العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

النسخ في القرآن الكريم: مراجعة وتحرير (9) هل نُسخ تحريم الزواج على النبي صلى الله عليه وسلم؟

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي

هل نُسِخ تحريم الزواج على النبي صلى الله عليه وسلم؟



الحادي والعشرون
: قال السيوطي: قَوْلُهُ تَعَالَى: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) (الأحزاب: 52) مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (الأحزاب: 50).

قال الدهلوي: قلت: يحتمل أن يكون الناسخ مقدماً في التلاوة وهو الأظهر عندي.[1]

قلت: الوقائع التاريخية لزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وسياق الآيات ينفيان وقوع النسخ. لقد أباح الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم الزواج بأكثر من أربع نسوة لحاجة مقامه النبوي لذلك، وبعد أن تزوج ما شاء الله له أن يتزوج، جاء الأمر بالاكتفاء بذلك القدر بعدم الزيادة وعدم التبديل، وكان ذلك في وقت متأخِّر من حياته صلى الله عليه وسلم، حيث أن آخر زوجة تزوجها هي ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها في شهر شوال من السنة السابعة للهجرة بعد الفراغ من عمرة القضاء.

كما أن سياق الآيات يأبى وقوع النسخ: فالآية الأولى (الأحزاب: 50) تتحدث عن أصناف النساء اللاتي أُحِلَّ للنبي صلى الله عليه وسلم نكاحهن، والآية التي بعدها تتحدث عن كيفية معاشرته لهن، ثم بعد ذلك جاء قوله تعالى: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) (الأحزاب: 52). هذا هو سياق الآيات، فكيف يأتي من يقلب ذلك السياق رأسا على عقب، ويزعم أن الآية الأخيرة قد نُسِخَتْ بالآية الأولى؟

إن الذي أغرى أولئك الذين ادعوا النسخ، وجعلهم ينقضون سياق الآيات، هو رواية تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أُبيح له الزواج ممن شاء من النساء. والرواية منسوبة إلى أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما.

أما الرواية المنسوبة إلى أم سلمة رضي الله عنها فقد وردت في شرح مشكل الآثار (1/ 453)، والناسخ والمنسوخ للنحاس (ص628)، وكلاهما من طريق: إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِر، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ -مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -زَوْجِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهَا قَالَتْ: "لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ النِّسَاءِ مَا شَاءَ إلَّا ذَاتَ مَحْرَمٍ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ) (الأحزاب: 51)."

هذه رواية ساقطة؛ لأن في سندها عمر بن أبي بكر الموصلي. جاء في ميزان الاعتدال: "عمر بن أبي بكر الموصلي العدوي... روى عنه إبراهيم بن المنذر، والزبير بن بكار. ضعَّفه أبو زرعة. وقال أبو حاتم: متروك ذاهب الحديث."[2]

كما جاءت تلك الرواية عند ابن سعد في الطبقات الكبرى من طريق: مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي بَرَدَانُ بْنُ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.[3] وفي سندها محمد بن عمر الواقدي، وهو -كما قال الذهبي- مُتَّفَقٌ على ضعفه.[4] وقال فيه الإمام أحمد كلاما غليظا، ورماه بقلب الأحاديث.[5]

وأما الرواية المنسوبة إلى عائشة رضي الله عنها فإنه مشكوك في ثبوتها؛ لأن راويها عطاء بن أبي رباح لم يكن متأكدا من أين أخذها!

فقد رويت مرة على أنها من سماع عطاء بن أبي رباح من عائشة رضي الله عنها (مصنف ابن أبي شيبة، 3/539، شرح مشكل الآثار، 1/ 452، الناسخ والمنسوخ للنحاس، ص628)، ونصها عند ابن أبي شيبة: ابن عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ النِّسَاءَ."

ورويت مرة على أنها من رواية عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة (سنن الدارمي، 3/ 1439، سنن النسائي، 6/ 56، السنن الكبرى للنسائي، 5/ 149، المستدرك على الصحيحين للحاكم، 2/ 474، شرح مشكل الآثار، 1/ 452)، ونص رواية الدارمي: أَخْبَرَنَا الْمُعَلَّى، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "مَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ النِّسَاءِ مَا شَاءَ."

وجاء في بعض الطرق بيان حقيقة هذه الرواية، وهي أن عطاء بن أبي رباح لم يسمعها من عائشة رضي الله عنها، وإنما سمعها من شخص آخر ينسبها إلى عائشة. ولم يكن عطاء متأكدا ممن سمعها! فكان يظن أنه ربما سمعها من عبيد بن عمير! وربما سمعها من رجل آخر غير معروف أخبره بها عن عائشة!

جاء في مسند إسحاق بن راهويه (3/ 611): أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: زَعَمَ عَطَاءٌ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ مَا شَاءَ." فَقُلْتُ لَهُ: عَمَّنْ تَأْثُرُ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي! حَسِبْتُ أَنِّي سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَذْكُرُ ذَلِكَ. قَالَ: وَقَالَ عَمْرٌو، عَنْ عَطَاءٍ سَمِعْتُ مُنْذُ حِينٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَذْكُرُ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ."

وفي شرح مشكل الآثار (1/ 452- 453): وَأَجَازَ لِي هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَسْقَلَانِيُّ أَبُو يَزِيدَ مَا ذُكِرَ لِي أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ الْعَلَاءِ وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ: قَالَتْ: "مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ مِنَ النِّسَاءِ مَا شَاءَ." قَالَ: قُلْتُ مَنْ أَخْبَرَكَ هَذَا؟ قَالَ حَسِبْتُ أَنِّي سَمِعْتُهُ مِنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: سَمِعْتُ رَجُلًا يُخْبِرُ بِهِ عَطَاءً."

هكذا يتبين أن عطاء لم يسمع هذه الرواية من عائشة رضي الله عنها، كما أن سماعه إياها من عبيد بن عمير مشكوك فيه، وأن الظاهر أنه سمعها من رجل مجهول ينسبها إلى عائشة.

وبهذا يتبين أن الروايات التي قامت عليها دعوى النسخ لا تصح، ويثبت إحكام القرآن الكريم نظمًا ومعنًى، وتسقط دعوى النسخ المخالفة لسياق الآيات القرآنية وحقائق الواقع.

وقد توهَّم بعض من اغترَّ بهذه الروايات الضعيفة أن في القول بنسخ ذلك التحريم مكرمة للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن في إثبات استمرار التحريم انقاصا من مكانته، وهو وَهْم خاطئ. فلا ينقص من مقام النبوة تحريم الزواج عليه صلى الله عليه وسلم بعد أن تزوج العدد الذي اقتضت حكمة الله تعالى أن يتزوجه، وليس في إباحة الزواج بعد ذلك التحريم مكرمة زائده للنبي صلى الله عليه وسلم.

[1] الدهلوي، الفوز الكبير، ص67.
[2] الذهبي، ميزان الاعتدال، ج3، ص184.
[3] ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص194.
[4] الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج9، ص454.
[5] موسوعة أقوال الإمام أحمد، ج3، ص297.
 
أعلى