العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

فهم التشيع جزء 6 صراع العلويين وشيعتهم ضد خصومهم السياسيين (2)

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
طبيعة صراع العلويين وشيعتهم ضد خصومهم السياسيين (2)

عنفٌ مُتبَادَل

استولى الأميون على السلطة بعد حروب ضارية ذهب ضحيتها الألوف من المسلمين، ونتج عن ذلك شعور بالأسى والحقد في أوساط عريضة من خصومهم السياسيين الذين أخذوا يتحينون الفرصة لإسقاط حكمهم. وفضلا عن ذلك، لم تكن سيرة كثير من الحكام والولاة في العصر الأموي سيرة حميدة، ولم يلتزموا طريق الشورى والعدل، فكثُرَ خصومهم المتربصون بهم، وظهرت الثورات هنا وهناك، فأصاب الأمويين بسبب ذلك هاجس الخوف من سقوط حكمهم. وكانت ذرية عليّ رضي الله عنه من أهمّ المراكز التي يلجأ إليها الثائرون أو الراغبون في الثورة لكسب المشروعيّة من خلال القتال باسمهم، أو تحت شعار الدعوة إلى الثّأر لهم، أو إرجاع حقّ الخلافة إليهم. وكان الأمويون يدركون ذلك جيداً ويقدِّرون مدى خطورته، فرصدوا تحركات العلويين والعباسيين وتحرُّكات شيعتهم ومناصريهم، ولكنهم لم يقاتلوا إلا من أعلن الثورة عليهم. وقد كان بعض خلفاء بني أميّة يسعون قدر استطاعتهم إلى تجنُّب الصراع مع آل عليّ رضي الله عنه، ومن ذلك ما أورده اليعقوبي عن عبد الملك بن مروان حيث يقول: "وكان عبد الملك قد كتب إلى الحجاج وهو على الحجاز: جَنِّبْنِي دماءَ آل أبي طالب فإني رأيت آل حرب لما تهجَّمُوا بها لم يُنْصَروا"، وأرسل إليه عليّ بن الحسين يشكره على ذلك.([1])

لقد قتل الأمويون كثيراً من الثائرين على حكمهم من العلويين وشيعتهم، ومن العباسيين وشيعتهم، وسجنوا بعضهم، واضطهدوا من عارض سياستهم أو ثار على حكمهم. ولم يكن موقف الشيعة من الأمويين أرحم من ذلك؛ فقد كَفَّرُوهُم وأخرجوهم من دائرة الإسلام ووصفوهم بكلّ الأوصاف القبيحة، وصبُّوا عليهم لعنات الدنيا والآخرة، ثم لم يقصِّرُوا في قتل وحرق كلّ من تمكنُّوا منه من خصومهم. أورد اليعقوبي أنّ جيش الشيعة بقيادة عبد الرحمان بن سعيد "قتل الحصين بن نمير السكوني وشرحبيل بن ذي الكلاع الحميري وحرَّق أبدانهما بالنار...ووجّه برأس عبيد الله بن زياد إلى عليّ بن الحسين عليه السلام إلى المدينة مع رجل من قومه...فجاء الرسول إلى باب عليّ بن الحسين عليه السلام، فلما فتحت أبوابه ودخل الناس للطعام، نادى بأعلى صوته: يا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومهبط الملائكة ومنْزل الوحي أنا رسول المختار ابن أبي عبيد معي رأس عبيد الله بن زياد، فلم تبق في شيء من دور بني هاشم امرأة إلاّ صرخت، ودخل الرسول فأخرج الرأس، فلما رآه عليّ بن الحسين عليه السلام قال: أَبْعَدَهُ اللهُ إلى النار. وروى بعضهم أنّ عليّ بن الحسين عليه السلام لم يُرَ ضاحكاً يوماً قطُّ منذ قُتِلَ أبوه إلاّ في ذلك اليوم... وتَتَبَّعَ المختارُ قَتَلَةَ الحسين فقتل منهم خلقاً عظيماً حتى لم يبق منهم كثير أحد، وقتل عمر بن سعد وغيره وحرّق بالنار وعذَّب بأصناف العذاب".([2])

ويروى أنّ المختار بن أبي عبيد جعل على شرطته كيساً أبا عمرة "وأمره أن يجمع ألفَ رجلٍ من الفعلة بالمعاول، ويتتبع دُورَ من خرج إلى قتال الحسين بن عليّ فيهدمها، وكان أبو عمرة بذلك عارفاً، فجعل يدور بالكوفة على دورهم فيهدم الدار في لحظة. فمن خرج إليه منهم قتله، حتى هدم دوراً كثيرة، وقَتَلَ أناساً كثيرين، وجَعَلَ يطلب ويستقصي، فمن ظفر به قتله وجعل ماله وعطاءه لرجل من أبناء العجم الذين كانوا معه".([3])
من خلال ما سبق ذكره يتبين أنه إذا كان عنف الحجاج بن يوسف يمثِّل وَصْمَةَ عارٍ في تاريخ الدولة الأمويّة، فإن صاحب شُرْطَةِ المختار بن أبي عبيد كان أكثر ظُلْماً وشَرّاً من الحجاج بن يوسف؛ فلم يصل الحجاج أبدا إلى درجة العقاب الجماعي بهدم البيوت على من فيها وقتل الأطفال والنساء تحت الأنقاض، ولم يحرق أحداً بالنار، فأيُّ الحَجَّاجَيْنِ أَعْنَفُ وأقْسَى: حَجَّاُج الأمويين أم حَجَّاُج الشيعة؟

كما أورد اليعقوبي وصيّة أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي العباسي، وفيها: "وانظر هذا الحيّ من تميم وقيس فأقصهم ثم أَبِدْهُم إلاّ من عَصَمَ الله منهم ..".([4])

ويذكر التاريخ أنه بعد انتصار التّحالف الشيعي العباسي على الأمويين وإسقاط الدولة الأموية قام زعماء التّحالف وأنصارهم بالانتقام من الأمويين شرّ انتقام، ولم يسلم من بطشهم الأحياء ولا الأموات، فقتلوا من وقع تحت أيديهم وشرّدوا من نَجَا من قبضتهم، ووصلوا إلى أن نبشوا قبور الأموات وأحرقوا رفاتهم.

اقرأ هذه اللقطات: "حكى الهيثم بن عدي الطائي، عن عمرو بن هانئ، قال: خرجت مع عبد الله بن عليّ لِنَبْشِ قبور بني أميّة في أيام أبي العباس السفاح، فانتهينا إلى قبر هشام، فاستخرجناه صحيحاً ما فقدنا منه إلاّ خورمة أنفه، فضربه عبد الله [بن علي] ثمانين سوطاً، ثم أحرقه، واستخرجنا سليمان من أرض دابق، فلم نجد منه شيئاً إلاّ صلبه وأضلاعه ورأسه، فأحرقناه، وفعلنا ذلك بغيرهما من بني أميّة…ثم اتبعنا قبورهم في جميع البلدان، فأحرقنا ما وجدنا فيها منهم".([5])

وبذلك أثبت التاريخ أنّ الشيعة والعباسيين لم يكونوا أَرَقَّ أفْئِدَةً ولا أَلْيَنَ جَانِباً ولا أَوْسَعَ صُدُوراً من الأمويين، بل إنهم كانوا أشدَّ عُنْفاً وأكثر وحشيَّةً بكثير من الأمويين؛ فلم يذكر التاريخ عن الأمويين أنهم أحرقوا الناس بالنار أو نبشوا قبور الأموات وأحرقوا رفاتهم.

إثارة العصبيّات الجاهليّة

لقد أعمى الصراع السياسي الدموي الذي ثار بين الهاشميين والأموين البصائر، وتراكمت الأحقاد، ووصل الأمر إلى إثارة العصبيات الجاهلية التي تسببت في قتل آلاف المسلمين. روى ابن سعد في طبقاته عن محمد بن عليّ بن أبي طالب أنه قال: "أهلُ بَيْتَيْنِ من العرب يتّخذُّهما الناسُ أنداداً من دون الله: نحنُ وبنو عمّنا هؤلاء - يعني بني أمية"، وقال: "نحن أهلُ بيتين من قريش نُتَّخَذُ من دون الله أنداداً - نحن وبنو أميّة."([6]) وصدق محمد بن علي بن أبي طالب، فإن كثيرا من الناس قد تحزّبوا في ذلك الوقت إمّا حول الأمويين أو العلويين، ثم بعد الأمويين إما حول العلويين أو العباسيين، وأُهْدِرَت طاقاتُ الأمة في قتالٍ تُغَذِّيه العصبيّات والصراع على السلطة، ولم يكن للدين فيه سوى نصيب قليل. وهل يضرُّ الإسلامَ أو ينفعه أن تكون الخلافة في بيت العلويين أو في بيت الأمويين أو في بيت العباسيين أو في بيت آخر من المسلمين؟ ليس الذي يُقَدِّمُ الإسلامَ أو يؤخِّرُه هو الأسرة أو القبيلة التي تحكم، وإنما الذي ينفعه أو يضره هو نوع الحاكم وصفاته وأخلاقه وبطانته. إن الإسلام لا ينظر إلى عصبيّات الناس وأنسابهم، وإنما يريد أن يتولّى أمرَ المسلمين رجلٌ صالح كُفْءٌ يحمل الناسّ على طريق الحقّ ويخدمهم في دنياهم ويجمع كلمتهم ويوحِّد صفّهم ويدفع بالإسلام إلى البلاد التي لم تَرَ نورَه بعد.

لقد أَهْدَرَتْ تلك الصراعات العصبيّة طاقات الإسلام والمسلمين، وأراقت الدماء من غير جدوى، وقُتِل ورُوِّعَ الآلاف، وقَلَّ الأَمْنُ، وخَمَدَ زخْم الفتوحات الإسلامية، وكَثُرَت التّقلبات السياسيّة، وكَثُرَ المتطلِّعون إلى الخلافة المدَّعُون أولويّتهم بها، وقُمِعَ العقلاءُ والصالحون، وأثيرت العصبيّات الجاهليّة. وقد ساعد على ذلك ضعف الوعي السياسي لدى الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أورد المسعودي في كتابه مروج الذهب أنّ الكُميت الشاعر قدم المدينة، فأتى أبا جعفر محمد بن عليّ بن الحسين وأنشده شعراً في فضل آل البيت ورثائهم، فقال له أبو جعفر: "لو كان عندنا مال لأعطيناك"، "فأتى عبد الله بن الحسن بن عليّ فأنشده، فقال: يا أبا المستهل، إنّ لي ضيعة [قد] أُعْطَيْتُ فيها أربعة آلاف دينار، وهذا كتابها، وقد أشهدت لك بذلك شهوداً، وناوله إياه".([7]) ولما رفض الكميت أن يقبض ذلك، قام عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فطاف على بيوت الهاشميين يجمع الدراهم والدنانير والحليّ، وجاء بها إلى الكميت، ولكن الكميت أبى أن يقبلها، وعند ذلك قال له عبد الله: "إنْ أبيت أن تقبل فإني رأيت أن تقول شيئاً تُغْضِبُ به بين الناس، لعلّ فِتْنَة تَحْدُث فيخرج من بين أصابعها بعض ما تحبّ، فابتدأ الكميت وقال قصيدته التي يذكر فيها مناقب قومه من مضر بن نزار بن مَعَد وربيعة بن نزار وأياد وأنمار بن نزار، ويكثر فيها من تفضيلهم، ويطنب في وصفهم، وأنهم أفضل من قحطان؛ فَغَضَّبَ بها بين اليمانية والنِّزارية...وقد نقض دِعْبِل بن علي الخزاعي هذه القصيدة على الكميت وغيرها، وذكر مناقب اليمن وفضائلها من ملوكها وغيرها، وصرّح وعرَّض بغيرهم...وافتخرت نزار على اليمن، وافتخرت اليمن على نزار، وأدلى كلُّ فريق بما له من المناقب، وتحزبت الناس، وثارت العصبية في البدو والحضر...ثم ما تلا ذلك من قصة مَعْن بن زائدة باليمن وقَتْله أهلَها تَعَصُّباً لقومه من ربيعة...وفعلُ عقبة بن سالم بعُمان والبحرين، وقتلُه عبد القيس وغيرهم من ربيعة...".([8])

وثارت بذلك العصبية الجاهلية -التي جاء الرسول صلى الله عليه وسلم لمحاربتها- بين نزار وقحطان من أجل تحويل الولاءات السياسية. وهكذا ترى أنّ الصراع كان في كثير من مراحله عصبيا، حيث كان كلّ طرف يستحلّ كلّ الوسائل المؤدّية إلى إضعاف الخصم وتقويض أركان بُنْيَانِه وإن كان ذلك بسفك دماء المسلمين وإثارة العصبيات الجاهلية بينهم.

([1]) اليعقوبي. تاريخ اليعقوبي. ج3. ص47.
([2]) اليعقوبي. تاريخ اليعقوبي. ج3. ص6.
([3]) الدينوري، أبو حنيفة أحمد بن داود. (د.ت.). الأخبار الطوال. تحقيق: عبد المنعم عامر. مراجعة: الدكتور جمال الدين الشيال. وزارة المعارف والإرشاد القومي. ص292.
([4]) اليعقوبي. تاريخ اليعقوبي. ج3. ص41.
([5]) المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر. ج3. ص219؛ وانظر أيضا: اليعقوبي. تاريخ اليعقوبي. ج3. ص93.
([6]) ابن سعد. الطبقات الكبرى. ج5. ص70.
([7]) المسعودي. مروج الذهب ومعادن الجوهر. ج3. ص243.
([8]) المرجع نفسه. ج3. ص243-246.
 
أعلى