العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

فهم التشيع ج 13 الصحابة بين الشيعة والسنة

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
الصحابة بين الشيعة والسنة


مبررات القدح في الصحابة

اعتقد الشيعة أن علي بن أبي طالب هو وصي الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحب الإمامة من بعده، وأن الحكم ينبغي أن يكون في ذريته، ولكن الواقع لم يكن محققا لآمالهم: فخلافة عليّ أتت بعد خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم جميعا، ولم تدم طويلا، والحسن بن علي تنازل عن الحكم بعد فترة قصيرة من مبايعته، وبذلك انتقل الحكم إلى الأمويين، ثم بعدهم إلى العباسيين. وقد أدى بهم ذلك الواقع إلى الشعور بالحقد على الصحابة بسبب اختيارهم لأبي بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان للخلافة قبل علي بن أبي طالب. وزيادة على ذلك لم يجد الشيعة في النصوص الشرعية ما يؤيد مذهبهم في الإمامة والوصية، فجلعهم ذلك بين خيارين: أحدهما: التسليم بما رواه الصحابة من قرآن وسنة، ويكونُ ذلك إقراراً منهم بعدم وجود الوصيّة لعليّ وذريته بالخلافة. والثاني: أن يطعنوا في عدالة الصحابة ويتّهموهم بعصيان الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، والردة والتبديل بعد وفاته، وعند ذلك يكون القول بأنّهم قد أخفوا وصيّة الرسول صلى الله عليه وسلم لعليّ وذريته بالإمامة وجحدوها وخالفوها أمراً ممكناً. وكان اختيارهم للأمر الثاني.

وقد وصل بهم الغضب والحقد إلى درجة اتهام عموم الصحابة بالنفاق في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، والردة بعد وفاته. روى الكشي عن أبي جعفر أنه قال: "كان الناس أهل الردّة بعد النبي إلاّ ثلاثة، فقلت: ومن الثلاثة؟ فقال: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، ثم عرف الناس بعد يسيرٍ". ([1]) وتضيف بعض مصادرهم إلى هؤلاء الثلاثة عمار بن ياسر رضي الله عنه. ([2])

وقد عمدوا إلى آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن المنافقين يأولونها على أنّ المقصود بها الصحابة رضي الله عنهم، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب وأبو بكر الصديق وعثمان بن عفان. ومن أجل خلط الأوراق يُعرّف الشيعة الصحابة بأنهم جميع من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى الذين كانوا معروفين بالنفاق، وذلك حتى يتسنى لهم القول بأنه كان من بين الصحابة منافقون. في حين أن أهل السنة لا يطلقون لفظ الصحابة إلا على المؤمنين، أما من كان منافقا فهو لا يدخل في عداد الصحابة.

وأهم الآيات القرآنية التي يركز عليها الشيعة في الطعن في الصحابة والزعم بأنهم ارتدوا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يأتي:
1 - ما يسميه الشيعة "آية الانقلاب"، وهي قوله الله سبحانه وتعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ). ([3])

ويلحق بـ"آية الانقلاب" -التي تدلّ عندهم على ردّة الصحابة- آية أخرى تدلّ على أنّهم كفروا بعد إيمانهم، وهو قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (*) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (*) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).([4]) والذين اسودّت وجوههم "هم الذين ارتدّوا بعد الإيمان وقد توعّدهم الله سبحانه بالعذاب العظيم"([5]) ويقصدون بهم الصحابة رضي الله عنهم، أما الذين ابيضّت وجوههم "فهم الشاكرون الذين استحقّوا رحمة الله" ([6]) ويقصدون بهم الصحابة الأربعة (المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم) وعلي بن أبي طالب، وهم الصحابة الذين يرى الشيعة أنهم لم يرتدُّوا ولم يبدِّلوا.

2 ـ
ما يسميه الشيعة "آيات الاستبدال": وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (*) إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).([7])

وقوله تعالى: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ).([8])

وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).([9])

إن من ينظر نظر المتجرد من الحقد والافتراء يرى أن الآيات السابقة ليس فيها حديث عن الصحابة رضي الله عنهم، وإنما تتحدث عن حكم من يرتد ويكفر بعد الإيمان. ولا خلاف في أن من يرتدّ عن الإسلام ينطبق عليه ما ورد في الآيات، ولكن أين الدليل على أن الصحابة رضي الله عنهم قد ارتدوا حتى تنطبق عليهم الآيات؟ بل هم الذين قاتلوا المرتدين وحفظوا الإسلام ونشروه في الآفاق، ولم يتهمهم بالردة سوى بعض الحاقدين عليهم الذين أعماهم التعصب المذهبي.

كما يحاول الشيعة الطعن في الصحابة ببعض وقائع السيرة النبوية، مثل ما وقع في صلح الحديبية من مراجعة للنبي صلى الله عليه وسلم في شروط الصلح، ويجعلون ذلك دليلا على أن الصحابة رضي الله عنهم -أو بعضهم- لم يكونوا يمتثلون أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم بذلك يريدون القول: ما دام الصحابة هكذا لا يطيعون أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا مانع من أن يكونوا قد عصوا أمره صلى الله عليه وسلم بأن يكون علي بن أبي طالب هو الوصيّ والخليفة بعده، وأنهم أخفوا النصوص المتعلقة بتلك الوصية، وبذلك فهم ليسوا أهلا للثقة، بل يستحقون الحكم عليهم بالردة. يقول الكاتب الشيعي التيجاني السماوي عن موقف الصحابة -خاصة عمر بن الخطاب- من صلح الحديبية: "وهل يقبل عاقل قولَ القائلين بأنّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمتثلون أوامرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وينفذوها، فهذه الحادثة تكذِّبُهم وتقطع عليهم ما يرومون، هل يتصور عاقل بأنّ هذا التصرف في مواجهة النبي هو أمر هَيِّنُ؛ أو مقبول؛ أو معذور..."([10]) ويقول عن الصحابة عموما: "فهؤلاء ليسوا جديرين بأيّ احترام ولا تقدير من المسلمين فضلاً على أنْ يُنْزِلوهم منْزِلة الملائكة فيحكمون بأنّهم أفضلُ الخَلْق بعد رسول الله وأنّ المسلمين مدعوُّون لاتِّباعهم والاقتداء بهم والسيْرِ على سُنَّتِهم لا لشيء إلاّ لأنهم صحابة رسول الله".([11]) ثم يحكم عليهم بأنهم في النار، فيقول: "توفيّ ]الرسول[ بأبي هو وأمي وفي قلبه حسرة على أمته المنكوبة التي سوف تنقلب على أعقابها وتهوي في النار، ولا ينجو منها إلاّ القليل الذي شبَّهَه رسول الله بهمل النَّعَم".([12])

وعلى عكس هذا التهويل الذي يتحدث عنه التيجاني السماوي وغيره من الشيعة، نجد أن القرآن الكريم في حديثه عن صلح الحديبية لا يلقي بالا لما حصل من الصحابة من مراجعة للرسول صلى الله عليه وسلم بخصوص بعض بنود الصلح، ولا يورد له ذكرا، ويصف أولئك الصحابة (وعددهم ألف وأربعمائة أو يزيد) بقوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (*) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا).([13]) ويقول عنهم عزّ وجل: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا).([14])

هذا وصف القرآن الكريم لأولئك الذين شاركوا في صلح الحديبية، واعترضوا على بعض بنود الصّلح، وناقشوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، يشهد لهم الله سبحانه وتعالى بالإيمان والإخلاص، وأن كلمة التّقوى لازمة لهم مستمرّة معهم وأنّهم أَهْلُهَا وأَحَقّ بها، وأن الله تعالى قد رضي عنهم، وأنزل عليهم السكينة بعد أن علم ما في قلوبهم من صدق وإخلاص. ومن المعلوم أنه من الذين اعترضوا على بعض ما ورد في صلح الحديبية عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد طلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشطب لفظ رسول الله فرفض، فشطبها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه.([15]) ولو كانت مراجعة الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الأمور مهلكة لكان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه واحداً من الهالكين.

شهادة الله تعالى للصحابة

يقول الله سبحانه وتعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (*) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (*) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).([16]) ويقول عز وجل: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).([17])

فالله عزّ وجلّ يشهد للمهاجرين بأنّهم خرجوا من ديارهم ابتغاءَ فضلِ الله ونُصْرَةً للهِ سبحانه وتعالى ورسولِه صلى الله عليه وسلم، ويشهد الله سبحانه وتعالى للأنصار -الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان بالخلافة- بالإيمان الحقيقي والإيثار والفلاح.

هذه شهادة الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم للصحابة من المهاجرين والأنصار، أمّا شهادة الشيعة فهي اتّهامهم بالنّفاق والردّة والانقلاب.
وإذا كان من الممكن للشيعة أن يؤولوا الآية الأولى التي تتحدث عن المهاجرين بأنها خاصة بعليّ بن أبي طالب وأربعة من الصحابة معه، فإنه لا سبيل لهم إلى تأويل الآية الأخرى التي تمدح الأنصار وتشهد لهم بالفلاح؛ فالناجون من الصحابة عند الشيعة ليس منهم أحد من الأنصار!
هل يمكن لمثل هذه الآيات التي تتحدّث عن هذا الفضل أن تكون في منافقين أو في مرتدين مبدِّلين لشرع الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ليس هناك أيّ طريق لتأويل هذه الآيات، إلاّ أن يلجأ الشيعة إلى عقيدة البَداء؛ فيقولوا: "بدا لله فيهم ما لم يكن يُعْرَفُ له" كما قالوا في نقل الإمامة من إسماعيل بن جعفر الصادق إلى أخيه موسى،([18]) ويقولوا إن الله -سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً- رضيّ عن الصحابة في البداية ووصفهم بهذه الأوصاف، ثم بعد ذلك ظهر له ما لم يكن يُعْرَفُ له، فغيّر حُكمه فيهم من الصدق والإيمان إلى النفاق والردّة وأخبر الشيعة وحدهم بذلك التغيير! وحتى هذا لا يكفي؛ لأن الآيات قد وعدتهم بالمغفرة، والمغفرة إنما تتعلق بيوم القيامة، ويوم القيامة لم يصل بعد حتى يُقال بالبداء.
ولست أدري ما موقف الشيعة من قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)؛([19]) كيف يجعلون في قلوبهم هذا الغلّ والحِقْد العظيم لأولئك المؤمنين من الصحابة؟ كيف يعتبرون أنفسهم من المؤمنين، بل أصحاب الحق المطلق، مع أن الآية صريحة في أن من صفات المؤمنين حبّ أولئك الصحابة من المهاجرين والأنصار، والدعاء لهم بالمغفرة؟!

نعم، قد يصلُ الخلاف السياسي بأصحابه إلى درجة التّقاتل بينهم، وقد وقع ذلك بين الصحابة أنفسهم، أمّا أنْ يصل الخلاف السياسيّ بقوم إلى درجة تَكْفِير ولَعْن الصحابة فهو أمر في غاية الغرابة.

العتاب والعدالة
الصحابة رضي الله عنهم بَشَر، والأنبياء والرسل بَشَر أيضا، والضعف والخطأ من صفات البشريّة، وليس ذلك قدحا في صاحبه، بل هو الحدّ الفاصل بين الإنسان وبين الملائكة ومرتبة الألوهيّة، فإن الذي لا يجوز في حَقِّهِ الخطأ أبداً هو الله سبحانه وتعالى، والملائكة معصومون بعصمة الله تعالى لهم وتَمَحُّضِهِم للعبادة والطاعة. أمّا البشر فإنهم عُرْضَةٌ للخطأ في الاجتهاد والتَّقدير.

وقد وقع بعض الصحابة في بعض الأخطاء، وظهر على بعضهم الضعف البشري في بعض المواقف، وجاء القرآن معاتبا ومؤنبا لهم على ذلك، ولكن ذلك العتاب والتأنيب تبعته الشهادة لهم بالإيمان، وتقرير العفو من الله عز وجل عنهم. ومن ذلك ما جاء في القرآن الكريم من نقدٍ وتأنيبٍ لبعض الصحابة في غزوة أحد. انظر إلى قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)،([20]) فبعد أن وصف فعل بعضهم بالعصيان، وأن بعضهم كان يريد الدنيا، وصفهم بالإيمان، وقرّر أنه قد عفا عنهم. وانظر قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)،([21]) حيث نص على العفو عن الذين استزلهم الشيطان. وخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ).([22])

وقد اتخذ الشيعة ذلك النقد والتأنيب الذي ذكره القرآن في حق بعض الصحابة المخطئين مدخلا إلى الطعن في الصحابة ووصفهم بمعصية الرسول والنفاق، ثم الردة بعد موته. ولو كان ما ورد في القرآن الكريم من عتاب لبعض الصحابة على أخطائهم طعنا في إيمانهم وعدالتهم، لكان العتاب الوارد في القرآن الكريم في حق بعض الرسل طعنا فيهم أيضا. وقد سجل لنا القرآن الكريم نماذج كثيرة من خطأ الأنبياء في التقدير والاجتهاد في الأمور التي لا تتعلق بالتشريع، وعاتبهم الله عز وجل على ذلك، وهذه أمثلة منها:

أول مثال يتعلق بنوح عليه السلام. يقول الله سبحانه وتعالى: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (*) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ (*) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ).([23])
فنوح عليه السلام فهم من لفظ "أهلك" في قول الله سبحانه وتعالى: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ)([24]) أنها تشمل كلّ أهله، فلما غرق ابنه دعا الله سبحانه وتعالى أنْ يُنَجِّيه هو أيضاً لأنه من أهله والله سبحانه وتعالى قَدْ وَعَدَهُ بأن يُنَجِّيَّ معه أهله، فبيَّن له اللهُ سبحانه وتعالى أنّ اجتهادَه في هذا الفهم اجتهادٌ خاطئ، وعاتبه الله سبحانه وتعالى على ذلك بقوله: (فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ)، وقد استغفر نوحٌ اللهَ سبحانه وتعالى من ذلك الخطأ.
فهذا رسولٌ من أولي العَزْمِ يروي القرآنُ الكريم أنه قد أخطأ، ويعاتِبُه اللهُ سبحانه وتعالى على ذلك دون أنْ يكونَ ذلك العِتَابُ طَعْناً في نُبُوَّةِ نوح ورسالته وعُلُوِّ مكانته وسُمُوِّ مرتبته.

وهذا القرآن الكريم يروي لنا عن موسى عليه السلام اعترافه بأنه أخطأ وظلم نفسه، ويصف خطأه ذلك بأنه من عمل الشيطان، ويحدثنا الله سبحانه وتعالى بأنه قد غفر له، وهذا إقرار بأنّ فِعْلَه ذلك كان خطأ. يقول الله سبحانه وتعالى: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (*) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (*) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ).([25])

ولم يكن خاتم الأنبياء والمرسلين -محمد صلى الله عليه وسلم- بعيدا عن عتاب الله تعالى له، بل ورد في القرآن الكريم كثير من ذلك، منها:
1- لقد جرت العادة أنّ الناس -خاصة في المجتمع القبلي- تَبَعٌ لزعمائهم وسادتهم، فإذا اهتدى السّادة والزعماء اهتدى معهم عامّة الناس، وإذا ضلُّوا ضلّ معهم عامّة الناس، ولذلك فإنه من المنطقيّ أنْ يبدأ الدُّعاة في دعوتهم بالسّادة والزعماء اختصاراً للطّريق وضماناً لأكبر كسب ممكن للدعوة. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم مشغولاً بدعوة مجموعة من سادة قريش إلى الإسلام وجاءه في تلك الحال رجلٌ أعمى من عامة الناس، هو ابن أمّ مكتوم رضي الله عنه، فانشغل عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يُعِرْهُ اهتماماً، واستمرّ في محاولاته مع تلك المجموعة من سادة قريش وزعمائها. فَنَزَل القرآن الكريم بعد ذلك يعاتبه على فعله ذلك، ويبيِّن له أنّ الرجل الأعمى الذي جاءت به الرّغبة الصّادقة في التّعرف على الإسلام أفضلُ وأولى بالدعوة من أولئك السادة الذين لم تكن لهم رغبة في التعرف على الإسلام والاستماع إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. وفي الآيات عتاب صريح للرسول صلى الله عليه وسلم على فعله ذلك. قال تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (*) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى (*) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (*) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (*) أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى (*) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (*) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (*) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (*) وَهُوَ يَخْشَى (*) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى).([26])

2-
وفي غزوة بدر الكبرى اجتهدَ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد التشاور مع الصحابة في حكم الأسرى من المشركين، واختار الفداء على القتل، فنَزَل القرآن الكريم يعاتبه هو والصحابة رضي الله عنهم على ذلك الاختيار: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (*) لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).([27])

3-
كان من عادة العرب في الجاهلية تبنِّي الأولاد، وكان الابن الـمُتَبَنَّى يُعَدُّ في عرفهم بمثابة الابن الحقيقي، فيثبت له من الحُرْمَة والقرابة ما يثبت للابن الحقيقي. ولما شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يُبْطِل عادة التّبَنِّي وما يترتَّب عليها من علاقات في المجتمع الجاهلي أَمَرَ الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يبدأ هو بنفسه في إبطال هذه العادة. وقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يتزامن ذلك مع فساد العلاقة بين زيد بن حارثة الذي يُعَدُّ ابن الرسول صلى الله عليه وسلم من التّبَنِّي وبين زوجته زينب بنت جحش، وعزم زيد على طلاقها ولكن الرسول صلى الله نهاه عن ذلك.
ويبدو -والله أعلم- أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخشى أنّه إنْ أَذِنَ لزيد بتطليق زوجته ثُمّ جاءه الأمْرُ بعد ذلك مِن الله عزّ وجلّ بتزوُّجِها أنْ يقول الناس إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أَمَرَهُ بتطليقها رغْبَةً منه في تَزَوُّجِهَا، فضلاً عن قَوْلِهِم إنّ محمداً تَزَوَّجَ زوجة ابنه، وهو أَمْرٌ كان في عِدَادِ الجرائم عِنْد المجتمع الجاهلي؛ فكان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على ألاّ يظهر الخلافُ بين زيد وزينب، وألاّ يطلِّق زيد زوجته. ولكن الله سبحانه وتعالى شاء أن يبدأ إبطالُ عادة التَّبَنِّي -وما كان يَنْتُجُ عنها من تحريم زوجةِ الـمُتَبَنَّى على الـمُتَبَنِّي- بتطبيقٍ نموذجيّ من داخل الأسرة النبويّة الشّريفة. يقول الله سبحانه وتعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً).([28])

4-
استأذن قوم من المنافقين النبيّ صلى الله عليه وسلم -قيل في الخروج معه إلى الجهاد من غير عُدَّةٍ ولا صِدْقِ نيّة، وقِيل في التَّخَلُّفِ عن الجهاد- فأَذِنَ لهم الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة قَبْلَ أن يتأكّد من صدقهم ويتَبَيَّنَ الصادقَ منهم من الكاذب، فنَزَل عتاب الله سبحانه وتعالى يخبره بأنه كان الأولى أن لا يستعجل في الإذن لهم حتى يعرف الصادق منهم من الكاذب، فقال سبحانه وتعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ).([29])

نقاط الخلاف بين السنة والشيعة حول الصحابة
تتلخص نقاط الخلاف بين أهل السنّة وبين الشيعة حول موضوع الصحابة في الآتي:
1- يزعم الشيعة أنّ كلّ الصحابة ما عدا أربعة قد ارتدّوا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وبدَّلوا، في حين يرى أهل السنّة أنّ هذا مجرّد ادعاء ناتج عن الحِقْد الذي تولَّد في نفوس الشيعة لأسباب أصلها سياسيّة.

2-
يرى الشيعة أنّ الصحابة يوجد فيهم المنافقون والكذابون الذين كذبوا على الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أجل تبرير تلك المقالة يُعمِّمون لفظ "الصحابة" على جميع من كان موجودا في المجتمع الإسلامي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ويُدخلون فئة المنافقين ضمن فئة الصحابة. ويقول أهل السنّة أن لفظ الصحابة مقصور على المؤمنين فقط، أما المنافقون الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه فإنهم لا يدخلون أصلا ضمن الصحابة، ولا يُطلق على أحدهم اسم الصحابي. ولا يقول أهل السنّة إن الصحابة معصومين، بل هم بَشَر يصيبون ويخطئون، ولكنهم عدول. والعدالة معناها استقامة السلوك، وعدم القصد إلى المعصية والإصرار عليها، وتجنُّب الكذب. وكيف يستحلُّون الكذب على الرسول وهم من العرب الذين كانوا لا يستحلِّون الكذب حتى في الجاهلية ويرونه من خوارم المروءة؟ فكيف يتجنبوا الكذب في الجاهلية ويستحلِّوه في الإسلام؟([30]) نعم، قد يسهو الصحابي أو يخطئ في الفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيخطئ في الاجتهاد بناءً على ذلك، ولكن أن يتعمَّد واحد من الصحابة الكذبَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغيير شرع الله تعالى فهذا محال، وهو مجرّد اتّهام ناتج عن حِقْد يغلي في صدور الشيعة لأسباب أصلها سياسي.

3-
يرى الشيعة أنّ الصحابة كانوا يعلمون بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوصى بالخلافة من بعده لعليّ بن أبي طالب، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمرهم بمبايعة عليّ، ولكنّهم أخفوا تلك الوصيّة وتنكَّرُوا لها وجحدوها. ويرى أهل السنّة أنّ الحكم في الإسلام ليس وراثيّاً وإنما هو شورى بين المسلمين يختارون من يرونه مناسباً لذلك، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُوصِ لأيّ أحد، ولم يعيَّن أحداً للخلافة؛ لا عليّ بن أبي طالب ولا أبا بكر الصديق ولا غيرهما.

4-
يقول الشيعة إنّ طلحة والزبير وعائشة ومن خرج معهم في يوم الجمل إنّما فعلوا ذلك كُرْهاً في عليّ بن أبي طالب وحسداً له أنْ يتولَّى الخلافة وإنكاراً لوصيّة الرسول صلى الله عليه وسلم له بالخلافة. ويرى أهل السنّة أنّ الخلاف بين عليّ من جهة وطلحة والزبير وعائشة من جهة أخرى إنما كان حول الاقتصاص من قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ فطلحة والزبير وعائشة لم ينكروا على عليّ بن أبي طالب تولّيه الخلافة، وإنما أنكروا كون أولئك القتلة قد صاروا يشكَّلون جزءاً أساسيّاً من جيشه، وأخذ بعضهم مراكز قيادية في ذلك الجيش، فخرج أولئك الصحابة للمطالبة بالاقتصاص منهم، ولم يكونوا يقصدون قتال عليّ رضي الله عنه. وكان عليّ بن أبي طالب يرى أنّ الظروف ليست مناسبة للقيام بذلك القصاص، وأنه لم يكن بإمكانه فعلُه.

نعم، إن عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم أخطأوا التقدير، حيث لم يكونوا يتوقعون أن تؤول الأمور إلى ما آلت إليه من اقتتال، وقد كان الأولى التّريُّث حقنا لدماء المسلمين، ودفعا للضّرر الأكبر بتحمُّل الضرر الأخفّ. ولكن تصوير الخلاف بأنه كان حقداً وحسداً من أولئك الصحابة على عليّ بن أبي طالب لا يعدو أن يكون مبالغة وافتراء. ولو كان الزبير بن العوام يبغض عليّاً ويحسده لَمَا كان من الأوائل الذين سعوا إلى ترشيحه للخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

5-
يرى الشيعة أنّ مقاتلة معاوية ومن كان معه لعليّ بن أبي طالب تخرجهم من دائرة الإسلام وتدخلهم في دائرة الكفر، وتبيح سبّهم ولَعْنهم. أما أهل السنة فعلى الرغم من أنهم يرون أن الحق كان في جانب عليّ بن أبي طالب، إلا أنهم يرون أنّ الاقتتال الذي وقع بينهم لا يُخْرِجُ أحداً من دائرة الإيمان ولا من دائرة الصحابة؛ لأن تقاتل المسلمين بسبب الخلافات السياسية لا يُسْقِط عن أيّ طرف منهم صفتي الإيمان والأخوّة، وذلك بشهادة القرآن الكريم في قول الله سبحانه وتعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (*) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).([31]) وقد كان هذا هو موقف عليّ بن أبي طالب حيث كان يقول عنهم: إخواننا بغوا علينا. ويرى أهل السنّة أن الأمرَ أصبح جزءا من التاريخ، وأن ما وقع بينهم أمرُه إلى الله تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)،([32]) ويقولون: تلك دماءٌ طهّر الله منها أيدينا فلنطهِّر منها ألسنتنا، ولا يجيزون لأنفسهم الطّعن في أحدٍ منهم أو إضمار الغِلّ والحقد لأحدٍ منهم عملا بقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).([33])

مَجْدُ العظماء ومَجْدُ الأقزام

لقد بنى الصحابة رضي الله عنهم مجدهم بجهودهم الجبارة وأموالهم ودمائهم: فقد آمنوا بالله ورسوله، وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وأدّوا وظائفَهم على أحسن وجه، وحملوا الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها، وأخرجوا أناسا كثيرين من عبادة الأوثان وعبادة النار إلى عبادة الله الواحد القهار. ثم نبتت بعد ذلك نابتة من أولئك الذين كان الصحابة سببا في إخراجهم من عبادة الأوثان وعبادة النار تتهم أولئك الصحابة العظام بالنفاق والكذب والردة! إنهم الأقزام الذين لا يكون لهم رصيدٌ في الواقع العمليّ يبنون به أمجادهم، فيسعون إلى بناء أمجادٍ موهومة على أعراض الآخرين بالقدح فيهم والانتقاص منهم!

وقد يظن الشيعة أن الطعن في الصحابة والافتراء عليهم والحطّ من قيمتهم يرفع من قيمة علي بن أبي طالب، ويثبت عقيدتهم السياسية في كون الخلافة وراثية في أبنائه، ولكن فضل عليّ بن أبي طالب معروفٌ ومشهور يشهد به المسلمون جميعاً، ولا يحتاج في إظهاره للحَطِّ من قدر أصحابه وأصهاره والافتراء عليهم.

قوم يَسُبُّونَ أُمَّهُم وجَدَّ إمامهم

يقول الله سبحانه وتعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)،([34]) ولا شكّ أنّ الشيعة يعترفون أنّ عائشة رضي الله عنها زوجةٌ من أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، وبناءً على ذلك فهي أُمُّهُمْ أحبُّوا ذلك أم كرهوه (إلا إذا كانوا يخرجون أنفسهم من دائرة المؤمنين)؛ لأن الذي أعطاها هذه المكانة هو الله سبحانه وتعالى. ولست أدري كيف يكون موقف الشيعيّ من هذه الآية القرآنية وهو يسبُّ أو يَلْعَنُ أمّه عائشة بنت أبي بكر الصديق لمجرّد أنّها اختلفت سياسيّاً مع عليّ بن أبي طالب ؟! وليس هذا فقط، فالشيعة عندما يسبّون أبا بكر الصديق فهم إنّما يسبّون جدّ واحدٍ من أعظم أئمتهم، هو جعفر الصادق؛ لأن أم جعفر الصادق هي "أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق"؛([35]) فأبو بكر الصديق رضي الله عنه هو جَدُّ جعفر الصادق لأمِّه، فكيف يسمح الشيعة لأنفسهم بسبِّ جَدِّ إمامهم الأكبر؟


([1])أبو عمرو. رجال الكشي. ص12. نقلا عن: عبد الحميد خروب. رواية الحديث عند الشيعة الإمامية. ص353.
([2]) النوبختي. فرق الشيعة. ص16.
([3]) آل عمران: 144.
([4]) آل عمران: 105-107.
([5]) السماوي. ثم اهتديت. ص120.
([6])السماوي. ثم اهتديت. ص120.
([7]) التوبة: 38-39.
([8]) محمد: 38.
([9]) المائدة: 54.
([10]) السماوي. ثم اهتديت. ص96.
([11]) المرجع نفسه. ص108-109. وهذا طبعا مجرد تهويل ناتج عن التعصب والحقد، فأهل السنة لا يقدسون الصحابة ولا ينزلونهم منزلة الملائكة، وإنما يعرفون لهم قدرهم فيحترمونهم ويدعون لهم بالرضوان.
([12]) المرجع نفسه. ص105.
([13]) الفتح: 18-19.
([14]) الفتح: 26.
([15]) انظر: الطبري. تاريخ الطبري. ج2. ص123؛ اليعقوبي. تاريخ اليعقوبي. ج2. ص41.
([16]) الحشر: 8-10.
([17]) الأنفال: 74.
([18]) الكليني. أصول الكافي. ج2. ص116.
([19]) الحشر: 10.
([20]) آل عمران: 152.
([21]) آل عمران: 155.
([22]) آل عمران: 159.
([23]) هود: 45-47.
([24]) هود: 40.
([25]) القصص: 15-17.
([26]) عبس: 1-10.
([27]) الأنفال: 67-68.
([28]) الأحزاب: 37.
([29]) التوبة: 43.
([30]) مما يدل على ذلك ما أورده المسعودي عن عمرو بن معد يكرب لما سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "هل انصرفت عن فارس قط في الجاهلية هيبة له؟ قال: نعم، والله ما كُنْتُ أستَحِلُّ الكذبَ في الجاهلية فكيف اسْتَحِلَّهُ في الإسلام؟ لأحدثنَّك حديثاً لم أحدِّث به أحداً قبلك …". المسعودي. مروج الذهب ومعادن الجوهر. ج2. ص335. ومن ذلك أيضا ما رواه عبد الله بن عباس أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا فَقَالَ أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ فَوَاللَّهِ لَوْلا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ قُلْتُ لا قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ لا قَالَ فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ قَالَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ قُلْتُ بَلْ يَزِيدُونَ قَالَ فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ قُلْتُ لا قَالَ فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ قُلْتُ لا قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ قُلْتُ لا وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا قَالَ وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ..." البخاري. صحيح البخاري. كتاب بدء الوحي. باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ج1. ص8.
([31]) الحجرات: 9-10.
([32]) البقرة: 134.
([33]) الحشر: 10.
([34]) الأحزاب: 6.
([35]) اليعقوبي. تاريخ اليعقوبي. ج3. ص115.
 
أعلى