رد: هل يقتضي النهي فساد المنهي عنه (الاتجاهات، المآخذ)
أولا: هذه المسألة من أمهات مسائل أصول الفقه، وتتفرع عنها جملة لا حصر لها من المسائل الفرعية، وقد اعتاصت على قوم من المحققين، واضطربت فيها الآراء وتشعبت.
ثانيا: مقتضى المسألة عقلي باعتبار أنها تنظم صورة الاقتضاء العقلي لصحة الشيء إذا تمت ماهيته وأركانه، وشرعية باعتبار المضمون، فإن الشارع هو الذي يفيد ما يصح به الشيء وما لا يصح
[1].
ثالثا: انتقد ابن تيمية طريقة كثير من المتكلمين في بناء هذه المسألة الأصولية وأنهم لم يكونوا من أئمة الفقه العارفين بتفصيل أدلة الشرع، وأنهم وأمثالهم لا يتكلمون في الأدلة الشرعية الواقعة بل يتكلمون في أمور يقدرونها في أذهانهم ولهذا لا يمكنهم أن ينتفعوا بما يقدرونه من أصول الفقه في الاستدلال بالأدلة المفصلة على الأحكام.
وبخصوص هذه المسألة: فإن الشارع لم يدل الناس قط بهذه الألفاظ التي ذكروها، ولا يوجد في كلامه: (شروط البيع، أو النكاح، كذا، وكذا)، ولا: (هذه العبادة، أو العقد صحيح أو ليس بصحيح)، ونحو ذلك مما جعلوه دليلا على الصحة والفساد، بل هذه كلها عبارات أحدثها من أحدثها من أهل الرأي والكلام.
رابعا: ليس المراد من اقتضاء النهي فساد المنهي عنه ما ورد فيه النص بالنهي دون ما ورد فيه النص، فهذه الطريقة إنما تمشي على طريقة أهل الظاهر، وإنما المراد ما نهي عنه لفظا أو معنى.
ولذا كانت عبارة العز ابن عبد السلام: دقيقة حين صاغ المسألة على أساس "تصرف منهي عنه"، سواء ورد نص بالنهي عنه أو لم يرد ، قال الزركشي: (قال الشيخ عز الدين في قواعده: "كل تصرف منهي عنه لأمر يجاوزه أو يقارنه مع توفر شرائطه وأركانه فهو صحيح، وكل تصرف منهي عنه ولم يعلم لما نهي عنه فهو باطل حملا للفظ النهي على الحقيقة")
[2].
خامسا: قول الحنابلة والظاهرية باقتضاء النهي فساد المنهي عنه في عامة الصور، حتى ما كان النهي عائدا إلى أمر مجاور وليس ركنا ولا وصفا ملازما، قول بعيد، وهو قول يليق بمذهب الظاهرية، لكن كيف يقول به من لا يقتصر على لفظ النص في استنباط صورة المنهي عنه، فإنه إذا ورد نهي عن البيع بعد نداء الجمعة الثاني، فإن الإنسان كذلك منهي عن البيع إذا وجب عليه حق يفوت في حينه، فهل يقول أحد بأن البيع لا يصح حينئذ، والصور في هذا لا يمكن حصرها، فكيف نعتبر النهي يقتضي فساد المنهي في الصورة التي ورد فيها النص فقط، ألسنا قياسيين نوسع دائرة المنهي عنه في كل ما أفاد الشرع النهي عنه ولو لم ينطق النص بصورته.
ومن هنا قال الزركشي: (أقوى ما يرد من قال بأن النهي عن الشيء لغيره يقتضي الفساد: أن من تعين عليه قضاء دين وهو متمكن من أدائه فاشتغل عنه بالتحرم بصلاة مفروضة، أو إنشاء عقد بيع أو نكاح فإن صلاته لا تصح، وكذلك بيعه ونكاحه، ولا قائل به)
[3].
سادسا: استثناء الحنابلة، صورة ما كان لحق الآدمي مما يمكن تداركه كتلقي الركبان، وبيع المصراة، وبيع التدليس، والخطبة على خطبة أخيه ونحو ذلك، لورود النصوص في بعض هذه الصور بمنحه الخيار أو الفسخ: هو يتفق مع مذهب الجمهور في هذه الصور، ويزيد من قوة قول الجمهور، حيث ورد "نص" في النهي عن هذه الصور، ومع ذلك ورد "نص" أيضا أنه لا يقتضي البطلان إذا أجازه صاحب الحق، وهذا يدل أن النهي إذا كان لمعنى خارج "ماهية العقد" فإنه لا يقتضي الفساد وهو هاهنا لحق المخلوق، كفرد من هذه الصور، وليس اقتصارا عليه.
سابعا: النصوص الواردة على نحو: " لا صلاة إلا بطهور "، و " لا نكاح إلا بولي "، و " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ": تدل أن الشارع إنما ينفي صحة الشيء إذا لم تتوفر فيه شروطه أو أركانه لا مطلقا.
ثامنا: اعتبر ابن تيمية قوله مطردا في اقتضاء النهي فساد المنهي عنه في مسألة طلاق الحائض، فإنه لا يقع عنده، بينما هو يقع عند الفقهاء الأربعة، وهو مشكل أكثر على فقهاء المذهب الحنبلي، حيث يتوسعون في اعتبار النهي يقتضي فساد المنهي عنه ولو كان في أمر مجاور، وقد يجيب الجمهور بأن النهي هنا لأمر خارج الطلاق، وهو الزمن، لكن يمكن قول ذلك في صوم الحائض وصلاتها، فإن ذلك لا يصح وإنما كان لأجل الزمن، ويمكن ذكر الفرق بأنه يشترط لتلك العبادات الطهارة، بخلاف الطلاق فإنه منهي عنه لمعنى يتعلق باحتساب العدة، وهو خارج موضوع إيقاع الطلاق، والمسألة تحتاج بحث، ونظم للقول الفقهي ضمن إطاره الأصولي، وقد تناول جانبا من ذلك العلائي في رسالته الخاصة في المسألة
[4].
تاسعا: الراجح في المسألة عندي ليس مهما عندك بقدر ما يهم أحدنا ضبط علاقة المسألة الأصولية بما نعتقده من فروعها الفقهية.
عاشرا: رسالة العلائي متميزة وجامعة وفيها تحقيق، وجمع أطراف المسألة، وقد جعلها في فصول ستة، حقق فيها قول المالكية والشافعية وكثير من المحققين الأصوليين في أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه إذا كان النهي عائدا إلى ذات المنهي عنه أو وصفه اللازم، وهو أيضا ترجيح الطوفي، واعتبره القرافي قولا وسطا بين قول الحنفية الذين بالغوا في اعتبار الفرق حتى أخرجوا الوصف اللازم من دائرة الفساد، وبين قول الحنابلة، الذين بالغوا في عدم اعتبار الفرق حتى أدرجوا في الفساد ما كان تعلقه بعيدا لمعنى المجاورة.
[1]) شرح مختصر الروضة (2/ 435، 436)، شرح الكوكب المنير (1/ 472).
[2]) البحر المحيط (3/ 392)، ولعل الزركشي تصرف في عبارة العز، فلم أجدها بنصها موضع الشاهد في قواعد الأحكام (2/ 25).
[3]) البحر المحيط (3/ 391).
[4]) تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد (ص: 116).