رد: إعادة التوازن.. قراءة في كتاب "الماجريات" لإبراهيم السكران
فكرة الكتاب:
من المهم قبل البدء في إبراز فكرة الكتاب أن أورد - بتصرف - توضيح المؤلف لهذه اللفظة المركّبة «الماجريات»، فهي تعني الأحداث والوقائع والأخبار، حيث تولدت بأسلوب التركيب المزجي: فـ«الـ» للتعريف، و«ما» الموصولية بمعنى الذي، و«جرى» بمعنى وقع وحدث، وجُمعت بالألف والتاء لتصبح «الماجَرَيَات».
وهي كلمة استعملها المؤرخون والأدباء في العصر الإسلامي الوسيط، كما نجدها عند ابن خلكان والسخاوي وغيرهم بمعنى الأخبار والحوادث، وآل بها الأمر إلى أن أصبحت تعني عند علماء السلوك: اشتغال المرء بالأخبار والأحداث التي لا نفع فيها. قال ابن القيم رحمه الله: «فإن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حل، ونصحه لكل من اجتمع به... ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة، ومحقت بركة لقائه، فإنه يضيع الوقت في الماجريات ويفسد القلب». فنجد أن علماء السلوك قد جعلوا الانشغال بالأخبار والحوادث العامة والخاصة التي لا نفع فيها من ضياع الأوقات وقلة البركة.
هذا ما يتعلق ببناء لفظة «الماجريات» ومعناها، أما الكتاب فهو يتحدث بشكل عام عن مسألة الانشغال بهذه الماجريات، أي الانشغال بتتبع الأخبار والحوادث والتعقيبات والتعليقات عليها، وعالجها المؤلف معالجة تأصيلية شرعية طبية نفسية، تمكن فيها باقتدار من سبر أغوارها وتتبع مسالكها، مستدعيًا الدلائل والشواهد المتنوعة، ليصل في خلاصة بحثه إلى أن الانشغال بالماجريات، سواء كانت اجتماعية أو شبكية أو سياسية، ينبغي أن يُضبط بعدد من الموازين ليكون - أعني الانشغال بالماجريات - نافعًا ومنتجًا وذا تأثير. وانفلات الموازين في هذه المسألة يفضي إلى أحد طرفين، إما الانهماك والإفراط المؤدي إلى ضياع الأوقات وقلة الإنتاج والسلبية والانتقال من موقع المؤثر إلى موقع المتفرج، وإما الانقطاع الكامل المؤدي إلى العزلة السلبية والانتقال من موقع المؤثر أيضًا، لكن إلى موقع الهارب من الواقع.
وكان المؤلف في كل منعطفات «الماجريات» يدعو إلى إعادة التوازن في الانشغال بالماجريات، فهو كما يحذر من الانهماك في الماجريات و«المتابعة المتفرجة» إلا أنه لم يدعُ أبدًا إلى الانقطاع الكامل عنها، كما نصّ مرارًا على هذا. يقول حفظه الله تعالى معقبًا على إحدى التجارب في الماجريات السياسية: والمبهج في كل هذه التجارب الأربع أن أصحابها أكدوا في صيغ متنوعة أن مقصودهم «التوازن» وليس قطع العلاقة المباشرة مع الواقع والشأن العام. ص223.
والمؤلف يعالج مسألة «الماجريات» في ظل طفرة انفتاحية على العالم بأحداثه وأخباره وأفكاره، وفي ظل توفر هذا الكم الهائل عبر القنوات الفضائية والأجهزة الذكية، التي لم يسلم من انفلات موازين ضبطها حتى طلبة العلم ومشايخه والدعاة والمصلحون! فهي مسألة ليست بالنادرة، وليست ترفًا علميًّا، بل هي شكوى مريرة باح بها علماء ودعاة ومصلحون، ومن هنا فإن قيمة الكتاب تتصاعد للحاجة إليه من هذه الشريحة بالذات قبل غيرها.