العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

نسخ التلاوة: مراجعة نقدية (2)- عدم قدرة المسلمين على أخذ القرآن كله!!!

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي

نسخ التلاوة: مراجعة نقدية

في ما يأتي دراسة مفصلة لأهم الروايات التي توردها كتب علوم القرآن وكتب التفسير فيما يخص نسخ التلاوة.

عدم قدرة المسلمين على أخذ القرآن كله!!!

روى أبو عبيد القاسم بن سلام: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ قَدْ أَخَذْتُ القُرْآنَ كُلَّهُ. وَمَا يُدْرِيهِ مَا كُلَّهُ؟ قَدْ ذَهَبَ مِنْهُ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: قَدْ أَخَذْتُ مِنْهُ مَا ظَهْرَ مِنْهُ."[1]

وجاءت الرواية في كتاب التفسير من مسند سعيد بن منصور بالصيغة الآتية: "حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ: نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: أَخَذْتُ القُرْآنَ كُلَّهُ. وَمَا يُدْرِيهِ مَا كُلُّهُ؟ قَدْ ذَهَبَ مِنْهُ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ يَقُولُ: أَخَذْنَا مَا ظَهَرَ مِنْهُ."[2]


هذه الرواية جيدة السند، ولكنها في الحقيقة ليس لها علاقة بنسخ التلاوة؛ لأنها لا تتحدث عن زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الزمن الذي يقع فيه النسخ، ولا تذكر أن جزءا من القرآن قد ذهب في تلك الفترة، ولا تتحدث عن أن الصحابة استبعدوا بعضا من القرآن عند جمعه لكونه منسوخا، أو أن بعضا من القرآن ضاع منهم عند الجمع. بل هي تتحدث عن المسلمين بصفة عامة -في زمن عبد الله بن عمر وبعده- وأنه لا ينبغي لأحد منهم أن يدعي أنه أخذ القرآن كله.


ولا حاجة للتعسُّف في تأويلها على أن المراد بالذي لم يقدر عليه الناس من القرآن هو منسوخ التلاوة؛ لأنه يخالف تماما ألفاظ الرواية. والذي دفع البعض إلى إيرادها ضمن الحديث عن نسخ التلاوة هو سيطرة هذه الفكرة على أذهانهم، فيوردون للاستشهاد عليها ما هو قريب وما هو بعيد.


إن الرواية تتحدث عن المسلمين جميعا -في أي وقت من الأوقات-وأ بأنه لا ينبغي لأحد منهم أن يدعي أنه أخذ القرآن كله، وأنه لا أحد يحيط بالقرآن جميعه، بل على الإنسان أن يقول إنه أخذ ما ظهر له منه. ويستحيل أن يكون هذا عن ألفاظ القرآن؛ لأن القرآن الكريم مجموع في المصحف ومحفوظ في الصدور، وهو كلُّه في متناول جميع المسلمين ومتداول بينهم!


إن كلام ابن عمر رضي الله عنه إنما ينطبق على معاني القرآن الكريم؛ فالقرآن الكريم بحر من المعاني لا ساحل له ولا قاع، وكلٌّ يغرف من تلك المعاني ما ظهر له منها، ولا أحد يستطيع الزعم بأنه قد أخذ جميع معاني القرآن الكريم.


إن الرواية بألفاظها هذه تشير إلى هذا المعنى، ولعلها كانت في أصلها أظهر في ذلك، ولكن الرواية بالمعنى جعلت بعض الرواة يتصرف في ألفاظها عند نقلها بما جعلها أقل ظهورا، فتوهَّم البعض بأنها في شأن نسخ التلاوة. والرواية بالمعنى أمرٌ شائع، وعند الرواية بالمعنى يقع التصرف في الألفاظ بما يجعل المعنى أكثر أو أقل وضوحا. ومما يدل على روايتها بالمعنى والتصرف في بعض ألفاظها، أنك تجد فروقا -وإن كانت بسيطة- بين رواية أبي عبيد القاسم بن سلام وبين رواية سعيد بن منصور، وهما متعاصران، وكلاهما رواها مباشرة عن إسماعيل بن إبراهيم بن عُليَّة. والتغيير في الألفاظ إما أن يكون من أبي عبيد وسعيد بن منصور مع كون إسماعيل بن إبراهيم بن عُليَّة أداها بلفظ واحد، وإما أن يكون من إسماعيل بن إبراهيم بن عُليَّة بأن يكون حدّث بها مرة بلفظ ومرة أخرى بلفظ آخر. وعلى كل حال، فهذا يشير إلى التصرُّف اليسير في الألفاظ عند الرواية بالمعنى. والتصرف في الألفاظ -مهما كان يسيرا- قد يؤثر في ظهور المعنى وخفائه.


[1]ابن سلام، أبو عُبيد القاسم بن سلاّم، فضائل القرآن، تحقيق مروان العطية، ومحسن خرابة، ووفاء تقي الدين (دمشق/ بيروت: دار ابن كثير، 1415هـ/ 1995م) ص 320.
[2]ابن منصور، أبو عثمان سعيد بن منصور، التفسير من سنن سعيد بن منصور، دراسة وتحقيق سعد بن عبد الله بن عبد العزيز آل حميد (الرياض: دار الصميعي للنشر والتوزيع، 1417هـ/ 1997م) ج2، ص432.



 
أعلى