العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

بع الجمع بالدراهم، واشتر بالدراهم جنيبا

إنضم
8 أغسطس 2012
المشاركات
5
الجنس
ذكر
التخصص
شريعة
الدولة
قطر
المدينة
الدوحة
المذهب الفقهي
حنبلي
(بع الجمع بالدراهم، واشتر بالدراهم جنيبا)، ظن بعض العلماء أن هذا الحديث فيه إشارة إلى جواز الحيلة على الربا، فإنه إذا بادل التمر الرديء بالتمر الجيد، مع اختلاف الكيل مراعاة للجودة، كان ذلك ربا صريحا، فأرشده النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الحيلة على ذلك، واستدل به بعض الشافعية على جواز بيع العينة، وهو أن يبيع السلعة لرجل بنقد مؤجل، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن حالا؛ لأنه لم يخص بقوله (ثم اشتر بالدراهم جنيبا) غير الذي باع له الجمع.


وقد رد ابن القيم على هذه الشبهة ردا مطولا، خلاصته ما يأتي:


أولا: أن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (بع) إنما أراد به البيع الصحيح، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يأذن في العقد الباطل أو المحرم، وقوله (بع) هذا مطلق لا عام، فليس المراد أن كل بيع يبيع به التمر الرديء يكون مقبولا، وإنما البيع المطلق عند الشارع يراد به الصحيح.


ثانيا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما بين في هذا الحديث الطريق التي بها يحصل اشتراء التمر الجيد لمن عنده رديء، وهو أن يبيع الرديء بثمن، ثم يشتري بالثمن جيدا، ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه؛ لأن المقصود ذكر الحكم على وجه الجملة، أو لأن المخاطب أحيل على فهمه وعلمه بأنه إنما أُذن له في بيع يتعارفه الناس، وهو البيع المقصود في نفسه، ولم يؤذن له في بيع يكون وسيلة وذريعة ظاهرة إلى ما هو ربا صريح، وكان القوم أعلم بالله ورسوله وشريعته من أن يفهموا عنه أنه أذن لهم في الحيل الربوية التي ظاهرها بيع وباطنها ربا.


وليس الغالب أن بائع التمر الرديء بدراهم، يبتاع بها من المشتري حتى يقال: هذه الصورة غالبة فيحمل اللفظ عليها، ولا هو المتعارف عند الإطلاق عرفا وشرعا.


وبالجملة فإرادة هذه الصورة وحدها -أي أن يبيع ويشتري من نفس الشخص- من اللفظ ممتنع، وإرادتها مع غيرها فرع على عمومه، ولا عموم له، وإرادة القدر المشترك بين أفراد البيع إنما تنصرف إلى البيع المعهود عرفا وشرعا، وعلى التقديرات كلها لا تدخل هذه الصورة.


ثالثا: أن قول القائل "بع كذا، واشتر كذا" أو "بعت، واشتريت" لا يفهم منه إلا البيع الذي يقصد به نقل ملك المبيع نقلا مستقرا، ولهذا لا يفهم منه بيع الهازل ولا المكره، ولا بيع الحيلة، ولا بيع العينة، ولا يعد الناس من اتخذ خرزة أو عرضا يحلل به الربا ويبيعه ويشتريه صورة خالية عن حقيقة البيع ومقصوده تاجرا، وإنما يسمونه مرابيا ومتحيلا، فكيف يدخل هذا تحت لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم-؟


رابعا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا)، وهذا يقتضي بيعا ينشئه ويبتدئه بعد انقضاء البيع الأول، ومتى واطأه في أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك فقد اتفقا على العقدين معا، فلا يكون الثاني عقدا مستقلا مبتدأ، بل هو من تتمة العقد الأول عندهما وفي اتفاقهما، وظاهر الحديث أنه أمر بعقدين مستقلين لا يرتبط أحدهما بالآخر ولا ينبني عليه.


خامسا: مما يوضح فساد حمل الحديث على صورة الحيلة، أن المقصود الذي شرع الله تعالى له البيع وأحله لأجله، هو أن يحصل ملك الثمن للبائع، ويحصل ملك المبيع للمشتري، فيكون كل منهما قد حصل له مقصوده بالبيع، هذا ينتفع بالثمن وهذا بالسلعة، وهذا إنما يكون إذا قصد المشتري نفس السلعة للانتفاع بها أو التجارة فيها وقصد البائع نفس الثمن، ولهذا يحتاط كل واحد منهما فيما يصير إليه، هذا في وزن الثمن ونقده ورواجه، وهذا في سلامة السلعة من العيب وأنها تساوي الثمن الذي بذله فيها، فإذا كان مقصود كل منهما ذلك فقد قصدا بالسبب ما شرعه الله له، وأتى بالسبب حقيقة وحكما، وسواء حصل مقصوده بعقد أو توقف على عقود مثل أن يكون بيده سلعة وهو يريد أن يبتاع سلعة أخرى لا تباع سلعته بها لمانع شرعي أو عرفي أو غيرهما، فيبيع سلعته ليملك ثمنها، وهذا بيع مقصود وعوضه مقصود، ثم يبتاع بالثمن سلعة أخرى.


وهذه قصة بلال في تمر خيبر سواء، فإنه إذا ابتاع الجميع بالدراهم، فقد أراد بالبيع ملك الثمن وهذا مقصود مشروع، ثم إذا ابتاع بالدراهم جنيبا فقد عقد عقدا مقصودا مشروعا.


فإن ابتاع بالثمن من غير المشتري منه فهذا لا محذور فيه؛ إذ كل من العقدين مقصود مشروع، ولهذا يستوفيان حكم العقد الأول من النقد والقبض وغيرهما.


وأما إذا اشترى بالثمن من المشترى الأول، فهذا يخشى منه أن لا يكون العقد الأول مقصودا لهما، بل قصدهما بيع السلعة الأولى بالثانية فيكون ربا بعينه، ويظهر هذا القصد بأنهما يتفقان على صاع بصاعين أولا، ثم يتوصلان إلى ذلك ببيع الصاع بدرهم، ويشتري به صاعين، ولا يبالي البائع بنقد ذلك الثمن، ولا بقبضه، ولا بعيب فيه ولا بعدم رواجه ولا يحتاط لنفسه فيه احتياط من قصده تملك الثمن؛ إذ قد علم هو والآخر أن الثمن بعينه خارج منه عائد إليه، فنقده وقبضه والاحتياط فيه يكون عبثا!


وهو إنما عقد معه العقد الأول ليعيد إليه الثمن بعينه ويأخذ العوض الآخر، وهذا تواطؤ منهما حين عقداه على فسخه، والعقد إذا قصد به فسخه لم يكن مقصودا، وإذا لم يكن مقصودا كان وجوده كعدمه، وكان توسطه عبثا.


ومما يوضح الأمر في ذلك أنه إذا جاءه بتمر أو زبيب أو حنطة ليبتاعه به من جنسه، فإنهما يتشارطان ويتراضيان على سعر أحدهما من الآخر، وأنه مد بمد ونصف مثلا، ثم بعد ذلك يقول: بعتك هذا بكذا وكذا درهما، ثم يقول: بعني بهذه الدراهم كذا وكذا صاعا من النوع الآخر، وليس للبائع ولا للمشتري غرض في الدراهم، والغرض معروف، فأين من يبيعه السلعة بثمن ليشتري به منه من جنسها إلى من يبيعه إياها بثمن له غرض في تملكه وقبضه، وتوسط الثمن في الأول عبث محض لا فائدة فيه، فكيف يأمر به الشارع الحكيم مع زيادة التعب والكلفة فيه.


سادسا: لو كان البيع والشراء الصوري هذا سائغا لم يكن في تحريم الربا حكمة، سوى تضييع الزمان وإتعاب النفوس بما لا فائدة فيه، فإنه لا يشاء أحد أن يبتاع ربويا بأكثر منه من جنسه، إلا قال: بعتك هذا بكذا، وابتعت منك هذا بهذا الثمن، فلا يعجز أحد عن استحلال ما حرمه الله قط بأدنى الحيل.


يوضحه أن الربا نوعان: ربا الفضل، وربا النسيئة، فأما ربا الفضل فيمكنه في كل مال ربوي أن يقول: بعتك هذا المال بكذا، ويسمي ما شاء، ثم يقول: اشتريت منك هذا -للذي هو من جنسه- بذلك الذي سماه، ولا حقيقة له مقصودة.


وأما ربا النسيئة فيمكنه أن يقول: بعتك هذه الحريرة بألف درهم أو عشرين صاعا إلى سنة، وابتعتها منك بخمس مئة حالة أو خمسة عشر صاعا، ويمكنه ربا الفضل، فلا يشاء مراب إلا أقرضه ثم حاباه في بيع أو إجارة أو غيرهما، ويحصل مقصوده من الزيادة، فيا سبحان الله! أيعود الربا -الذي قد عظم الله شأنه في القرآن، وأوجب محاربة مستحله، ولعن آكله وموكله وشاهديه وكاتبه، وجاء فيه من الوعيد ما لم يجيء في غيره- إلى أن يستحل نوعاه بأدنى حيلة لا كلفة فيها أصلا إلا بصورة عقد هي عبث ولعب يضحك منها ويستهزأ بها؟ فكيف يستحسن أن ينسب إلى نبي من الأنبياء فضلا عن سيد الأنبياء، بل أن ينسب رب العالمين إلى أن يحرم هذه المحرمات العظيمة ويوعد عليها بأغلظ العقوبات وأنواع الوعيد، ثم يبيحها بضرب من الحيل والعبث والخداع الذي ليس له حقيقة مقصودة البتة في نفسه للمتعاقدين.


وترى كثيرا من المرابين -لما علم أن هذا العقد ليس له حقيقة مقصودة البتة- قد جعل عنده خرزة ذهب، فكل من جاءه يريد أن يبيعه جنسا بجنسه أكثر منه أو أقل ابتاع منه ذلك الجنس بتلك الخرزة، ثم ابتاع الخرزة بالجنس الذي يريد أن يعطيه إياه، أفيستجيز عاقل أن يقول: إن الذي حرم بيع الفضة بالفضة متفاضلا أحلها بهذه الخرزة؟


وجماع الأمر أنه إذا باعه ربويا بثمن وهو يريد أن يشتري منه بثمنه من جنسه، فإما أن يواطئه على الشراء منه لفظا، أو يكون العرف بينهما قد جرى بذلك أو لا يكون، فإن كان الأول فهو باطل كما تقدم تقريره؛ فإن هذا لم يقصد ملك الثمن ولا قصد هذا تمليكه، وإنما قصد تمليك المثمن بالمثمن، وجعلا تسمية الثمن تلبيسا وخداعا ووسيلة إلى الربا، فهو في هذا العقد بمنزلة التيس الملعون في عقد التحليل.


وإن لم تجر بينهما مواطأة لكن قد علم المشتري أن البائع يريد أن يشتري منه ربويا بربوي فكذلك؛ لأن علمه بذلك ضرب من المواطأة، وهو يمنع قصد الثمن الذي يخرجان به عن قصد الربا.


وإن قصد البائع الأول -الذي يبيع التمر الجنيب- الشراء منه بعد البيع ولم يعلم المشتري، فقد قال الإمام أحمد: لو باع من رجل دنانير بدراهم لم يجز أن يشتري بالدراهم منه ذهبا، إلا أن يمضي ويبتاع بالورق من غيره ذهبا فلا يجد، فيجوز حينئذ أن يرجع إلى الذي ابتاع منه الدنانير فيشتري منه ذهبا.


وكذلك كره مالك أن تصرف دراهمك من رجل بدنانير، ثم تبتاع منه بتلك الدنانير دراهم غير دراهمك في الوقت أو بعد يوم أو يومين، قال ابن القاسم: فإن طال الزمان وصح أمرهما فلا بأس به.


وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما: إذا لم يكن شرط ومواطأة بينهما لم يحرم، وقد أوما إليه الإمام أحمد في رواية حرب، فإنه قال: قلت لأحمد: أشتري من رجل ذهبا ثم أبتاعه منه، قال: بيعه من غيره أحب إلي، وذكر ابن عقيل أن أحمد لم يكرهه في رواية أخرى. [فتح الباري 4/400، أعلام الموقعين 4/138-152]
 
أعلى