رد: أهم نتائج بحثي في الماجستير:
المبحث الخامس: مستثنيات قاعدة (( المندوب لا يجب بالشروع فيه )) .
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: رأي المصنف في ذلك.
قال المصنف: (( ووجوب إتمام الحج ؛ لأن نفلَه كفرضه: نيةً وكفارةً وغيرَهما [SUP](
[SUP][1][/SUP][/SUP]) )) .
المطلب الثاني: الاستدراك.
وفيه استدراكان:
1- قال الزركشي: (( هذا جوابٌ عن سؤالٍ مقدَّر، تقديرُه: إنَّ مَنْ تلبَّسَ بحج تَطَوُّعٍ، فعليه إتمامُه, ولا يجوز قطعُه عندنا، وأجاب: إنَّمَا خرج الحج عن القاعدة؛ لِخصوصيةٍ فيه, وهو أنَّ حكمَ نفلِه, كحكم فرضِه في النيَّة والكفارة وغيرهما. والذي يظهر:
عدمُ الاحتياجِ إلى هذا؛ لأنَّ الكلامَ في المندوبِ عَيْناً، والحجُّ بخلاف ذلك، فإنَّه لا يُتَصَوَّرُ لنا حجُّ تطوُّعٍ، فإنَّ المخَاطَبُ به إنَّمَا هو المستطيعُ, فإنْ كان لم يحجْ فهو في حقِّه فرض عيْنٍ، وإلاَّ ففرضُ كفايةٍ, فإنَّ إقامَة شعائر الحج من فروض الكفاية على المكَلَّفينَ، وحينئذ فلا يبقى إشكالٌ في امتناع الخروج منه؛ إلاَّ على قولنا: إنَّ فرضَ الكفايَة لا يلزم بالشروع، على ما سيأتي [SUP](
[SUP][2][/SUP][/SUP]) )) .
وجه الاستدراك:
يرى الزركشي أنه لا يُحتاج إلى استثناء الحج عن قاعدة وجوب إتمام المندوب عند الشروع فيه؛ لأن القاعدة مدارها على المندوب, والحج بخلاف ذلك, ولأن نسك المستطيع منحصرٌ بين فرضيْن, فرض العين وفرض الكفاية, وبالتالي لا يُتصوّر حج التطوع أصلاً.
المطلب الثالث: دراسة الاستدراك.
قبل بدء الدراسة أود أن أنبه أن الحكم الشرعي في هذه المسألة, هو الاتفاق على وجوب إتمام من دخل في النسك مطلقاً؛ لكن اختلف في وجه الوجوب إلى ثلاثة أقوال [SUP](
[SUP][3][/SUP][/SUP]) :
القول الأول: - وهو اختيار المصنف -: قياس نفل الحج على فرضه؛ لأن غالب أحكامه مثل فرضه, وهذا المشار إليه هو من قياس الشبه[SUP](
[SUP][4][/SUP][/SUP]), وحاصله أن نفل الحج فرعٌ تردّد بين أصليْن: أحدهما فرضه, والآخر نفل غيره, فأُلحق بأكثرهما شبهاً, وهو فرض الحج.
القول الثاني, وبه أجاب الشافعي: وحاصله أنه إذا تساوى فاسد التطوع وواجبه في وجوب المضيِّ فيهما, فمن باب أولى إتمام صحيح النفل, وهذا القول قيل إنه لا يخرج عن اختيار المصنف, بل يقوِّيه.
القول الثالث, وبه قال الزركشي: يَعتبرُ هذه المسألة لا تعلّق لها بالمندوب أصلا, وإنما علاقتها بالفرضيْن؛ العيني والكفائي, وبالتالي لا حاجة للجواب الأول ولا للثاني, وهذا القول قيل إنه يرجع أيضاً إلى اختيار المصنف, مع زيادة الفرق .
وهذا الأخير هو مثار دراسة هذا الاستدراك, فأقول وبالله التوفيق:
إنه من الضروري قبل الخروج من هذه المسألة بترجيحٍ, أن أذكر بعض الاعتراضات التي وُجِّهت لقول الزركشي مع مناقشتها, والتي منها [SUP](
[SUP][5][/SUP][/SUP]) :
- انتقاض كلام الزركشي في قوله: (( لا يتصور لنا حج تطوع )) بحج الصبي المراهق, فإن حجه نفل؛ إذ الخطاب لا يتوجه إليه, ورُدَّ بأن مراد الزركشي هو من كان مكلّفاً بالحج, كما يدل عليه السياق, والذي هو البالغ العاقل, دلَّ عليه قوله: (( فإن لم يحج فهو في حقه فرض عين )) فإن هذا لا يتصور إلا في المكلف به.
- وعورض أيضاً بأن ما ذكره لا يتقيَّد بالمستطيع, ونوقش أن نسك غير المستطيع يقع أيضاً فرضاً إذا شرع, ووقع عن فرض الإسلام, فضلا عن فرض الكفاية [SUP](
[SUP][6][/SUP][/SUP]) .
- اعترض المرداوي[SUP](
[SUP][7][/SUP][/SUP]) على توجيه الزركشي بقوله: (( وفيه نظر, وذلك أنه لو حجَّ حجة الإسلام مع مَنْ حجَّ حجة ثانية, هل يُقال: إن الذي حج ثانيًا مع الذي وجب عليه حجة الإسلام, يكون حجه من فروض الكفايات, والحالة هذه ؟ فيه نظر ظاهر[SUP](
[SUP][8][/SUP][/SUP]) )) .
والصَّواب أنه كذلك يكون فرض كفاية؛ لأن فرض الكفاية لا يتميز باعتبار الآحاد المتلبِّس به, فكلّ من تلبَّس به, فقد قام بفرض الكفاية, وهذا الأصل فيه, وحينئذٍ إما فرض عين, وإما فرض كفاية ، ومنه فلا يقع الحج على جهة التنفل[SUP](
[SUP][9][/SUP][/SUP]), كما أنه أيضاً يُحمل قول من قال من الفقهاء بأن الحج فرض كفاية من كل عام [SUP](
[SUP][10][/SUP][/SUP]) .
وبناء على ما سبق يظهر لي أنَّ الأقوال متفاوتة في القوة في هذه المسألة, وأنَّ أقواها وأقعدها ما علَّل به الزركشي[SUP](
[SUP][11][/SUP][/SUP]), ومع هذا فلا يمنع - في نظري - عدم احتياجنا للقولين السابقين في الإجابة بهما [SUP](
[SUP][12][/SUP][/SUP]) ؛ لأن المسألة تبقى محتملة, ولا قطع فيها . والله أعلم.
2- قال الزركشي: (( كلام المصنف يقتضي أنه لم يخرج عن القاعدة غير الحج؛ لكن استثنى بعضهم أيضاً: الأضحية؛ فإنها سنة, وإذا ذُبحت لزِمت بالشُّروع [SUP](
[SUP][13][/SUP][/SUP]) )) .
وجه الاستدراك:
يرى الزركشي أنَّ صنيع المصنف هنا, يدل على أنه يرى الحج هو الوحيد المستثنى من قاعدة (( المندوب لا يلزم بالشروع فيه )) , والواقع بخلافه؛ حيث إن بعض الشافعية أيضاً استثنى الأضحية - وهي سُنَّة - من القاعدة.
المطلب الثالث: دراسة الاستدراك.
قلتُ: إنَّ المصنف لم يقصد الحصر فيما أورده, وإنما أراد التمثيل, واختار فيه شيئاً مشتهراً بين المذاهب, وجرى الاتفاق عليه, وأما غيره فمختلفٌ فيه؛ حتى داخل المذهب الواحد, ويضاف لهذا أيضاً, أنه في مثل المختصرات لا يُتوسَّع في ذكر الأمثلة, أقولُ هذا على فرض التسليم لما ذكره الزركشي, أما عند المناقشة, فيقال إنَّ في وجه استثناء الأضحية نظراً من وجهين:
الوجه الأول: وفيه حالتان:
-
الحال الأولى: إذا تمَّ الذبح تحصل التَّضحية, وعلى هذا فلا يتصور فيها وجوب الإتمام بالشروع.
-
الحال الثانية: على فرض تصور ذلك, فوجوب الإتمام؛ لدفع تلف المال؛ لا للشروع في المندوب؛ غير أن عدم الإتمام لا يستلزم التلف على الإطلاق؛ لجواز أن يحصل بالشروع جرحٌ خفيفٌ تعيش به الأضحية, ولا ينقص القيمة [SUP](
[SUP][14][/SUP][/SUP]) .
الوجه الثاني- وهو الظاهر عند البرماوي [SUP]([SUP][15][/SUP][/SUP]) - : إنْ أريد بلزوم الإتمام وجوب التصدق بشيء من الأضحية [SUP](
[SUP][16][/SUP][/SUP]) , فهذا قد خرج مخرج الشرط؛ لصحتها (الأضحية) ؛ لا لتتميم الحقيقة, مثله مثل استقبال القبلة لصحة النافلة [SUP](
[SUP][17][/SUP][/SUP]) .
والله أعلم.
([1]) جمع الجوامع ص14.
([2]) تشنيف المسامع (1/173).
تنبيه: جزم الزركشي في المنثور (3/38) أنَّ حجَّ التطوُّع لا يقع إلا فرض كفاية, وأنَّ فرض الكفاية لا يلزم بالشروع فيه إلا في الجهاد والجنازة والحج .
([3]) هذه الأقوال هي من حيث التعليل؛ غير أن الشيخ محمد الإثيوبي - نفع الله به – يرى أن الأَوْلى الاستدلال بآية ﮋ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ محمد: ٣٣ , فإنَّ عمومها يشمل الحج وغيره .
ينظر: تشنيف المسامع (1/173), الفوائد السنية للبرماوي (1/342-343), شرح الكوكب الساطع للسيوطي (1/71), حاشية زكريا الأنصاري (1/239-240), الآيات البينات (1/190), التحبير للمرداوي (2/993, وما بعدها), شرح الكوكب المنير (1/410), البدور اللوامع لليوسي (1/272), شرح الكوكب الساطع للإثيوبي ص20, الأم للشافعي (3/260).
([4]) هذا ما رآه العبادي - وتبعه عليه البناني وغيره - في دفع إيراد اللقاني.
ينظر للإيراد ودفعه في: الآيات البينات (1/189-190), حاشية البناني (1/94).
وأمَّا قياس الشبه فقد اختلف في تعريفه كثيراً, ومما اختاره بعض الباحثين من هذه التعاريف, تعريف الآمدي, وفيه أنه الوصف الذي لم تظهر فيه المناسبة -بعد البحث التام- عنها ممن هو أهله, ولكن ألف من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام.
ينظر: البرهان (2/1228), الإحكام للآمدي (ج3/371), نهاية الوصول للهندي (8/3339), الإبهاج للمصنف (6/2357), البحر المحيط (5/230), نبراس العقول ص348, مباحث العلة في القياس لعبد الحكيم السعدي ص454, الشامل للنملة (2/720).
وأمَّا ما ذكر في المتن أعلاه؛ فالصحيح -في نظري- أنه تعريفٌ لقياس الأشباه, أو غلبة الأشباه, وبعض العلماء يطلق عليه قياس الشبه ولا يفرِّق في ذلك.
ينظر: الفروق للحمد ص357, الشامل للنملة (2/721).
([5]) ينظر لهذه الاعتراضات في: الدرر اللوامع للكوراني (1/265-266), حاشية زكريا الأنصاري (1/240), حاشية العطار (1/131), التحبير للمرداوي (2/994-995), البدور اللوامع لليوسي (1/273)
([6]) هذا الاعتراض ردَّه العبادي من أربعة أوجه اكتفيت ببعضها؛ غير أنه لم يجزم في جميعها, وللاستزادة ينظر: الآيات البينات (1/191), حاشية العطار (1/131) .
([7])
المرداوي هو: علي بن سليمان بن أحمد, علاء الدين, الحنبلي, ويعرف بالمرداوي, شيخ المذهب, من مصنفاته في أصول الفقه: تحرير المنقول, وشرحه في التحبير, وشرح قطعة من مختصر الطوفي فيه, فهرست القواعد الأصولية, توفي سنة 885هـ .
ينظر ترجمته في: الضوء اللامع للسخاوي (5/225), ديوان الإسلام للغزي (4/224).
([8]) التحبير شرح التحرير للمرداوي (2/994) .
([9]) هذا عند الشافعية, بخلاف ما عليه الحنفية والمالكية وجمهور الحنابلة, فعند المالكية أنه يمكن أن يتصور أن يقع الحج نفلاً, ومما جاء في هذا الخصوص, وتعليقاً على كلام الزركشي المتقدم, = = قول الحَطَّاب في مواهب الجليل (2/466-الفكر): (( وهذا والله أعلم, إنما يُشكل على مذهبٍ, في أن من كان عليه فرض الإسلام, وأحرم بنفل ينقلب فرضاً, وعلى ما يقتضيه كلامه من أنه إذا خوطب به على جهة الكفاية, كان حكمه مساويا لحكم فرض الإسلام, من أنه إذا أحرم بنفل ينقلب فرض كفاية،
وأما على مذهبنا في أن من أحرم بنفل انعقد إحرامه, وإن كان عليه الفرض,
فيمكن تصويره, وذلك أن من حج فرض الإسلام يطلب بإحياء الكعبة بالحج على جهة الكفاية، فإذا قام بذلك جماعة, سقط الطلب بفرض الكفاية عن الباقين, وصاروا مطلوبين به على جهة الندب، فمن جاء منهم بعد ذلك, ونوى القيام بفرض الكفاية حصل له, ومن لم ينو إلا التطوع فحجه تطوع، بل لو لم يقم بفرض الكفاية أحد, وأحرم الجميع بنية التطوع, انعقد إحرامهم تطوعا, ولا يحصل لهم ثواب فرض الكفاية؛ إلا بنية, فتأمله، والله أعلم )) , وينظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (3/526-527), البحر الرائق لابن نجيم (2/543), حاشية العبادي على تحفة المحتاج (4/4) .
([10]) ينظر: شرح الشيخ أحمد الحازمي على الكوكب الساطع آخر شريط الخامس والثلاثون, وينظر أيضا لقول الفقهاء المتقدم في : المبدع شرح المقنع (3/81), حاشية العبادي على تحفة المحتاج (4/4) .
([11]) ينظر: شرح الكوكب الساطع للسيوطي (1/71).
([12]) خصوصاً إذا ظهر أن قول الزركشي هنا, يرجع في الحقيقة إلى كلام المصنف, مع زيادة الفرق, كما ذكر ذلك زكريا الأنصاري في حاشيته (1/240).
([13]) تشنيف المسامع (1/173), وينظر: الغيث الهامع (1/31), الضياء اللامع (1/203).
فائدة: ذكر الزركشي في المنثور عن الشافعية أنَّ بعضهم استثنى صُوراً, أوصلها -w- إلى خمسة, منها: الثنتان اللتان تقدمتا في أعلاه, ومنها الجهاد, والجنازة, وصلاة المسافر بنية الإتمام, كما أنه في موضع سابق من التشنيف, ذكر عن بعضهم أنهم أوجبوا إتمام الطواف المندوب إذا شُرع فيه.
وممَّا يُنبَّه عليه -أيضاً- أنَّ المالكية استثنوا أيضاً صوراً, تقدَّم التنبيه عليها, وعلى مَراجعها, في أوَّل هامش المبحث الخامس والعشرون, ويضاف لما ذكروه في تلك المراجع, الأضحية, فقد ذكرها حلولو من = = المستثنيات, أمَّا الحنابلة؛ فقد ذكروا روايتين عن الإمام أحمد قال بلزوم الإتمام فيها, مرة في الصيام فقط, ومرة في الصلاة فقط.
ينظر: تشنيف المسامع (1/171), الفوائد السنية للبرماوي (1/346), التحبير للمرداوي (2/995-996), الضياء اللامع (1/203), البدور اللوامع (1/274), المنثور في القواعد (2/242-243).
([14]) وبناء على هذا - في نظري - يـُجاب على وجه الاستثناء؛ الذي نسبه حلولو المالكي للمالكية في الضياء (1/203) عندما قال : (( وألحق بعض الشافعية, وهو المذهب - أيضاً - عندنا الأضحية فإنها تلزم بالشروع أي: الذبح فليس له تعويضاً بأخرى بعده )) , ويظهر أن هذا الوجه في الاستثناء مغايرٌ لما سيأتي عن البرماوي, فقد اتفقا في الأصل واختلفا في التوجيه, والله أعلم .
([15])
البرماوي: محمد بن عبد الدائم بن موسى, أبو عبد الله, شمس الدين, الشافعي, من مصنفاته في أصول الفقه: الألفية, وشرحها في الفوائد السنية, توفي سنة 831هـ .
ينظر ترجمته في: طبقات الشافعية لابن شهبة (4/101), الضوء اللامع للسخاوي (7/280).
([16]) وهو مذهب الشافعية وكذا الحنابلة خلافاً للحنفية والمالكية.
ينظر: المنتقى للباجي (4/184), بدائع الصنائع للكاساني (5/81), بداية المجتهد (2/846-الحموي), المجموع للنووي (8/393), كشاف القناع للبهوتي (2/351), سراج السالك لعثمان الجعلي (1/2/12).
([17]) ينظر: الفوائد السنية للبرماوي مع تعليق المحقق (1/345-346), حاشية زكريا الأنصاري (1/240), الآيات البينات للعبادي (1/189), حاشية العطار (1/131), المغني لابن قدامة (2/100), روضة الطالبين للنووي (1/209- الشاويش).