تعالى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) [المائدة:45]، وهذا كلُّه كلامٌ مبتدأ بعد تمام قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة:45]، فإِنَّما جاء نص الله تعالى على الصدقة بالجروح بالأعضاء[SUP]([SUP][14][/SUP][/SUP]).
فالمراد بقوله: (تَصَدَّقَ بِهِ) المجروح وولي القتيل معاً[SUP]([SUP][15][/SUP][/SUP])، وهو ما اختاره الإمام ابن جرير الطبري، فقال: (وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عني به: (فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) المجروح, فلأَنْ تكون الهاء في قوله: (لَهُ) عائدة على من أولى من أن تكون مِنْ ذِكْرِ من لم يجر له ذكرٌ إلا بالمعنى دون التصريح وأحرى, إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدق عليه في سائر الصدقات غير هذه, فالواجب أن يكون سبيل هذه سبيل غيرها من الصدقات)[SUP]([SUP][16][/SUP][/SUP]).
وأجيب عن هذا: بأَنَّه مخالفٌ لما انعقد عليه إجماع أهل العلم، قال ابن عبد البر: (ولم يختلف العلماء أَنَّ المتصدِّق ها هنا هو المقتول يتصدَّق بدمه على قاتله؛ أي: يعفو عنه)[SUP]([17])[/SUP].
الدليل الثاني: قول الله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى:40].
الدليل الثالث: قول الله تعالى: (وَإِن عاقَبتُم فَعاقِبوا بِمِثلِ ما عوقِبتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ لِلصّابِرينَ) [النحل:126].
وجه الدلالة من الآيتين[SUP]([SUP][18][/SUP][/SUP]): أَنَّ هاتين الآيتين تفيد أَنَّ للمجنيِّ عليه أن يعفو عن الجاني، وإذا ثبت ذلك له وجب أن يكون للعفو أثره تبعاً، وأثره هو سقوط القصاص، ولا شيء لولي الدم بعد ذلك.
الدليل الرابع: عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِدَمٍ فَمَا دُونَهُ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إلَى يَوْمِ تَصَدَّقَ بِهِ»[SUP]([19])[/SUP].
نوقش هذا: بأَنَّه حديثٌ لا يصحّ، فسقط به الاستدلال[SUP]([SUP][20][/SUP][/SUP]).
الدليل الخامس: عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ دَعَا قَوْمَهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ فَمَاتَ فَعَفَا عَنْهُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجَازَ عَفْوَهُ، وَقَالَ: «هُوَ كَصَاحِبِ يَاسِينَ»[SUP]([21])[/SUP].
الدليل السادس: عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ قَوْمٍ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ وَبَيْنَ حَيٍّ مِنْ الْأَحْيَاءِ قِتَالٌ، وَرَمْيٌ بِالْحِجَارَةِ، وَضَرْبٌ بِالنِّعَالِ، فَأُصِيبَ غُلَامٌ مِنْ آلِ عُمَرَ، فَأَتَى عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ خُرُوجِ نَفْسِهِ قَالَ: إنِّي قَدْ عَفَوْت رَجَاءَ الثَّوَابِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ قَوْمِي، فَأَجَازَهُ ابْنُ عُمَرَ[SUP]([SUP][22][/SUP][/SUP]).
نوقش: بأَنَّه حديثٌ منقطع؛ لأَنَّ أَبا بكر بن حفص لم يدرك ابن عمر رضي الله عنهما[SUP]([SUP][23][/SUP][/SUP]).
الدليل السابع: بعض الآثار الواردة في ذلك، منها:
- عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: إذَا عَفَا الرَّجُلُ عَنْ قَاتِلِهِ فِي الْعَمْدِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ فَهُوَ جَائِزٌ[SUP]([SUP][24][/SUP][/SUP]).
- وَعَنْ ابْنِ طاووس قَالَ: قُلْتُ لأَبِي: الرَّجُلُ يُقْتَلُ فَيَعْفُو عَنْ دَمِهِ، قَالَ: جَائِزٌ، قَالَ: قُلْتُ: خَطَأً، أَمْ عَمْدًا؟ قَالَ: نَعَمْ[SUP]([SUP][25][/SUP][/SUP]).
- وَعَنِ الْحَسَنِ فِيمَنْ يُضْرَبُ بِالسَّيْفِ عَمْدًا ثُمَّ يَعْفُو عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ؟ قَالَ: هُوَ جَائِزٌ، وَلَيْسَ فِي الثُّلُثِ[SUP]([SUP][26][/SUP][/SUP]).
الدليل الثامن: من المعقول: وهي خمسة أدلة:
أحدها: أن الجرح متى اتصلت به السراية تبين أنه وقع قتلاً من حين وجوده، فكان عفواً عن حق ثابت، فيصح، ولهذا لو كان الجرح خطأً، فكفَّر بعد الجرح قبل الموت ثم مات جاز التكفير[SUP]([SUP][27][/SUP][/SUP]).
ثانيها: أَنَّ القتل إن لم يوجد للحال فقد وجد سبب وجوده، وهو الجرح المفضي إلى فوات الحياة، والسبب المفضي إلى الشيء يقام مقام ذلك الشيء في أصول الشرع؛ كالنوم مع الحدث، والنكاح مع الوطء، وغير ذلك[SUP]([SUP][28][/SUP][/SUP]).
ثالثها: أَنَّه إذا وجد سبب وجود القتل كان العفو تعجيل الحكم بعد وجود سببه، وأَنَّه جائز؛ كالتكفير بعد الجرح قبل الموت في قتل الخطأ[SUP]([29])[/SUP].
رابعها: أَنَّ الولي لا يقوم إلا بما كان للمقتول القيام به، ولولا استحقاق المقتول بدم نفسه ما كان لوليِّه القيام فيه[SUP]([30])[/SUP]، وأَنَّ المقتول هو المجني عليه؛ فهو أولى بنفسه[SUP]([SUP][31][/SUP][/SUP]).
خامسها: أَنَّ الشَّيءَ الذي جعل للولي إِنَّما هو حقُّ المقتول فناب فيه منابه وأقيم مقامه؛ فكان المقتول أحقَّ بالخيار من الذي أقيم مقامه بعد موته؛ لأن من بعده يكون نائباً عنه في المطالبة بدمه أو ديته، فكيف يقبل من نائبه ولا يقبل منه؟![SUP]([SUP][32][/SUP][/SUP]).
— أدلة المخالفين للإجماع:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلّا بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظلومًا فَقَد جَعَلنا لِوَلِيِّهِ سُلطانًا فَلا يُسرِف فِي القَتلِ إِنَّهُ كانَ مَنصورًا) [الإسراء:33].
وجه الدلالة: أَنَّه صحَّ بنص كلام الله تعالى وحكمه الذي لا يردُّ أَنَّه جعل لولي المقتول سلطانًا، وجعل إليه القود، وحرم عليه أن يسرف، فمن الباطل المتيقن أن يجوز للمقتول حكمٌ في إبطال السُّلطان الذي جعله الله تعالى لوليه، ومن الباطل البحت إنفاذ حكم المقتول في خلاف أمر الله تعالى؛ وهذا هو الحيف والإثم من الوصية، فحرامٌ على كلِّ أحدٍ أن ينفذ حكم المقتول في إبطال تسليم الدية إلى أهله؛ فهذا بيان لا إشكال فيه[SUP]([SUP][33][/SUP][/SUP]).
نوقش: بأَنَّ هذا صحيحٌ في عموم القتل الذي لم يعف فيه المجني عليه؛ أَمَا وقد عفى المجني عن الجاني، وصرَّح عن عفوه حتَّى في حال سراية الجناية إلى القتل فهذه حالٌ غير التي ذكرتم؛ فهو أحقُّ بالعفو.
الدليل الثاني: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«لَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ هُزِمَ المُشْرِكُونَ، فَصَاحَ إِبْلِيسُ: أَيْ عِبَادَ اللهِ أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولاَهُمْ فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ، فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ اليَمَانِ، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ اللهِ أَبِي أَبِي، فَوَ اللهِ مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ: حُذَيْفَةُ غَفَرَ اللهُ لَكُمْ»[SUP]([SUP][34][/SUP][/SUP]).
وجه الدلالة: أَنَّ حذيفة عفا عن دم والده، ولم ينتظر عفو والده اليمان، فدلَّ على أَنَّ الحقَّ في العفو لأولياء الدم، لا للقتيل.
ونوقش: بأَنَّه قد يكون أدرك والده وقد قتل، وليس به رمقٌ ليعفو، فانتقل الحقُّ لولي الدِّم، وهو ولده.
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يُقِيدَ»[SUP]([SUP][35][/SUP][/SUP]).
وجه الدلالة: أَنَّ الله تعالى جعل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لأهل المقتول الخيار في القود، أو الدية، أو المفاداة، فنشهد بشهادة الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أَنَّه لا يحل للمقتول أن يبطل خياراً جعله الله ورسوله عليه الصلاة والسلام لأهله بعد موته، وأَنَّه لا يحلُّ لأحدٍ إنفاذ حكم المقتول في ذلك، وأَنَّ هذا خطأ متيقَّن عند الله تعالى[SUP]([SUP][36][/SUP][/SUP]).
الدليل الرابع: من المعقول: أَنَّ الفعل لا يصير قتلًا إلا بفوات الحياة عن المحلِّ، ولم يوجد، فالعفو لم يصادف محلَّه؛ فلم يصحّ[SUP]([SUP][37][/SUP][/SUP]).
— الراجـــــــــــح:
ما يترجح للباحث -والله أعلم- أَنَّ القول في المسألة قول الجمهور، وهو ما عليه إجماع أهل العلم؛ لقوة أدلتهم، واستنادها على الإجماع؛ ولأَنَّه إسقاط لحقِّه، فصحَّ؛ كما أَنَّه لو عبَّر عن عفوه بلفظ: (عفوت عن الجناية وما يحدث منها) لصحَّ العفو؛ لأَنَّه إسقاطٌ للحقِّ بعد انعقاد سببه[SUP]([SUP][38][/SUP][/SUP]). قال ابن القيم -رحمه الله-: (لو عفا عن القصاص قبل الجرح؛ فلغو، وبعد الموت عفو الوارث معتبر، وبينهما ينفذ أيضاً)[SUP]([SUP][39][/SUP][/SUP]).
ومأخذ القولين معتبرٌ[SUP]([SUP][40][/SUP][/SUP])؛ وهما: القياس والاستحسان؛ فالقياس يقضي بألا يصحَّ عفو المجنيِّ عليه، ولكن الاستحسان يقضي بصحته، فمن جعل الحقَّ في العفو للميت قبل موته فمأخذه الاستحسان؛ ومن جعل الحقَّ في العفو للورثة ولو عفى الميت قبل موته فمأخذه القياس.
فأَمَّا وجه القياس[SUP]([SUP][41][/SUP][/SUP]): فإِنَّ عفو المجنيِّ عليه عن القتل يستدعي وجود القتل، والفعل لا يصير قتلا إلا بفوات الحياة عن المحلِّ ولم يوجد، فالعفو حينئذٍ لم يصادف محله بعد!
وأَمَّا وجه الاستحسان[SUP]([SUP][42][/SUP][/SUP]): فإِنَّ القتل ولو لم يوجد للحال فقد وجد سبب وجوده: وهو الجرح؛ المفضي إلى فوات الحياة؛ والسبب المفضي إلى الشيءِ يقام مقام ذلك الشيء في أصول الشرع.
وإِنَّما رجَّحت تقديم القول بالاستحسان على القياس لثلاث اعتبارات ظهرت لي:
الاعتبار الأول: حكاية الإجماع وانعقاده على خلاف القياس.
الاعتبار الثاني: جرياً على أصول الشريعة في حبِّ العفو والنَّدب إلى الصفح.
الاعتبار الثالث: أَنَّ الجناية إن سرت للنفس بعد عفو المجنيِّ عليه فلا قصاص في نفس ولا طرف؛ لأَنَّ السراية تولَّدت من معفوٍّ عنه؛ فصارت شبهةً دافعةً للقصاص، والشُّبهة أبلغ في الدفع بعفو المقتول -قبل موته- عن قاتله من باب أولى[SUP]([SUP][43][/SUP][/SUP]).
([1]) يُنظر: شرح صحيح البخارى لابن بطال (8/512).
([2]) يُنظر: المبسوط، للسرخسي (26/157).
([3]) يُنظر: التهذيب في اختصار المدونة (4/604).
([4]) يُنظر: الأم للشافعي (6/16).
([5]) يُنظر: المغني (8/286).
([6]) يُنظر: المحلى (11/133).
([7]) هو: أبو عبد الرحمن، طاووس بن كيسان، الفارسي، اليمني، شيوخه: سمع من زيد بن ثابت، وعائشة، وأبي هريرة، وزيد بن أرقم، وابن عباس، وجابر، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، تلاميذه: روى عنه ابنه عبد الله، وعطاء، ومجاهد، وابن شهاب، وإبراهيم بن ميسرة، وأبو الزبير المكي، وسليمان التيمي، وعمرو بن دينار، وفاته: توفي سنة 106هـ. [يُنظر ترجمته في: طبقات ابن سعد (6/66)، وطبقات خليفة (ص516)، والثقات لابن حبان (4/391)، وسير أعلام النبلاء (5/38)].
([8]) هو: أبو الخطاب، قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز، السدوسي، وقيل: قتادة بن دعامة بن عكابة، شيوخه: روى عن عبد الله بن سرجس، وأنس بن مالك، وعمران بن حصين، وسفينة، وأبي هريرة مرسلًا، وسعيد بن المسيب، وأبي العالية، وأبي عثمان النهدي، وعكرمة مولى ابن عباس، وأبي المليح، والحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، ومحمد بن سيرين، وعامر الشعبي، تلاميذه: روى عنه أيوب السختياني، وابن أبي عروبة، ومعمر بن راشد، والأوزاعي، وشعبة بن الحجاج، وجرير بن حازم، وحماد بن سلمة، والصعب بن حزن، وفاته: توفي سنة 117هـ. [يُنظر ترجمته في: طبقات ابن خياط (ص213)، وطبقات الفقهاء، للشيرازي (ص89)، وسير أعلام النبلاء (5/269)، والأنساب، للسمعاني (3/235)].
([9]) يُنظر: الاستذكار (8/ 178).
والأوزاعي: هو: أبو عمرو، عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد، الأوزاعي، شيوخه: عطاء بن أبي رباح، وأبو جعفر الباقر، وعمرو بن شعيب، ومكحول، وقتادة، والقاسم بن مخيمرة، وربيعة القصير، وبلال بن سعد، والزهري، وعبدة بن أبي لبابة، ويحيى بن أبي كثير، وحسان بن عطية، وعبد الرحمن بن القاسم، وعطاء الخراساني، وعكرمة بن خالد، وعلقمة بن مرثد، ومحمد بن سيرين، وابن المنكدر، وميمون بن مهران، ونافع مولى ابن عمر، تلاميذه: أخذ عنه أبو إسحاق الفزاري، وعبد الله بن المبارك، وهقل بن زياد، والوليد بن مسلم، والوليد بن مزيد، وعقبة بن علقمة، ومحمد بن يوسف الفريابي، وفاته: توفي سنة 157هـ. [يُنظر ترجمته في: طبقات الفقهاء، للشيرازي (ص76)، والطبقات الكبرى، لابن سعد (7/488)، وطبقات خليفة (ص586)، وسير أعلام النبلاء (7/107)].
([10]) هو: أبو ثور، الكلبي، البغدادي، الفقيه، ويكنى أيضاً أبا عبد الله، شيوخه: سمع من: سفيان بن عيينة، وأبي معاوية الضرير، ووكيع بن الجراح، وابن علية، ويزيد بن هارون، ومعاذ بن معاذ العنبري، وروح بن عبادة، تلاميذه: حدث عنه أبو داوود، وابن ماجه، وقاسم بن زكريا المطرز، وأحمد بن الحسن الصوفي، وأبو القاسم البغوي، ومحمد بن إسحاق السراج، وفاته: توفي سنة 240هـ. [يُنظر: سير أعلام النبلاء (12/72)].
([11]) يُنظر: الاستذكار (8/ 178).
([12]) يُنظر: القواعد لابن الوزير (ص223).
([13]) يُنظر: تفسير الطبري (8/475).
([14]) يُنظر: المحلى بالآثار (11/135).
([15]) يُنظر: تفسير الطبري (8/472).
([16]) تفسير الطبري (8/479).
([17]) الاستذكار (8/179).
([18]) يُنظر: الجنايات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون (ص165-168).
([19]) ضعيفٌ، أخرجه أبو يعلى في مسنده (12/284)، ح(6869)، وسعيد بن منصور في السنن من التفسير (4/1495)، ح(762)، وضعَّفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (2/69).
([20]) يُنظر: المحلى بالآثار (11/137).
([21]) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (14/214)، ح(28177).
([22]) أخرجه ابن حزم في المحلى، بسنده إلى ابن أبي شيبة (11/133)، ولم أقف عليه في المسند والمصنف وباقي كتب ابن أبي شيبة.
([23]) يُنظر: المحلى بالآثار (11/138).
([24]) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (14/214)، ح(28176).
([25]) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (14/214)، ح(28175).
([26]) ذكره ابن عبد البر بسنده إلى الحسن في الاستذكار (8/180).
([27]) يُنظر: بدائع الصنائع (7/248).
([28]) يُنظر: بدائع الصنائع (7/248).
([29]) يُنظر: بدائع الصنائع (7/248).
([30]) يُنظر: الاستذكار (8/178).
([31]) يُنظر: المحلى بالآثار (11/138).
([32]) يُنظر: بداية المجتهد (2/403).
([33]) يُنظر: المحلى بالآثار (11/138، 139).
([34]) أخرجه البخاري في صحيحه (4/125)، في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، ح(3290).
([35]) متفقٌ عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (3/126)، في كتاب اللقطة، باب كيف تعرف لقطة أهل مكة، ح(2434)، ومسلم في صحيحه (4/110)، في كتاب الحج، باب تحريم مكة، ح (3284).
([36]) يُنظر: المحلى بالآثار (11/139).
([37]) يُنظر: بدائع الصنائع (7/248).
([38]) يُنظر: كشاف القناع (5/546).
([39]) يُنظر: بدائع الفوائد (1/4).
([40]) يُنظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (30 /177-178)، الجنايات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون (ص165-168).
([41]) يُنظر: درر الحكام شرح غرر الأحكام (2/95)، بدائع الصنائع (7/248-249).
([42]) يُنظر: درر الحكام شرح غرر الأحكام (2/95)، بدائع الصنائع (7/248-249).
([43]) يُنظر: مغني المحتاج (4/50-51)، شرح المحلى على منهاج الطالبين (4/127).