العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

فهم التشيع جزء 7 صراع العلويين وشيعتهم ضد خصومهم السياسيين (3)

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
طبيعة صراع العلويين وشيعتهم ضد خصومهم السياسيين(3)

صراع العلويين وشيعتهم ضد العباسيين

لقد تحالف العباسيون مع العلويين وشيعتهم لإسقاط الحكم الأموي. وعلى الرغم من أن العباسيين سحبوا البساط من تحت العلويين وأخذوا الحكم لأنفسهم، إلا أنهم كانوا يرون أنّ ثورتهم تمثّل كلَّ آل البيت بما فيهم العلويين، وكانوا يرون في إسقاطهم للدولة الأمويّة انتقاماً وثأراً للعلويين والعباسيين جميعاً. وفي ذلك يقول أبو العباس السفاح أوّل خليفة من خلفاء الدولة العباسية -حين أُحْضِرَ أمامه رأس مروان بن محمد آخر خلفاء الدولة الأموية- فيما يرويه المسعودي: "ما أبالي متى طرقني الموت، قد قتلت بالحسين وبني أبيه مِنْ بني أميّة مائتين؛ وأحرقت شِلْوَ هشام بابن عمّي زيد بن عليّ، وقتلت مروان بأخي إبراهيم".([1])

وكان العبّاسيّون يرون أنهم استطاعوا أن يحقِّقُوا لآل البيت ما عجز عن تحقيقه العلويون وشيعتهم، ومن ثَمّ فإنه ما كان ينبغي للعلويين وشيعتهم أنْ يثوروا عليهم. وفي ذلك يقول الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور لَمّا سمع بثورة محمد بن عبد الله (الملقب بالنفس الزكيّة): "أَمَا والله لقد عجزوا عن أَمْرٍ قُمْنَا له، فما شكروا [القائم] ولا حمدوا الكافي، ولقد مهدوا فاستوعروا، وغبطوا فغمطوا، فماذا تحاول منّي؟ أُسْقَى رَنِقاً على كَدَرٍ؟ كلاّ والله، لأنْ أموتَ معزَّزاً أحبّ إليّ [من] أنْ أحْيَا مُسْتَذَلاًّ، ولئن لم يَرْضَ العفو منِّي ليطلُبَنّ ما لا يوجد عندي، والسعيد من وُعِظَ بغيره".([2])
وقد أكرم العباسيون العلويين وشيعتهم وأغدقوا عليهم الأموال، ومن ذلك أن الخليفة العباسي المأمون زوَّج ابنته لعلي بن موسى (الرضا) وهو الإمام الثامن للشيعة الإثني عشرية،([3]) كما تبوأ الشيعة مناصب رفيعة في الدولة العباسية. ولكن بعض العلويين وشيعتهم لم يقبلوا بهذا الواقع، وراحوا يشعلون الثورات ضد الحكم العباسي.

وقد نقل المسعودي نَصّاً للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور يقيِّم فيه تجربة العلويين وشيعتهم في السعي إلى السلطة. وهذا النص والنصوص السابقة تبيّن أنّ العباسيين لم يكن لهم أيّ شعور عدائي اتجاه العلويين وشيعتهم، بل إنهم قتلوا الكثيرَ من الأمويين ونبشوا قبورهم انتقاماً لرموز البيت العلوي الذين قُتِلُوا من قِبَل السلطة الأموية، ولكن الشيعة وبعضَ رموزِ البيت العلوي هم الذين بدأوا بالعداوة ضدّ العبّاسيين، وهم الذين بدأوا بالثورة على العبّاسيين على الرغم من إكرام العباسيين لهم، فكان ردّ فعل العبّاسيين في الأساس دفاعاً عن أنفسهم وسلطتهم، وكما يقال: الخير بالخير والبادئ أكرم، والشرّ بالشرّ والبادئ أظلم، وفيما يأتي ذلك النص.

قال المسعودي: "لَمّا أَخَذَ المنصور عبد الله بن الحسن و[إخوته والنّفر الذين كانوا معه من] أهل بيته صَعِد المنبر بالهاشميّة، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا وأنصارنا، وأهل دعوتنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا خيراً منّا، إنّ ولد ابن أبي طالب تركناهم والذي لا إله إلاّ هو والخلافَةَ فلم نعرض لهم لا بقليل ولا بكثير، فقام فيها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فما أفلح، وحكّم الحكمين؛ فاختلفت عليه الأمّة، وافترقت الكلمة، ثمّ وَثَبَ عليه شيعته وأنصاره وثقاته فقتلوه، ثم قام بعده الحسن بن عليّ رضي الله عنه فوالله ما كان بِرَجُلٍ، عُرِضَت عليه الأموال فقبلها، ودَسَّ إليه معاوية إني أجعلك وليّ عهدي، فخلعه وانسلخ له مما كان فيه، وسلّمه إليه، وأقبل على النساء يتزوّج اليوم واحدة ويطلّق غداً أخرى، فلم يزل كذلك حتى مات على فراشه، ثم قام من بعده الحسين بن عليّ رضي الله عنه، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة أهل الشِّقاق والنِّفاق والإغْراق في الفِتن، أهلُ هذه الـمَدَرَة السّوء، وأشار إلى الكوفة، فوالله ما هي لي بِحَرْبٍ فأحاربها، ولا هي لي بِسِلْمٍ فأسالمها، فرَّق الله بيني وبينها! فخذلوه وأبرأوا أنفسهم منه، فأسلموه حتى قُتِل، ثم قام من بعده زيد بن عليّ فخدعه أهل الكوفة وغرّوه، فلمّا أظْهَرُوه وأخْرَجُوه أَسْلَمُوه، وقد كان أبي محمد بن عليّ ناشده الله في الخروج، وقال له: لا تَقْبَل أقاويل أهل الكوفة فإنّا نجد في علمنا أنّ بعض أهل بيتنا يُصْلَبُ بالكُنَّاسة، وأخشى أن تكون ذلك المصلوب، وناشده الله بذلك عمّي داود وحذَّره رحمه الله غَدْرَ أهل الكوفة فلم يقبل، وتَمّ على خروجه، فقُتِلَ وصُلِبَ بالكُنَّاسَة، ثم وَثَبَ بنو أميّة علينا فابتزُّونَا شَرَفَنَا، وأذهبوا عِزَّنَا، والله ما كان لهم عندنا تِرَةٌ يطلبونها، وما كان ذلك كلّه إلاّ فيهم وبسبب خروجهم، فَنَفُونَا عن البلاد، فَصِرْنا مرّة بالطّائف، ومرّة بالشّام، ومرّة بالسَّراة، حتى ابتعثكم الله شيعةً وأنصاراً، فأحيا الله شَرَفَنَا وعِزَّنَا بكم [يا أهل خراسان، ودفع بحقّكم أهلَ الباطل] وأظهر لنا حَقَّنَا، وأصَارَ إلينا [أمرنا و] ميراثنا من نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، فَقَرَّ الحقُّ في قَرَارِه، وأظهر الله مَنَارَهُ، وأعزّ أنْصَارَه، وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. فلمّا استقرّت الأمور فينا على قرارها من فضل الله وحكمه العدْل وَثَبُوا علينا حَسَداً منهم لَنَا وبَغْياً علينا، بما فضَّلنا الله به عليهم، وأكرمنا من خلافته ميراثنا من نبيّه، وجُبْناً من بني أميّة، وجَرَاءَةً علينا، إني والله يا أهل خراسان ما أَتيتُ ما أتيتُ من هذا الأمر من جَهَالة [ولا عن ظِنَّةٍ] ولقد كُنْتُ يَبْلُغُنِي عنهم بعض السَّقَم، ولقد كُنْتُ سَمَّيْتُ لهم رجالاً فقلت: قُمْ أنت يا فلان فَخُذْ معك من المال كذا وكذا، وقُمْ أنت يا فلان فَخُذْ معك من المال كذا وكذا، وحَذَوْتُ لهم مثالاً يعملون عليه فخرجوا حتى أتوا المدينة فلقوهم فدسُّوا ذلك المال، فوالله ما بقيَّ منهم شيخٌ ولا شابٌّ ولا صغير ولا كبير إلاّ بَايَعَهُم لي، فاسْتَحْلَلْتُ به دماءَهم، وحَلَّتْ عند ذلك بِنَقْضِهِم بَيْعَتِي وطَلَبِهِم الفِتْنَة والْتِمَاسِهِم الخُرُوجَ عليّ".([4])

تأمّل قول أبي جعفر المنصور: "ثم وَثَبَ بنو أميّة علينا فابتزُّونَا شَرَفَنَا، وأذهبوا عِزَّنَا، والله ما كان لهم عندنا تِرَةٌ يطلبونها، وما كان ذلك كلّه إلاّ فيهم وبسبب خروجهم، فَنَفُونَا عن البلاد، فَصِرْنا مرّة بالطّائف، ومرّة بالشّام، ومرّة بالسَّراة". فأبو جعفر المنصور يعترف أنّ سبب إيذاء الأمويين للعلويين والعباسيين ومَن شَايَعَهُم هو تلك الثورات المتكرِّرة التي قام بها بعض العلويين أو بعض الشيعة باسمهم. وهذا اعتراف من قِبَلِ واحد من أعداء الأمويين ينفي ما يدّعيه الشيعة من أنّ الأمويين كانوا يتعمّدون قَتْلَ العلويين واضطهاد شيعتهم بغضاً لآل البيت ورغبة في إذلالهم والقضاء عليهم.

نقل الصراع من السياسة إلى العقيدة

على الرغم من أن الأمويين والعباسيين دخلوا في صراع عنيف مع الشيعة، إلاّ أنهم لم يصلوا إلى درجة تكفيرهم وإخراجهم من ملة الإسلام، ولكن الشيعة بالغوا في عداوتهم لمخالفيهم حتى أخرجوا كل من لم يعترف بإمامة أئمتهم من دائرة الإسلام! روى الكليني بسنده: "لا يكون العبد مؤمنا حتى يعرف الله ورسوله والأئمة كلهم وإمام زمانه ويرد إليه ويسلم له."([5]) وروى الكليني أيضا بسنده عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر يقول: "كل من دان الله عز وجل بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إِمَامَ لَهُ مِن الله، فسعيه غير مقبول وهو ضَالٌّ مُتَحَيِّرٌ واللهُ شَانِئٌ لأعماله...وإن مات على هذه الحالة مات مَيْتَةَ كُفْرٍ ونِفَاق، واعلم يا محمد أن أئمة الجور وأتباعهم لَمَعْزُولُون عن دين الله، قد ضلوا وأضلوا فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد".([6])

قمة الانتقام

افترض الشيعة الإثني عشرية كون بعض الأشخاص من ذرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه أئمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعلوا إمامتهم شاملة لأمور الدين والدنيا، ولكن لم تكن وقائع التاريخ محققة لآمالهم، فلم يحكم من أولئك الأئمة سوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابنه الحسن لفترة وجيزة تنازل بعدها عن الحكم وبايع معاوية بن أبي سفيان، وأصبحت السلطة بعد ذلك للأمويين، ثم بعدهم للعباسيين، وخابت آمال الشيعة في الاستيلاء على الحكم والتنعُّم بما يجلبه لهم من امتيازات ونفوذ. وقد نتج عن ذلك إحباط وحقد عندهم، ودفع ذلك الشعور بالإحباط والحقد بعض منظري التيار الشيعي إلى التعويض عن تلك الخسارة بابتكار عقيدة الرِّجْعة، ومعناها القول بأن أئمة الشيعة الإثني عشرية سيرجعون قبل قيام الساعة مع بعض شيعتهم، عندما يقوم مهدي الشيعة المنتظر ويحكم الدنيا، ويُرجع الله تعالى معهم أعداءهم من الخلفاء الراشدين والصحابة والأمويين والعباسيين، ليرى أولئك الأعداء بأعينهم انتصار الشيعة وحكم المهدي فيصيبهم بذلك الذل والخزي، ثم يقوم الأئمة وشيعتهم بالانتقام من أولئك الأعداء شرّ انتقام. ومن أجل إثبات هذا الاعتقاد وضعوا نصوصا نسبوها إلى جعفر الصادق أنه قال: "ليس منّا مَنْ لم يؤمن برجعتنا"، وفي شرح عقيدة الرجعة يقول السيد المرتضى: "اعلم أنّ الذي تذهب الشيعة الإماميّة إليه أنّ الله تعالى يعيد -عند ظهور إمام الزمان المهديّ عليه السلام- قومًا ممّن كان قد تقدّم موته من شيعته، ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته. ويعيد أيضًا قومًا من أعدائه لينتقم منهم."([7])


([1]) المسعودي. مروج الذهب ومعادن الجوهر. ج3. ص271.
([2]) المرجع نفسه. ج3. ص309.
([3]) النوبختي. فرق الشيعة. ص74.
([4]) المسعودي. مروج الذهب ومعادن الجوهر. ج3. ص311-312.
([5]) الكليني. أصول الكافي. ج1. ص255.
([6]) المرجع نفسه. ج1. ص259-260.
([7]) الشريف المرتضى. (1405هـ). رسائل الشريف المرتضى. قم: دار القرآن. ج1. ص125.
 
أعلى