العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

النسخ في القرآن الكريم: مراجعة وتحرير (11) هل في عدة المتوفى عنها زوجها نسخ؟

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي

هل في عدة المتوفى عنها زوجها نسخ؟


قال الله عز وجل: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة: 234)
وقال الله عز وجل: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 241).

إن النظر في الآيات يدل على أن الآية (234) من سورة البقرة تحدد عدة المتوفى عنها زوحها، وهي المدة التي لا يجوز لها فيها الزواج. فإذا انقضت تلك العدة، فلها أن تفعل في نفسها ما تشاء بالمعروف. أما الآيتان (240- 241) فهما تتحدثان عن المتعة للمرأة التي فقدت زوجها سواء بالوفاة أم بالطلاق. الآية الأولى منهما تطلب من الزوج -قبل وفاته- أن يوصي لأرملته بالسكنى سَنَة كاملة بعد وفاته، وتطلب من الورثة عدم إخراج تلك الأرملة من مسكن الزوجية، فإذا هي أرادت الخروج بمحض إرادتها فلها ذلك. والآية الثانية تطلب من الزوج الذي يُطلِّق زوجَتَه أن يُكرمها بمُتْعَة تحفظ لها كرامتها، وتعينها على نوائب الدهر، في انتظار أن تجد زوجا آخر.

وبهذا يتبين أن سياق الآية (240) هو بيان المتعة، وليس الحديث عن العدة التي لا يجوز فيها النكاح. فالأرملة لا يجوز لها النكاح في مدة العدة، وهي أربعة أشهر وعشرا، ولها المتعة سنة، فإن رغبت في الخروج من بيت الزوجية وابتغت النكاح بعد انقضاء العدة فلها ذلك، وهذا -والله أعلم- هو المراد بقوله تعالى: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

وقد اختلفت أقوال العلماء في العلاقة بين الآيتين حسب الآتي:
القول الأول: ذهب بعض أهل العلم إلى أن المراد بتمتيع الزوجة بالسكنى حولا كاملا هو العدة من وفاة الزوج، ورأوا أن ذلك يعارض الآية التي حددت عدة المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشرا، فذهبوا إلى دفع ما اعتقدوه من تعارض بالنسخ. قال القرطبي: "ذهب جماعة من المفسرين في تأويل هذه الآية أن المتوفى عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفَّى عنها حولا، ويُنفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل، فإن خرجت لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها. ثم نُسِخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر، ونُسِخت النفقة بالربع والثمن في سورة النساء." وهذا القول منسوب إلى ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد والربيع.[1]

ولا شك أن هذا القول قائم على افتراض أن المراد بمدة "سَنَة" في هذه الآية (البقرة: 240) هو العدة، وافتراض أن هذه الآية نزلت قبل الآية (234) من سورة البقرة. وهي افتراضات لا يوجد دليل ظاهر يُثبتها.

القول الثاني
: روي عن مجاهد رأي مخالف للرأي السابق، وهو أن الآية (234) من سورة البقرة التي تتحدث عن العدة (أربعة أشهر وعشرا) نزلت قبل الآية (240) من سورة البقرة. وأن الآية (240) لا تتحدث عن العدة، بل تتحدث عن متعة المتوفى عنها زوجها، وهي الطلب من الزوج أن يوصي بالسكنى لزوجته إلى سنة كاملة.

وما ذهب إليه مجاهد يدل على أنه لا يوجد دليل على أن آية العدة (234) قد نزلت بعد آية الوصية بمُتْعَة السُّكنى إلى سَنَة كاملة، وإنما هو مجرد افتراض من القائلين بالنسخ لدفع ما اعتقدوه من تعارض بين الآيتين. كما أنه لا يوجد نص يشير إلى وقوع النسخ أو يُصرِّح به، وإنما المسألة مجرد اجتهاد قائم على اعتقاد التعارض بين الآيتين.

نعم، روي عن عبد الله بن الزبير اعتقاده النسخ بين هاتين الآيتين، ولكن هذا فهم منه، وليس نصا في وقوع النسخ حقيقة. أخرج البخاري في صحيحه عن ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: ابْنُ الزُّبَيْرِ قُلْتُ: لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) [البقرة: 234] قَالَ: قَدْ نَسَخَتْهَا الآيَةُ الأُخْرَى، فَلِمَ تَكْتُبُهَا؟ أَوْ تَدَعُهَا؟ قَالَ: "يَا ابْنَ أَخِي لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ".[2] وليس في الرواية تصريح بموافقة عثمان على رأي ابن الزبير رضي الله عنهما في دعوى النسخ.

وقد حاول القرطبي رحمه الله الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما هي أربعة أشهر وعشر. وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة عند رأس الحول."، وعقَّب عليه بقوله: "وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن حالة المتوفى عنهن أزواجهن قبل ورود الشرع، فلما جاء الإسلام أمرهن الله تعالى بملازمة البيوت حولا، ثم نسخ بالأربعة الأشهر والعشر."[3]

وهذا الذي استنتجه القرطبي لا يستقيم لأمور: أحدها: أن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم هو حال المرأة في الجاهلية، وأن الإسلام قد أكرمها بتحديد العدة بأربعة أشهر وعشرا، وحررها من ذلك الشقاء الذي كانت تخضع له بعد وفاة زوجها. الثاني: أنه ليس في الآيات ذكر أن العدة سَنَة كاملة، وإنما فيها الطلب من الزوج بأن يكرم أرملته بالوصية لها بالسكنى سَنَة كاملة. الثالث: أن الآية لم تُلزم المرأة بالبقاء في بيت زوجها سَنَة كاملة، بل أعطتها الحق في الخروج، وفي أن تفعل في نفسها ما تشاء بالمعروف: (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، ولو كان الأمر متعلقا بالعدة الواجبة، لوجب عليها الالتزام بها.

وما ذكره البعض من دعوى الإجماع على النسخ فيه نظر؛ لأن الإجماع دعوى تحتاج إلى إثبات. وكيف يُدَّعى الإجماع وقد رُوي عن مجاهد -بسند صحيح- أنه يرى أن آية العدة نزلت قبل آية المتعة إلى الحول، وأن آية المتعة إلى الحول جاءت لتزيد على آية العدة (أربعة أشهر وعشرا). أخرج البخاري عن ابن أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) [البقرة: 234] قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ العِدَّةُ، تَعْتَدُّ عِنْدَ أَهْلِ زَوْجِهَا وَاجِبٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ لَهَا تَمَامَ السَّنَةِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَصِيَّةً، إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ، وَهْوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) [البقرة: 240]. فَالعِدَّةُ كَمَا هِيَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا."[4]

الخلاصة أن دعوى النسخ في هذه الآيات غير ظاهرة وغير قوية، وهي قائمة على افتراض أن مدة "سنة" المذكورة في الآية (240) من سورة البقرة المراد بها العدة، والظاهر أنه ليس المراد بها العدة؛ لأن القرآن الكريم عبَّر عنها بالـمُتْعة، ومُدّة الـمُتْعة غير مُدّة العدة.

[1] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج4، ص203.
[2] صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا...)، ج6، ص31، حديث رقم (4536).
[3] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج4، ص205.
[4] صحيح البخاري، كتاب الطلاق، باب (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا)، ج6، ص29، حديث رقم (4531).
 
أعلى