أحمد بن فوزي بن وجيه
:: متابع ::
- إنضم
- 29 يناير 2019
- المشاركات
- 7
- الكنية
- ابو محمد
- التخصص
- محاسبة
- المدينة
- القاهرة
- المذهب الفقهي
- سلفي
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
تكلمت في الحلقة الأولى عن آيات القرآن الكريم وبينت في حوار بين طرفين أن ليس في كتاب الله تعالى دليل على تحريم الغناء أو الموسيقى. والآن مع الحلقة الثانية بين أخوين متناظرين باحترام وود:
قال المحرم: لو سلمنا أنه لا يوجد نص في القرآن الكريم يحرم الغناء ففي السنة نصوص كثيرة وصريحة في التحريم فهل ترفضها وتقول لا أقبل إلا ما ورد في كتاب الله فهو حسبنا وكفى ؟!
قال المبيح: معاذ الله أن أرفض حديثاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقول: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ويقول سبحانه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ولكن أين هي هذه الأحاديث الصحيحة وقد بحثت عامتها ولا تسلم من الضعف في أسانيدها كما قاله بعض الأئمة من السلف والخلف كابن حزم والحافظ محمد بن طاهر المقدسي والفاكهاني وغيرهم .
قال المحرم: أخطأت يا أخي فهناك حديث المعازف في صحيح البخاري وهو وإن كان بصيغة التعليق لكنه موصول صحيح الاسناد كما قاله جمع مبارك من العلماء والحفاظ, وقد وسّع الحافظ ابن حجر في فتح الباري في بحث هذا الحديث واثبات صحته, كذلك الامام الألباني في تحريم آلات الطرب فراجعهما إن شئت .
قال المبيح: بارك الله فيك قد اطلعت على تحقيقات أهل العلم في المسألة ونعم أنت محق فالحديث الذي ذكرته الراجح فيه أنه صحيح وهو موجود في صحيح البخاري, ولكني لا أرى فيه دلالة صريحة على تحريم الموسيقى .
قال المحرم: كيف ذلك والنص صريح في ذم المعازف؟ وليس من الصواب أن تتأول وتقول ليس المراد بالمعازف آلات الموسيقى فهذا وفقك الله من تحريف الكلم عن مواضعه .
قال المبيح: جزاك الله خيراً على هذه النصيحة ومعك حق فالمعازف المذكورة في الحديث هي آلات اللهو كما نص عليه أئمة اللغة والحديث, وهو المتبادر إلى الذهن والمفهوم من سياق الحديث ولاشك. ولكن اقرأ معي الحديث بنصه كاملاً وفقك الله:
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم - يعني الفقير - لحاجة فيقولون ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة . ه
انظر بارك الله فيك إلى هذه العقوبة الشديدة, فقد خسف الله بقوم ومسخ آخرين قردة وخنازير. وسؤالي لك مَن هؤلاء الذين استحقوا هذه العقوبة؟ هل هم فقط من يستمعون الغناء والمعازف ؟
قال المحرم: كلا, بل كما جاء في الحديث يستحلون الخمر والزنا ولبس الحرير والمعازف. فهم الذين اجتمعوا على فعل كل هذه الأمور بلا شك .
قال المبيح: أحسنت بارك الله فيك, فالوعيد والعقوبة في الحديث على من استحل هذه الصورة المنكرة لا من استمع للمعازف منفردة فلماذا تقول بأن الحديث يدل على تحريم المعازف في غير هذه الصورة وسياق الحديث لا يدل عليه ؟
قال السيد محمد رشيد رضا: المعازف المنصوص عليها فيه هي ما كانت مقترنة بشرب الخمر كما يستفاد من بعض روايات الحديث . (ومنها) أن المراد بالحديث: يستحلّون مجموع ما ذكر فيه لا كل واحد منها. وحينئذ يستثنون المعازف بدليل كون الدف والغناء منها جمعًا بين الأدلة إذ ثبت في الأحاديث المتفق عليها سماع النبي صلى الله عليه وسلم وإجازته لهما . ه (مجلة المنار17/181)
فقوله (يستحلون) هي على هذه الصورة مجتمعة بدلالة سياق الحديث والعقوبة المترتبة فيه على هذه المذكورات مجتمعة وليست على بعض أفرادها .
فالمعازف في هذا الحديث غير مقصودة لذاتها وإنما المقصود غيرها وهو شرب الخمر والفسوق ولذلك بوّب الامام البخاري على هذا الحديث فقال : بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. وذلك لأنه هو المقصود ابتداءً وجاءت معه المعازف بالتبع فأخذت حكم المتبوع وليس ذلك حكمها إذا استقلت بذاتها. والوسائل لها أحكام المقاصد, ويثبت تبعاً مالا يثبت استقلالاً كما هو معروف في قواعد الفقه وأصوله .
ولا يصح بحال تنزيل هذه العقوبة المغلظة فيمن يلبس الحرير مثلاً باعتباره أحد المذكورات في الحديث وكذلك الحال في المعازف .
ولولا الأحاديث الصحيحة الصريحة التي جاءت في تحريم لبس الحرير على الرجال لما عُدّ من المحرمات من أجل وروده ههنا, بخلاف المعازف التي لم يصح شيء صريح في تحريمها. بل ما صح صراحة في المعازف هو الاباحة وليس التحريم .
قال المحرم: يا أخي لا تذهب بعيداً هكذا ! أي إباحة هذه التي تزعم وجودها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لعلك تريد إباحة الدف باعتباره من آلات الموسيقى, وهذا خطأ في الاستدلال, لأنه إذا جاءت النصوص بتحريم المعازف عامة ثم جاءت نصوص أخرى بإباحة بعض أفرادها خاصة فهذا الفرد المباح من العموم المحرم يُعامل معاملة استثناء الخاص من العام, ولا يعني هذا نقض الاستدلال بالعموم على باقي أفراده. فتنبه لأصول الاستدلال وفقك الله .
قال المبيح: لا يا أخي الكريم, لا أقصد هذا بالتحديد وإنما أقصد الحديث الصحيح الذي رواه الطبري وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما خطبتين فكان الجواري إذا نكحوا يمرون بالكَبَر والمزامير فيشتد الناس ويدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فعاتبهم الله عز وجل فقال : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما...الآية . والكَبَر أي الطبل والمزامير معروفة .
فالمعازف كانت موجودة في أعراس الصحابة يستخدمون الدفوف والكَبَر أي الطبل والمزامير من غير نكير من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما عاب الله عز وجل على الذين يدعون النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة قائماً وينشغلون باللهو والتجارة, أما في غير ذلك من الأوقات فجائزٌ الانشغال به كما يُفهم من الآية وسبب نزولها المذكور.
ثم قولك جاءت النصوص بتحريم المعازف عامة غير صحيح, وقد بينت لك المراد من حديث المعازف من صحيح البخاري وهو أقوى ما يحتج به من يحرم المعازف وليس فيه دلالة كما شرحته لك, فهذه دعوى منك ابتداءً ولا دليل عليها لعدم وجود النص العام المحرم حتى نقول بالعام والخاص .
قال المحرم: حديث الكبر والمزامير هذا من صححه من أهل العلم ؟
قال المبيح: الحديث اسناده صحيح وصححه الطحاوي ونص على ثبوته في أحكام القرآن (1/155) والحافظ ابن طاهر المقدسي في السماع وصححه مقبل بن هادي الوادعي في (الصحيح المسند من أسباب النزول ص213) وسليم الهلالي ومحمد موسى نصر في كتابيهما (الاستيعاب في بيان الأسباب 3/407) وغيرهم من أهل العلم والمحققين
والجمع بين الأدلة الصحيحة في الباب هو المتعين عند الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية, كذلك بالنظر إلى سياق الحديث ومعرفة مراده قرينة على أن تحريم المعازف هنا لأنها استُعملت من أولئك الأقوام المخسوف بهم وسيلة للحرام وعوناً عليه وداعياً إليه خصوصاً مع ما هو معلوم من حال من يجتمع على ذلك من الفسقة فهي وسائل اتخذت لمعصية الله .
ومن نظر إلى مجموع الأحاديث المذكور فيها الوعيد والعقاب بالخسف والمسخ -على فرض صحتها- فهي مقيدة بذكر الملاهى وبذكر الخمر والقينات والفسق والفجور ولا يكاد حديث يخلو من ذلك، وعليه كان الحكم عند فريق من أهل العلم فى سماع الأصوات والآت المطربة أنه إذا اقترن بشىء من المحرمات أو اتخذ وسيلة للمحرمات أو أوقع فى المحرمات كان حراما وأنه إذا سلم من كل ذلك كان مباحا فى حضوره وسماعه وتعلمه .
قال المحرم: وماذا تقول في إنكار أبي بكر الصديق رضي الله عنه على الجواري يتغنون ويلعبون بالدف فلما دخل ورأى هذا غضب وقال: (أَمَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ) ؟
قال المبيح: أكمل الحديث فقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا) فرخًّص لهن فيه ولم يمنعهن .
قال المحرم: نعم ولكن هذه الرخصة خاصة بيوم العيد لذلك نبه الرسول الكريم أبا بكر على هذه الرخصة ولم ينكر عليه قوله أمزامير الشيطان. فدل هذا على صحة قول أبي بكر واستنكاره في غير هذه المناسبة .
قال المبيح: بارك الله فيك هذا الاستدلال قاصر, وقد تعلمنا من علماء الفقه والحديث أن الحكم الشرعي يؤخذ من مجموع الأدلة ولا يؤخذ من دليل واحد إن كان في الباب غيره. وأن الباب لا يتبين خطؤه حتى يجمع طرقه. أليس كذلك ؟
قال المحرم: نعم هو كذلك .
قال المبيح: فلماذا إذن استدللت بموقف أبي بكر هنا وتركت موقفه وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الغناء في الأحاديث الأخرى ؟
قال المحرم: وكيف ذاك ؟
قال المبيح: عن أبي بريدة الأسلمي قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت : يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا . فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل عليٌّ وهي تضرب... الحديث. رواه أحمد والترمذي
قال المحرم: وهل هذا الحديث صحيح ؟
قال المبيح: نعم إسناده صحيح وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/330). والحديث صريح في دخول أبي بكر والمرأة تغني بالدف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس واستمع ولم ينكر وهذا يدلك على تغير رأي أبي بكر عن موقفه السابق لأنه لا يحتمل أن يكون هذا الحديث قبل حادثة غناء الجاريتين في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لأنكر هنا كذلك, لاسيما والمرأة التي تغني هنا أمة بالغة فهي أجنبية عن أبي بكر رضي الله عنه. لكنه لما أنكر هناك وصوبه النبي صلى الله عليه وسلم فسكت هنا واستمع بلا نكير, وأبوبكر رضي الله عنه رجل وقّاف عند كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد تكرر سماع النبي صلى الله عليه وسلم لمثل هذا الغناء في غير مناسبة وليس في الأعياد أو الأعراس فحسب خلافاً لمن قال بذلك من بعض أهل العلم .
قال المحرم: هناك أحاديث أخرى صريحة في التحريم كحديث أنس بن مالك قال: قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وَسَلَّم: صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة ورنة عند مصيبة . وصححه الألباني
قال المبيح: الحديث فيه شَبِيب بن بشر البجلي وهو مختلف فيه والراجح ضعفه قال البخاري: منكر الحديث. ومن حاول تقويته بالشواهد فقد تساهل فهي طرق يغلب عليها الضعف الشديد ونكارة المتن كطريق ابن أبي ليلى فقد عدها ابن حبان في كتابه المجروحين (2/246) من مناكيره ونقل ذلك عن مشائخه .
قال المبيح: وما سوى ذلك من الأحاديث التي يظهر فيها تحريم الغناء والمعازف فهي ضعيفة الاسناد لا تقوم بها حجة. وما صح منها فليس فيه دلالة على التحريم وليست هي من أحاديث الباب على الصحيح . كحديث النهي عن كسب الزمارة وهي المرأة الزانية كما جاء تفسيره في بعض طرق الحديث عند البخاري وغيره: نهى عن كسب البغي .
أو كحديث تحريم الكوبة وهي النرد على الصحيح وهو ما يؤيده سياق الحديث ومناسبته والأحاديث الأخرى التي تؤيد تفسير الكوبة بالنرد .
يتبع بمشيئة الله تعالى ...
كتبه أحمد فوزي وجيه
(لا يجوز النقل أو الاقتباس إلا بذكر المصدر)
تكلمت في الحلقة الأولى عن آيات القرآن الكريم وبينت في حوار بين طرفين أن ليس في كتاب الله تعالى دليل على تحريم الغناء أو الموسيقى. والآن مع الحلقة الثانية بين أخوين متناظرين باحترام وود:
قال المحرم: لو سلمنا أنه لا يوجد نص في القرآن الكريم يحرم الغناء ففي السنة نصوص كثيرة وصريحة في التحريم فهل ترفضها وتقول لا أقبل إلا ما ورد في كتاب الله فهو حسبنا وكفى ؟!
قال المبيح: معاذ الله أن أرفض حديثاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقول: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ويقول سبحانه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ولكن أين هي هذه الأحاديث الصحيحة وقد بحثت عامتها ولا تسلم من الضعف في أسانيدها كما قاله بعض الأئمة من السلف والخلف كابن حزم والحافظ محمد بن طاهر المقدسي والفاكهاني وغيرهم .
قال المحرم: أخطأت يا أخي فهناك حديث المعازف في صحيح البخاري وهو وإن كان بصيغة التعليق لكنه موصول صحيح الاسناد كما قاله جمع مبارك من العلماء والحفاظ, وقد وسّع الحافظ ابن حجر في فتح الباري في بحث هذا الحديث واثبات صحته, كذلك الامام الألباني في تحريم آلات الطرب فراجعهما إن شئت .
قال المبيح: بارك الله فيك قد اطلعت على تحقيقات أهل العلم في المسألة ونعم أنت محق فالحديث الذي ذكرته الراجح فيه أنه صحيح وهو موجود في صحيح البخاري, ولكني لا أرى فيه دلالة صريحة على تحريم الموسيقى .
قال المحرم: كيف ذلك والنص صريح في ذم المعازف؟ وليس من الصواب أن تتأول وتقول ليس المراد بالمعازف آلات الموسيقى فهذا وفقك الله من تحريف الكلم عن مواضعه .
قال المبيح: جزاك الله خيراً على هذه النصيحة ومعك حق فالمعازف المذكورة في الحديث هي آلات اللهو كما نص عليه أئمة اللغة والحديث, وهو المتبادر إلى الذهن والمفهوم من سياق الحديث ولاشك. ولكن اقرأ معي الحديث بنصه كاملاً وفقك الله:
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم - يعني الفقير - لحاجة فيقولون ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة . ه
انظر بارك الله فيك إلى هذه العقوبة الشديدة, فقد خسف الله بقوم ومسخ آخرين قردة وخنازير. وسؤالي لك مَن هؤلاء الذين استحقوا هذه العقوبة؟ هل هم فقط من يستمعون الغناء والمعازف ؟
قال المحرم: كلا, بل كما جاء في الحديث يستحلون الخمر والزنا ولبس الحرير والمعازف. فهم الذين اجتمعوا على فعل كل هذه الأمور بلا شك .
قال المبيح: أحسنت بارك الله فيك, فالوعيد والعقوبة في الحديث على من استحل هذه الصورة المنكرة لا من استمع للمعازف منفردة فلماذا تقول بأن الحديث يدل على تحريم المعازف في غير هذه الصورة وسياق الحديث لا يدل عليه ؟
قال السيد محمد رشيد رضا: المعازف المنصوص عليها فيه هي ما كانت مقترنة بشرب الخمر كما يستفاد من بعض روايات الحديث . (ومنها) أن المراد بالحديث: يستحلّون مجموع ما ذكر فيه لا كل واحد منها. وحينئذ يستثنون المعازف بدليل كون الدف والغناء منها جمعًا بين الأدلة إذ ثبت في الأحاديث المتفق عليها سماع النبي صلى الله عليه وسلم وإجازته لهما . ه (مجلة المنار17/181)
فقوله (يستحلون) هي على هذه الصورة مجتمعة بدلالة سياق الحديث والعقوبة المترتبة فيه على هذه المذكورات مجتمعة وليست على بعض أفرادها .
فالمعازف في هذا الحديث غير مقصودة لذاتها وإنما المقصود غيرها وهو شرب الخمر والفسوق ولذلك بوّب الامام البخاري على هذا الحديث فقال : بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. وذلك لأنه هو المقصود ابتداءً وجاءت معه المعازف بالتبع فأخذت حكم المتبوع وليس ذلك حكمها إذا استقلت بذاتها. والوسائل لها أحكام المقاصد, ويثبت تبعاً مالا يثبت استقلالاً كما هو معروف في قواعد الفقه وأصوله .
ولا يصح بحال تنزيل هذه العقوبة المغلظة فيمن يلبس الحرير مثلاً باعتباره أحد المذكورات في الحديث وكذلك الحال في المعازف .
ولولا الأحاديث الصحيحة الصريحة التي جاءت في تحريم لبس الحرير على الرجال لما عُدّ من المحرمات من أجل وروده ههنا, بخلاف المعازف التي لم يصح شيء صريح في تحريمها. بل ما صح صراحة في المعازف هو الاباحة وليس التحريم .
قال المحرم: يا أخي لا تذهب بعيداً هكذا ! أي إباحة هذه التي تزعم وجودها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لعلك تريد إباحة الدف باعتباره من آلات الموسيقى, وهذا خطأ في الاستدلال, لأنه إذا جاءت النصوص بتحريم المعازف عامة ثم جاءت نصوص أخرى بإباحة بعض أفرادها خاصة فهذا الفرد المباح من العموم المحرم يُعامل معاملة استثناء الخاص من العام, ولا يعني هذا نقض الاستدلال بالعموم على باقي أفراده. فتنبه لأصول الاستدلال وفقك الله .
قال المبيح: لا يا أخي الكريم, لا أقصد هذا بالتحديد وإنما أقصد الحديث الصحيح الذي رواه الطبري وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما خطبتين فكان الجواري إذا نكحوا يمرون بالكَبَر والمزامير فيشتد الناس ويدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فعاتبهم الله عز وجل فقال : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما...الآية . والكَبَر أي الطبل والمزامير معروفة .
فالمعازف كانت موجودة في أعراس الصحابة يستخدمون الدفوف والكَبَر أي الطبل والمزامير من غير نكير من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما عاب الله عز وجل على الذين يدعون النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة قائماً وينشغلون باللهو والتجارة, أما في غير ذلك من الأوقات فجائزٌ الانشغال به كما يُفهم من الآية وسبب نزولها المذكور.
ثم قولك جاءت النصوص بتحريم المعازف عامة غير صحيح, وقد بينت لك المراد من حديث المعازف من صحيح البخاري وهو أقوى ما يحتج به من يحرم المعازف وليس فيه دلالة كما شرحته لك, فهذه دعوى منك ابتداءً ولا دليل عليها لعدم وجود النص العام المحرم حتى نقول بالعام والخاص .
قال المحرم: حديث الكبر والمزامير هذا من صححه من أهل العلم ؟
قال المبيح: الحديث اسناده صحيح وصححه الطحاوي ونص على ثبوته في أحكام القرآن (1/155) والحافظ ابن طاهر المقدسي في السماع وصححه مقبل بن هادي الوادعي في (الصحيح المسند من أسباب النزول ص213) وسليم الهلالي ومحمد موسى نصر في كتابيهما (الاستيعاب في بيان الأسباب 3/407) وغيرهم من أهل العلم والمحققين
والجمع بين الأدلة الصحيحة في الباب هو المتعين عند الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية, كذلك بالنظر إلى سياق الحديث ومعرفة مراده قرينة على أن تحريم المعازف هنا لأنها استُعملت من أولئك الأقوام المخسوف بهم وسيلة للحرام وعوناً عليه وداعياً إليه خصوصاً مع ما هو معلوم من حال من يجتمع على ذلك من الفسقة فهي وسائل اتخذت لمعصية الله .
ومن نظر إلى مجموع الأحاديث المذكور فيها الوعيد والعقاب بالخسف والمسخ -على فرض صحتها- فهي مقيدة بذكر الملاهى وبذكر الخمر والقينات والفسق والفجور ولا يكاد حديث يخلو من ذلك، وعليه كان الحكم عند فريق من أهل العلم فى سماع الأصوات والآت المطربة أنه إذا اقترن بشىء من المحرمات أو اتخذ وسيلة للمحرمات أو أوقع فى المحرمات كان حراما وأنه إذا سلم من كل ذلك كان مباحا فى حضوره وسماعه وتعلمه .
قال المحرم: وماذا تقول في إنكار أبي بكر الصديق رضي الله عنه على الجواري يتغنون ويلعبون بالدف فلما دخل ورأى هذا غضب وقال: (أَمَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ) ؟
قال المبيح: أكمل الحديث فقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا) فرخًّص لهن فيه ولم يمنعهن .
قال المحرم: نعم ولكن هذه الرخصة خاصة بيوم العيد لذلك نبه الرسول الكريم أبا بكر على هذه الرخصة ولم ينكر عليه قوله أمزامير الشيطان. فدل هذا على صحة قول أبي بكر واستنكاره في غير هذه المناسبة .
قال المبيح: بارك الله فيك هذا الاستدلال قاصر, وقد تعلمنا من علماء الفقه والحديث أن الحكم الشرعي يؤخذ من مجموع الأدلة ولا يؤخذ من دليل واحد إن كان في الباب غيره. وأن الباب لا يتبين خطؤه حتى يجمع طرقه. أليس كذلك ؟
قال المحرم: نعم هو كذلك .
قال المبيح: فلماذا إذن استدللت بموقف أبي بكر هنا وتركت موقفه وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الغناء في الأحاديث الأخرى ؟
قال المحرم: وكيف ذاك ؟
قال المبيح: عن أبي بريدة الأسلمي قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت : يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا . فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل عليٌّ وهي تضرب... الحديث. رواه أحمد والترمذي
قال المحرم: وهل هذا الحديث صحيح ؟
قال المبيح: نعم إسناده صحيح وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/330). والحديث صريح في دخول أبي بكر والمرأة تغني بالدف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس واستمع ولم ينكر وهذا يدلك على تغير رأي أبي بكر عن موقفه السابق لأنه لا يحتمل أن يكون هذا الحديث قبل حادثة غناء الجاريتين في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لأنكر هنا كذلك, لاسيما والمرأة التي تغني هنا أمة بالغة فهي أجنبية عن أبي بكر رضي الله عنه. لكنه لما أنكر هناك وصوبه النبي صلى الله عليه وسلم فسكت هنا واستمع بلا نكير, وأبوبكر رضي الله عنه رجل وقّاف عند كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد تكرر سماع النبي صلى الله عليه وسلم لمثل هذا الغناء في غير مناسبة وليس في الأعياد أو الأعراس فحسب خلافاً لمن قال بذلك من بعض أهل العلم .
قال المحرم: هناك أحاديث أخرى صريحة في التحريم كحديث أنس بن مالك قال: قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وَسَلَّم: صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة ورنة عند مصيبة . وصححه الألباني
قال المبيح: الحديث فيه شَبِيب بن بشر البجلي وهو مختلف فيه والراجح ضعفه قال البخاري: منكر الحديث. ومن حاول تقويته بالشواهد فقد تساهل فهي طرق يغلب عليها الضعف الشديد ونكارة المتن كطريق ابن أبي ليلى فقد عدها ابن حبان في كتابه المجروحين (2/246) من مناكيره ونقل ذلك عن مشائخه .
قال المبيح: وما سوى ذلك من الأحاديث التي يظهر فيها تحريم الغناء والمعازف فهي ضعيفة الاسناد لا تقوم بها حجة. وما صح منها فليس فيه دلالة على التحريم وليست هي من أحاديث الباب على الصحيح . كحديث النهي عن كسب الزمارة وهي المرأة الزانية كما جاء تفسيره في بعض طرق الحديث عند البخاري وغيره: نهى عن كسب البغي .
أو كحديث تحريم الكوبة وهي النرد على الصحيح وهو ما يؤيده سياق الحديث ومناسبته والأحاديث الأخرى التي تؤيد تفسير الكوبة بالنرد .
يتبع بمشيئة الله تعالى ...
كتبه أحمد فوزي وجيه
(لا يجوز النقل أو الاقتباس إلا بذكر المصدر)