العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

13 مسألة من مسائل المقاصد للشاطبي

إنضم
22 أبريل 2015
المشاركات
4
التخصص
السياسة الشرعية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
الحنبلي
القسم الأول: مقاصد الشارع
النوع الأول: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة
المسألة الأولى: تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهي ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون ضرورية. والثاني: أن تكون حاجية. والثالث: أن تكون تحسينية.
فأما الضرورية: فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، والحفظ لها يكون بأمرين:
أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وهو من جانب الوجود.
والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وهو من جانب العدم.
فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود، كالإيمان. والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا، كتناول المأكولات. والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضا، لكن بواسطة العادات ، كانتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض .
والجنايات- ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم.والجنايات ما كان عائدا على ما تقدم بالإبطال، فشرع فيها ما يدرأ ذلك الإبطال، ويتلافى تلك المصالح، كالقصاص، والديات .
وأما الحاجيات : فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة.
ففي العبادات: كالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر، وفي العادات كإباحة الصيد. وفي المعاملات، كالقراض، وفي الجنايات، كالحكم باللوث.
وأما التحسينات، فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات.
ففي العبادات، كإزالة النجاسة ، وفي العادات، كآداب الأكل والشرب، وفي المعاملات، كالمنع من بيع النجاسات، وفي الجنايات، كمنع قتل الحر بالعبد.
المسألة الثانية: كل مرتبة ينضم إليها ما هو كالتتمة والتكملة، مما لو فرضنا فقده لم يخل بحكمتها الأصلية.
مثال الأولى، فنحو التماثل في القصاص. وأما الثانية، فكاعتبار الكفء ، وأما الثالثة مندوبات الطهارات.

المسألة الثالثة: كل تكملة فلها شرط:
وهو: أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال، لوجهين :
أحدهما: أن في إبطال الأصل إبطال التكملة، لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع الموصوف.
والثاني: أنا لو قدرنا أن المصلحة التكميلية تحصل مع فوات المصلحة الأصلية، لكان حصول الأصلية أولى .


المسألة الرابعة: المقاصد الضرورية في الشريعة أصل للحاجية والتحسينية.
أحدها: أن الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميلي.
والثاني: أن اختلال الضروري يلزم منه اختلال الباقيين بإطلاق.
والثالث: أنه لا يلزم من اختلال الباقيين بإطلاق اختلال الضروري بإطلاق.
والرابع: أنه قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما.
والخامس: أنه ينبغي المحافظة على الحاجي وعلى التحسيني للضروري.
بيان الأول: أن الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميلي.
أن مصالح الدين مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة المذكورة فيما تقدم، حتى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود. وإذا ثبت هذا، فالأمور الحاجية إنما هي حائمة حول هذا الحمى، إذ هي تتردد على الضروريات.
بيان الثاني: أن اختلال الضروري يلزم منه اختلال الباقيين بإطلاق.
لأنه إذا ثبت أن الضروري هو الأصل المقصود، وأن ما سواه مبني عليه كوصف من أوصافه ، لزم من اختلاله اختلال الباقيين، لأن الأصل إذا اختل اختل الفرع من باب أولى، فلو فرضنا ارتفاع أصل البيع من الشريعة، لم يمكن اعتبار الجهالة والغرر.
وكذلك نقول: إذا كان أصل الصلاة منهيا عنه قصدا، كالنهي عن الصلاة في طرفي النهار، فكل ما تتصف به من مكملاتها مندرج تحت أصل النهي، ولا تكون منهيا عنها إلا بمجموع أفعالها وأقوالها، فاندرجت المكملات تحت النهي باندراج الكل.
بيان الثالث: أنه لا يلزم من اختلال الباقيين بإطلاق اختلال الضروري بإطلاق :
أن الضروري مع غيره كالموصوف مع أوصافه، ومن المعلوم أن الموصوف لا يرتفع بارتفاع بعض أوصافه، مثال ذلك الصلاة إذا بطل منها الذكر لا يبطل أصل الصلاة.
استثناء : اللهم إلا أن تكون الصفة ذاتية بحيث صارت جزءًا من ماهية الموصوف، فهي إذ ذاك ركن من أركان الماهية، وقاعدة من قواعد ذلك الأصل، وينخرم الأصل بانخرام قاعدة من قواعده ، والوصف الذي شأنه هذا ليس من المحسنات ولا من الحاجيات، بل هو من الضروريات.
بيان الرابع: أنه قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما ، من أوجه:
أحدها: أن كل واحدة من هذه المراتب لما كانت مختلفة في تأكد الاعتبار، فالضروريات آكدها، ثم تليها الحاجيات والتحسينات، وكان في إبطال الأخف جرأة على ما هو آكد منه، فصار الأخف كأنه حمى للآكد، ومثال ذلك الصلاة، فإن لها مكملات وهي ما سوى الأركان والفرائض، ومعلوم أن المخل بها متطرق للإخلال بالفرائض والأركان. ومما يدل على ذلك ما في الحديث من قوله عليه السلام: "كالراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه".
والثاني: أن كل درجة بالنسبة إلى ما هو آكد منها كالنفل بالنسبة إلى ما هو فرض، فستر العورة واستقبال القبلة بالنسبة إلى أصل الصلاة كالمندوب إليه.
فالإخلال بالمندوب مطلقًا يشبه الإخلال بركن من أركان الواجب؛ لأنه قد صار ذلك المندوب بمجموعه واجبا في ذلك الواجب.
والثالث: أن مجموع الحاجيات والتحسينات ينتهض أن يكون كل واحد منهما كفرد من أفراد الضروريات، وذلك أن كمال الضروريات من حيث هي ضروريات إنما يحسن موقعه حيث يكون فيها على المكلف سعة وبسطة، فإذا أخل بذلك، لبس قسم الضروريات لبسة الحرج والعنت، فصار الواجب الضروري متكلف العمل.
والرابع: أن كل حاجي وتحسيني إنما هو خادم للأصل الضروري ومؤنس به ومحسن لصورته الخاصة، إما مقدمة له، أو مقارنًا، أو تابعا.
وذلك أن الصلاة مثلا إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم، فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجه إليه، فإذا أحضر نية التعبد، أثمر الخضوع والسكون.
بيان الخامس: ظاهر مما تقدم؛ لأنه إذا كان الضروري قد يختل باختلال مكملاته، كانت المحافظة عليها لأجله مطلوبة؛ ولأنه إذا كانت زينة لا يظهر حسنة إلا بها، كان من الأحق أن لا يخل بها.

المسألة الخامسة: المصالح المثبوتة في هذه الدار ينظر فيها من جهتين:
- من جهة مواقع الوجود. - ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها.
فأما النظر الأول، فإن المصالح الدنيوية -من حيث هي موجودة هنا- لا يتخلص كونها مصالح محضة، فهي مشوبة بتكاليف ومشاق ،كالأكل، والشرب فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب.
كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود، ففيها من الرفق واللطف ونيل اللذات كثير.
فإذا كان كذلك، فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب، فإذا كان الغالب جهة المصلحة، فهي المصلحة المفهومة عرفًا، وإذا غلبت الجهة الأخرى، فهي المفسدة المفهومة عرفا.
وأما النظر الثاني فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعًا فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعا، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد، فإن تبعها مفسدة أو مشقة، فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه, وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد، فرفعها هو المقصود شرعا، فإن تبعتها مصلحة أو لذة، فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل، بل المقصود ما غلب في المحل.
فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعًا أو المفاسد المعتبرة شرعًا هي خالصة غير مشوبة بشيء من المفاسد، لا قليلا ولا كثيرا، وإن توهم أنها مشوبة.
والدليل على ذلك أمران:
أحدهما: أن الجهة المغلوبة لو كانت مقصودة للشارع لم يكن الفعل مأمورًا به بإطلاق، ولا منهيا عنه بإطلاق، بل كأن يكون مأمورا به من حيث المصلحة، ومنهيا عنه من حيث المفسدة، ومعلوم قطعا أن الأمر ليس كذلك.
وهذا يتبين في أعلى المراتب في الأمر والنهي، كوجوب الإيمان وحرمة الكفر، فكأن يكون الإيمان الذي لا أعلى منه في مراتب التكليف منهيا عنه، من جهة ما فيه من كسر النفس عن إطلاقها ، وكأن الكفر الذي يقتضي إطلاق النفس من قيد التكاليف، وتمتعها ؛ لأن الأمور الملذوذة مصلحة على الجملة، وكل هذا باطل محض، بل الإيمان مطلوب بإطلاق.
والثاني: أن ذلك لو كان مقصود الاعتبار شرعا، لكان تكليف العبد كله تكليفا بما لا يطاق، وهو باطل شرعا، فهو مطلوب بإيقاع الفعل ومنهي عن إيقاعه معا، والجهتان غير منفكتين، فلا بد في إيقاع الفعل أو عدم إيقاعه.
لا يقال: إن المصلحة قد تكون غير مأمور بها، ولكن مأذونا فيها، فلا يجتمع الأمر والنهي معا، فلا يلزم المحظور.
لأنا نقول: إن هذا لا يطرد في جميع المصالح، فإن المصلحة كما يصح أن تكون مأذونا فيها، يصح أن تكون مأمورا بها، وإن سلم ذلك، فالإذن مضاد للأمر والنهي معا، فإن التخيير مناف لعدم التخيير، وهما واردان على الفعل الواحد، وليس هذا كالصلاة في الدار المغصوبة، لإمكان الإنفكاك بأن يصلي في غير الدار، وهذا ليس كذلك.
فإن قيل: إن هذا التقرير مشير لما ذهب إليه الفلاسفة ومن تبعهم من أن الشر ليس بمقصود الفعل، وإنما المقصود الخير، فإذا خلق الله تعالى خلقا ممتزجا خيره بشره، فالخير هو الذي خُلِقَ الخلق لأجله، ولم يخلق لأجل الشر، قلت: إن الشارع -مع قصده التشريع لأجل المصلحة- لا يقصد وجه المفسدة، مع أنها لازمة للمصلحة.
وهو أيضا مشير إلى مذاهب المعتزلة القائلين بأن الشرور والمفاسد غير مقصودة الوقوع، وأن وقوعها إنما هو على خلاف الإرادة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فالجواب أن كلام الفلاسفة إنما هو في القصد الخلقي التكويني، وليس كلامنا فيه، وإنما كلامنا في القصد التشريعي .
فصل:
وأما إذا كانت المصلحة أو المفسدة خارجة عن حكم الاعتياد، بحيث لو انفردت لكانت مقصودة الاعتبار للشارع، ففي ذلك نظر.
مثاله أكل الميتة للمضطر، وأكل النجاسات والخبائث اضطرارا، وقتل القاتل، وقطع اليد المتأكلة، وما أشبه ذلك من الأمور التي لو انفردت عما غلب عليها لكان النهي عنها متوجها، وبالجملة كل ما تعارضت فيه الأدلة، فلا يخلو أن تتساوى الجهتان، أو تترجح إحداهما على الأخرى.
فإن تساوتا، فلا حكم من جهة المكلف بأحد الطرفين دون الآخر، إذا ظهر التساوي بمقتضى الأدلة، ولعل هذا غير واقع في الشريعة، وأما أن قصد الشارع متعلق بالطرفين معا: طرف الإقدام، وطرف الإحجام، فغير صحيح لأنه تكليف ما لا يطاق.
وأما إن ترجحت إحدى الجهتين على الأخرى، فيمكن أن يقال: إن قصد الشارع متعلق بالجهة الراجحة ، ويمكن أن يقال: إن الجهتين معا عند المجتهد معتبرتان.
وعلى كل تقدير، فالذي تلخص من ذلك أن الجهة المرجوحة غير مقصودة الاعتبار شرعا عند اجتماعها مع الجهة الراجحة، إذ لو كانت مقصودة للشارع فكان تكليفا بما لا يطاق.
فإن قيل: أفلا تكون الجهة المغلوبة مقصودة للشارع بالقصد الثاني، فإن مقاصد الشارع تنقسم إلى ذينك الضربين ، فالجواب أنّ القصد الثاني إنما يثبت إذا لم يناقض القصد الأول، فإذا ناقضه، لم يكن مقصودا بالقصد الأول ولا بالقصد الثاني، وهذا مذكور في موضعه من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.

المسألة السادسة:
لما كانت المصالح والمفاسد على ضربين: دنيوية، وأخروية، وتقدم الكلام على الدنيوية، اقتضى الحال الكلام في المصالح والمفاسد الأخروية، فنقول: إنها على ضربين:
أحدهما: أن تكون خالصة لا امتزاج لأحد القبيلين بالآخر، كنعيم أهل الجنان، وعذاب أهل الخلود في النيران.
الثاني:أن تكون ممتزجة، وليس ذلك إلا بالنسبة إلى من يدخل النار من الموحدين، في حال كونه في النار خاصة، فإذا أدخل الجنة برحمة الله رجع إلى القسم الأول، وهذا كله حسبما جاء في الشريعة، إذ ليس للعقل في الأمور الأخروية مجال، وإنما تتلقي أحكامها من السمع.
أما كون هذا القسم الثاني ممتزجا فظاهر، لأن النار لا تنال منهم مواضع السجود، ولا محل الإيمان، وتلك مصلحة ظاهرة.وأيضا، فإنما تأخذهم على قدر أعمالهم.
وأما كون الأول محضا، فيدل عليه من الشريعة أدلة كثيرة، كقوله تعالى: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} وقد بين ذلك ربنا بقوله في الجنة: "أنت رحمتي"، وفي النار: "أنت عذابي" ، فسمَّى هذه بالرحمة مبالغة، وهذه بالعذاب مبالغة.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا وقد ثبت أن في النار دركات بعضها أشد من بعض، كما أنه جاء في الجنة أن فيها درجات بعضها فوق بعض، فالذي دون الأشد أخف من الأشد، والخفة مما يقتضيه وصف الرحمة التي تحصل مصلحة ما.
وإذا تصورت الخفة ولو بنسبة ما، فهي مصلحة في ضمن مفسدة العذاب، كما أن درجات الجنة كذلك في الطرف الآخر، فإن الجزاء على قدر العمل، ومعلوم أن رتبة آخر من يدخل الجنة ليست كرتبة من لم يعص الله، هذا معنى ممازجة المفسدة، فإذا كان كذلك، فالقسمان معا قسم واحد.
فالجواب أنه لا يصح في المنقول ألبتة أن تكون الجنة ممتزجة النعيم بالعذاب، ولا أن فيها مفسدة ما بوجه من الوجوه، هذا مقتضى نقل الشريعة، نعم، العقل لا يحيل ذلك، فإن أحوال الآخرة ليست جارية على مقتضيات العقول، كما أنه لا يصح أن يقال في النار: إن فيها للمخلدين رحمة تقتضي مصلحة ما، ولذلك قال تعالى: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} .
وذلك أن المراتب- وإن تفاوتت- لا يلزم من تفاوتها نقيض ولا ضد، ومعنى هذا أنك إذا قلت: "فلان عالم"، فقد وصفته بالعلم، وأطلقت ذلك عليه إطلاقا بحيث لا يستراب في حصول ذلك الوصف له على كماله، فإذا قلت: "وفلان فوقه في العلم"، فهذا الكلام يقتضي أن الثاني حاز رتبة في العلم فوق رتبة الأول، ولا يقتضي أن الأول متصف بالجهل ولو على وجه ما.
ولأجل ذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خير دور الأنصار، أجاب بما عليه الأمر في ترتيبهم في الخيرية بقوله: "خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة"، ثم قال: "وفي كل دور الأنصار خير" ، فلم يكن تفضيله عليه الصلاة والسلام بعض دور الأنصار على بعض تنقيصا بالمفضول.
وحاصل هذا أن ترتيب أشخاص النوع الواحد بالنسبة إلى حقيقة النوع لا يمكن، وإنما يكون بالنسبة إلى ما يمتاز به بعض الأشخاص من الخواص والأوصاف الخارجة عن حقيقة ذلك النوع، كالتفضيل بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وزيادة الإيمان ونقصانه.

المسألة السابعة:إذا، ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، فذلك على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء ، فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تنحل أحكامها، لم يكن التشريع موضوعا لها، لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا وكليا وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين من جميع الأحوال.

المسألة الثامنة: المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء ، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله، {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} .
والثاني: أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادة، كما أن المضار محفوفة ببعض المنافع، ومثاله إذا عارض إحياء نفس واحدة إماتة نفوس كثيرة في المحارب مثلا، كان إحياء النفوس الكثيرة أولى، فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا، لا من حيث أهواء النفوس- حتى إن العقلاء قد اتفقوا على هذا النوع في الجملة، فقد اتفقوا في الجملة على اعتبار إقامة الحياة الدنيا لها أو للآخرة، بحيث منعوا من اتباع جملة من أهوائهم بسبب ذلك.
والثالث: أن المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية، ومعنى كونها إضافية أنها منافع أو مضار في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون شخص، أو وقت دون وقت، فالأكل والشرب مثلا منفعة للإنسان ظاهرة، ولكن عند وجود داعية الأكل، وكون المتناول لذيذا طيبا، لا كريها ولا مرا، وكونه لا يولد ضررا عاجلا ولا آجلا ، وهذا كله بين في كون المصالح والمفاسد مشروعة أو ممنوعة لإقامة هذه الحياة، لا لنيل الشهوات.
والرابع: أن الأغراض في الأمر الواحد تختلف، بحيث إذا نفذ غرض بعض وهو منتفع به تضرر آخر لمخالفة غرضه.
فصل: وإذا ثبت هذا انبنى عليه قواعد:
- قاعدة: أنه لا يستمر إطلاق القول بأن الأصل في المنافع الإذن، وفي المضار المنع، كما قرره الفخر الرازي، إذ لا يكاد يوجد انتفاع حقيقي ولا ضرر حقيقي، وإنما عامتها أن تكون إضافية.
وذلك لأن المصالح والمفاسد راجعة إلى خطاب الشارع ، وأيضًا، فإذا كانت المنافع لا تخلو من مضار وبالعكس، فكيف يجتمع الإذن والنهي على الشيء الواحد، فيكون الأصل في ذلك كله الإذن وعدم الإذن معا، وذلك محال.
فإن قيل: المعتبر عند التعارض الراجح، فهو الذي ينسب إليه الحكم، وما سواه في حكم المغفَل المطرَح.
فالجواب أن هذا مما يشد ما تقدم، إذ هو دليل على أن المنافع ليس أصلها الإباحة بإطلاق، وأن المضار ليس أصلها المنع بإطلاق، بل الأمر في ذلك راجع إلى ما تقدم، وهو ما تقوم به الدنيا للآخرة، وإن كان في الطريق ضرر ما متوقع، أو نفع ما مندفع.
- قاعدة: أن القرافي أورد أشكالًا فقال:"المراد بالمصلحة والمفسدة إن كان مسماها كيف كانا، فما من مباح إلا وفيه في الغالب مصالح ومفاسد، فإن أكل الطيبات ولبس اللينات فيها مصالح الأجساد ولذات النفوس، وآلام ومفاسد في تحصيلها، مما لو خير العاقل بين وجوده وعدمه لاختار عدمه، فيلزم أن لا يبقى مباح ألبتة.
وإن أرادوا ما هو أخص من مطلقهما مع أن مراتب الخصوص متعددة، فليس بعضها أولى من بعض؛ ولأن العدول عن أصل المصلحة والمفسدة تأباه قواعد الاعتزال، فإنه سفه.
ولا يمكنهم أن يقولوا: إن ضابط ذلك أن كل مصلحة توعد الله على تركها، وكل مفسدة توعد الله على فعلها هي المقصودة، وما أهمله الله تعالى غير داخل في مقصدونا، فنحن نريد مطلق المعتبر من غير تخصيص، فيندفع الإشكال؛ لأنا نقول: الوعيد عندكم والتكليف تابع للمصلحة والمفسدة، ويجب عندكم بالعقل أن يتوعد الله على ترك المصالح وفعل المفاسد، فلو استفدتم المصالح والمفاسد المعتبرة من الوعيد، لزم الدور، ولو صحت الاستفادة في المصالح والمفاسد من الوعيد، للزمكم أن تجوزوا أن يرد التكليف بترك المصالح وفعل المفاسد، وتنعكس الحقائق حينئذ، فإن المعتبر هو التكليف، فأي شيء كلف الله به كان مصلحة، وهذا يبطل أصلكم".
قال: "وأما حظ أصحابنا من هذا الإشكال، فهو أنه يتعذر عليهم أن يقولوا: إن الله تعالى راعي مطلق المصلحة ومطلق المفسدة على سبيل التفضيل؛ لأن المباحت فيها ذلك ولم يراع، بل يقولون: إن الله ألغى بعضها في المباحات، واعتبر بعضها، وإذا سئلوا عن ضابط المعتبر مما ينبغي أن لا يعتبر عسر الجواب، بل سبيلهم استقراء الواقع فقط، وهذا وإن كان يخل بنمط من الاطلاع على بعض أسرار الفقه، غير أنهم يقولون: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} إبراهيم: ، و {يَحْكُمُ مَا يُرِيْدُ} المائدة: ، ويعتبر الله ما يشاء، ويترك ما يشاء لا غرو في ذلك، وأما المعتزلة الذين يوجبون ذلك عقلا، فيكون هذا الأمر عليهم في غاية الصعوبة؛ لأنهم إذا فتحوا هذا الباب تزلزلت قواعد الاعتزال". هذا ما قاله القرافي.
أما على مذهب الأشاعرة، فإن استقراء الشريعة دل على ما هو المعتبر مما ليس بمعتبر، لكن على وجه يحصل ضوابط ذلك.
وأما على مذهب المعتزلة، فكذلك أيضًا؛ لأنهم إنما يعتبرون المصالح والمفاسد بحسب ما أداهم إليه العقل في زعمهم .
واختلافهم فيه لا يضر في كون المصالح معتبرة شرعًا ومنضبطة في أنفسها.
- قاعدة: أن هذه المسألة إذا فهمت حصل بها فهم كثير من آيات القرآن وأحكامه، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وما كان نحو ذلك من أنها ليست على مقتضى ظاهرها بإطلاق، بل بقيود تقيدت بها.
- قاعدة: أن بعض الناس قال: "إن مصالح الدار الآخرة ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع، وأما الدنيوية، فتعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات".
وفيه بحسب ما تقدم نظر، أما أن ما يتعلق بالآخرة لا يعرف إلا بالشرع، فكما قال: وأما ما قال في الدنيوية، فليس كما قال من كل وجه، بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض، وذلك:
- لما جاء الشرع بعد زمان الفترة، تبين به ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الاستقامة.
- ولو كان الأمر على ما قال بإطلاق، لم يحتج في الشرع إلا إلى بث مصالح الدار الآخرة خاصة، وذلك لم يكن، وإنما جاء بما يقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة معًا.

المسألة التاسعة:كون الشارع قاصدا للمحافظة على القواعد الثلاث: الضرورية، والحاجية والتحسينية، لا بد عليه من دليل يستند عليه، إما أن يكون دليلا ظنيا أو قطعيا، وكونه ظنيا باطل، مع أنه أصل من أصول الشريعة، بل هو أصل أصولها، وأصول الشريعة قطعية، حسبما تبين في موضعه، فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية، ولو جاز إثباتها بالظن، لكانت الشريعة مظنونة أصلا وفرعا، وهذا باطل، فلا بد أن تكون قطعية، فأدلتها قطعية بلا بد.
والدليل القاطع فلا يخلو أن يكون عقليا أو نقليا.
فالعقلي لا موقع له هنا؛ لأن ذلك راجع إلى تحكيم العقول في الأحكام الشرعية، وهو غير صحيح، فلا بد أن يكون نقليا. والأدلة النقلية، إما أن تكون نصوصا جاءت متواترة السند، لا يحتمل متنها التأويل على حال أو لا، فإن لم تكن نصوصًا، أو كانت ولم ينقلها أهل التواتر، فلا يصح استناد مثل هذا إليها؛ لأن ما هذه صفته لا يفيد القطع، وإفادة القطع هو المطلوب، وإن كانت نصوصًا لا تحتمل التأويل ومتواترة السند، فهذا مفيد للقطع، إلا أنه متنازع في وجوده بين العلماء.
والقائل بوجوده مقر بأنه لا يوجد في كل مسألة تفرض في الشريعة، بل يوجد في بعض المواضع دون بعض، ولم يتعين أن مسألتنا من المواضع التي جاء فيها دليل قطعي.
والقائل بعدم وجوده في الشريعة يقول: إن التمسك بالدلائل النقلية إذا كانت متواترة موقوف على مقدمات عشر كل واحدة منها ظنية، والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنيًّا، فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، وعدم النقل الشرعي أو العادي، وعدم الإضمار، و عدم التخصيص للعموم، و عدم التقييد للمطلق، وعدم الناسخ، وعدم التقديم والتأخير، وعدم المعارض العقلي، وجميع ذلك أمور ظنية.
ومن قال بأن الدلائل في أنفسها لا تفيد قطعا، لكنها إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة، فقد تفيد اليقين، وهذا لا يدل قطعا على أن دليل مسألتنا من هذا القبيل؛ لأن القرائن المفيدة لليقين غير لازمة لكل دليل، وإلا لزم أن تكون أدلة الشرع كلها قطعية، وليس كذلك باتفاق، وإذا كانت لا تلزم، ثم وجدنا أكثر الأدلة الشرعية ظنية الدلالة أو المتن والدلالة معا، ولا سيما مع افتقار الأدلة إلى النظر في جميع ما تقدم دل ذلك على أن اجتماع القرائن المفيدة للقطع واليقين نادر على قول المقرين بذلك، وغير موجود على قول الآخرين. فثبت أن دليل هذه المسألة على التعيين غير متعين.
ولا يقال: إن الإجماع كاف، وهو دليل قطعي؛ لأنا نقول: هذا
أولًا: مفتقر إلى نقل الإجماع على اعتبار تلك القواعد الثلاث شرعًا.
ثانيا: إن فرض وجوده، فلا بد من دليل قطعي يكون مستندهم، ويجتمعون على أنه قطعي، فقد يجتمعون على دليل ظني، فتكون المسألة ظنية لا قطعية، فلا تفيد اليقين ، وعند ذلك يصعب الطريق إلى إثبات كون هذه القواعد معتبرة شرعا بالدليل الشرعي القطعي.
وإنما الدليل على المسألة ثابت على وجه آخر هو روح المسألة، وذلك أن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعا أحد ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع، وأن اعتبارها مقصود للشارع. ودليل ذلك استقراء الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية ، على حد ما ثبت عند العامة جُودُ حاتم، وشجاعة علي رضي الله عنه، وما أشبه ذلك، فلم يعتمد الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص، ولا على وجه مخصوص، بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات، والمطلقات والمقيدات، والجزئيات الخاصة.

المسألة العاشرة: هذه الكليات الثلاث إذا كانت قد شرعت للمصالح الخاصة بها، فلا يرفعها تخلف آحاد الجزئيات. ولذلك أمثلة: أما في الضروريات، فإن العقوبات مشروعة للازدجار، مع أنا نجد من يعاقب فلا يزدجر عما عوقب عليه، ومن ذلك كثير، وأما في الحاجيات، فكالقصر في السفر، مشروع للتخفيف وللحوق المشقة، والملك المترفه لا مشقة له، والقصر في حقه مشروع، والقرض أجيز للرفق بالمحتاج مع أنه جائز أيضًا مع عدم الحاجة، وأما في التحسينيات، فإن الطهارة شرعت للنظافة على الجملة مع أن بعضها على خلاف النظافة كالتيمم.
فكل هذا غير قادح في أصل المشروعية:1- لأن الأمر الكلي إذا ثبت كليا، فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا، 2-وأيضًا، فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي.
فإذا كان كذلك، فالكلية في الاستقرائيات صحيحة، وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات.
وأيضا، فالجزئيات المتخلفة قد يكون تخلفها لحكم خارجة عن مقتضى الكلي، فلا يكون داخلة تحته أصلا، أو تكون داخلة لكن لم يظهر لنا دخولها، أو داخلة عندنا، لكن عارضها على الخصوص ما هي به أولى.

المسألة الحادية عشرة: مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة، لا تختص بباب دون باب.
ومن الدليل على أن الأحكام مشروعة لمصالح العباد، ولو اختصت لم تكن موضوعة للمصالح على الإطلاق.
وقد زعم القرافي أن القول بالمصالح إنما يستمر على القول بأن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد.
ونقل عن شيخه ابن عبد السلام في الجواب أنه يتعين على هؤلاء أن يقولوا: عن هذه القاعدة لا تكون إلا في الأحكام الإجماعية، أما في مواطن الخلاف، فلم يكن الصادر عن الله تعالى أن الحكم تابع للراجح في نفس الأمر، بل ما في الظنون فقط، كان راجحًا في نفس الأمر أو مرجوحًا.
إذ حكم الله عندهم تابع لنظر المجتهد والمصالح تابعة للحكم أو متبوعة له فتكون المصالح أو المفاسد في مسائل الخلاف ثابتة بحسب ما في نفس الأمر عند المجتهد وفي ظنه، ولا فرق هنا بين المخطئة والمصوبة، فإذا غلب على ظن المالكي أن ربا الفضل في الخضر والفواكه الرطبة جائز، فجهة المصلحة عنده هي الراجحة، وهي كذلك في نفس الأمر في ظنه، لأنها عنده خارجة عن حكم الربا المحرم، وإذا غلب على ظن الشافعي أن الربا فيها غير جائز، فهي عنده داخلة تحت حكم الربا المحرم، وجهة المصلحة عنده هي المرجوحة لا الراجحة.

المسألة الثانية عشرة: إن هذه الشريعة المباركة معصومة، كما أن صاحبها صلى الله عليه وسلم معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة.ويتبين ذلك بوجهين:
أحدهما: الأدلة الدالة على ذلك تصريحا وتلويحا، كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}وقوله {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا}.
والثاني: الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن، وذلك أن الله عز وجل وفَّر دواعي الأمة للذب عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل.

المسألة الثالثة عشرة: كما أنه إذا ثبت قاعدة كلية في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات، فلا ترفعها آحاد الجزئيات كذلك نقول: إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة أو في آحادها، فلا بد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي وذلك الجزئيات، فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي أن لا يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع، والدليل على ذلك أمور:
- منها: ورود العتب على التارك في الجملة من غير عذر، كترك الصلاة، أو الجماعة.
- ومنها: أن عامة التكاليف من هذا الباب لأنها دائرة على القواعد الثلاث، فدل على أن الجزئيات داخلة مدخل الكليات في الطلب والمحافظة عليها.
- ومنها: أن الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي، لم يصح الأمر بالكلي من أصله، لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه، لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات.
وأيضا، فإن المقصود بالكلي هنا أن تجري أمور الخلق على ترتيب ونظام واحد لا تفاوت فيه ولا اختلاف، وإهمال القصد في الجزئيات يرجع إلى إهمال القصد في الكلي.
فإن قيل: هذا يعارض القاعدة المتقدمة أن الكليات لا يقدح فيها تخلف آحاد الجزئيات.
فالجواب: إن القاعدة صحيحة، ولا معارضة فيها لما نحن فيه، فإن ما نحن فيه معتبر من حيث السلامة من العارض المعارض، فلا شك في انحتام القصد إلى الجزئي، وما تقدم معتبر من حيث ورود العارض على الكلي، حتى إن تخلف الجزئي هنالك، إنما هو من جهة المحافظة على الجزئي في كليه من جهة أخرى، كما نقول: إن حفظ النفوس مشروع- وهذا كلي مقطوع بقصد الشارع إليه، ثم شرع القصاص حفظا للنفوس، فقتل النفس في القصاص محافظة عليها بالقصد، ويلزم من ذلك تخلف جزئي من جزئيات الكلي المحافظ عليه، وهو إتلاف هذه النفس لعارض عرض وهو الجناية على النفس، فإهمال هذا الجزئي في كليه من جهة المحافظة على جزئي في كليه أيضا، وهو النفس المجني عليها، فصار عين اعتبار الجزئي في كلي هو عين إهمال الجزئي، لكن في المحافظة على كليه من وجهين، وهكذا سائر ما يرد من هذا الباب.
فعلى هذا تخلف آحاد الجزئيات عن مقتضى الكلي إن كان لغير عارض، فلا يصح شرعا، وإن كان لعارض، فذلك راجع إلى المحافظة على ذلك الكلي من جهة أخرى، أو على كلي آخر، فالأول يكون قادحا تخلفه في الكلي، والثاني لا يكون تخلفه قادحا.
 
أعلى