العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

المذهب المالكي: تاريخه وأصوله

وفاء الراشيدي

:: متابع ::
إنضم
28 يوليو 2022
المشاركات
2
الإقامة
شفشاون.المغرب
الجنس
أنثى
الكنية
الراشيدي
التخصص
الدراسات الاسلامية
الدولة
المغرب
المدينة
شفشاون
المذهب الفقهي
المالكي
لكل بلد في العالم ثوابته الدينية الخاصة وللمغرب أيضا ثوابته الدينية وتتمثل في كل من إمارة المؤمنين والعقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف السني، والثابت الذي يهمنا نحن الان هو الثابت المتعلق بالمذهب المالكي، فالمملكة المغربية اعتمدت على المذهب المالكي في المسائل الفقهية، وظل المغاربة أوفياء لمذهب الإمام مالك، لا يرضون بغيره بديل، فتبناه العلماء والعامة، وحماه الامراء والملوك والخلفاء، ومؤسس هذا المذهب هو الإمام مالك بن أنس ويعد مذهبه مدرسة مثقلة بين المدارس الفقهية الاجتهادية التي استمرت حتى عصرنا كما يعد الامام مالك محدثا محدثا مدققا وفقيها قويا.

ولد الامام مالك بالمدينة المنورة سنة 93ه وتوفي سنة 179ه المشهور بإمام دار الهجرة وهو في بيت علم، فجده الأعلى أبو عامر اختلف في كونه صحابي جليل أو تابع مخدرم جده الأسفل مالك هو من كبار التابعين وعلماءهم وعمه أبو سهيل هو من سادة التابعين وقد روى عنه الامام مالك في الموطأ.

لقد تبحر مالك بن أنس في علوم الشريعة ولازم كبار علماء المدينة عددهم يصل إلى تسع مائة شيخ، ست مائة من التابعين وثلاث مائة من تابعهم كابن شهاب والزهري ونافع مولى ابن عمر...وشهد له سبعون شيخا وقته بالعلم وبناءا على ذلك اتخذ مجلسا في المسجد النبوي للدرس والافتاء رغم أن سعة شهرته ومعرفته عرف بكلمة " لا أدري".

لقد كان لمكوث الامام مالك بالمدينة المنورة واستقراره فيها أثر بالغ جدا على تكوينه العلمي نظرا للمكانة الدينية والرمزية للمدينة المنورة فهي موطن الرسول صلى الله علي وسلم ومجمع الصحابة.

الامام مالك لم يكن يسافر كثيرا بل كان يمكث في المدينة ولكن عندما كانوا الناس يأتون للحج وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ،حين ذاك كان الامام مالك يلتقي بهم ويرى أعراف الناس وأحوالهم واختلاف مشاربهم وتباين أجناسهم ويهذا فالمادة الدراسية الفقهية هي التي تجيء إلية من غير عناء السفر والانتقال.

إذا كان الامام مالك لم يخرج عن بلاد الحجاز، فكيف انتشر مذهبه في مختلف بقاع العالم؟

كما نعلم أن أفضل طرق انتشار المذاهب تكون عن طريق كثرة التلاميذ لذلك انتشر المذهب المالكي عن طريق تلاميذ الامام الذين أتو إلى المدينة المنورة من مختلف بقاع الأرض، كما قال القاضي عياض:" فغلب مذهب مالك على الحجاز والبصرة ومصر وما والاها من بلاد أفريقية والأندلس وصقلية والمغرب الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان إلى وقتنا هذا وظهر ببغداد ظهوراً كثيراً وضعف بها بعد أربعمائة سنة وضعف بالبصرة بعد خمسمائة سنة وغلب من بلاد خراسان على قزوين وأبهر وظهر بنيسابور وكان با وبغيرها أئمة ومدرسون سنذكر منهم بعد في طبقاتهم من ألهم الله تعالى إليه، وكان ببلاد فارس وانتشر باليمن وكثير من بلاد الشام، وغلب مذهب أبي حنيفة على الكوفة والعراق وما وراء النهر وكثير من بلاد خراسان إلى وقتنا وظهر بإفريقية ظهوراً كثيراً إلى قريب من أربعمائة عام فانقطع منها ودخل منه شيء ما وراءها من المغرب قديماً بجزيرة الأندلس وبمدينة فاس"

هكذا يحكي القاضي عياض انتشار المذهب المالكي، يأتون من كل حدب وصوب إلى المدينة لطلب العلم ثم يرجعون إلى بلدهم ناشرين ما تعلموه ونشره في بلداتهم.

هنا سيتبادر في أذهانكم سؤال ألا وهو من يا ترى أسهم في إدخال المذهب المالكي إلى منطقة الغرب الإسلامي؟

لقد استقر المذهب بالقيروان على يد علي بن زياد التونسي وأبي سعيد بن أشرس وأبي عمرو بن راشد حسب ما جكاه لنا القاضي عياض في كتابه المدارك.

للمذهب المالكي مدارس تحمل كل مقتضياته وضوابطه ولكل بلد مدرسته الخاصة فتنقسم المدارس المالكية كما الآتي:

المدرسة المدنية: تعتبر هذه المدرسة هي الأم باعتبار المدينة المنورة هي المستقر الامام المؤسس ، أشهر أعلام هذه المدرسة هم ابن الماجشون، ومطرف بن عبد الله ،وابن دينار وابن حازم وابن مسلمة.

المدرسة المصرية : تشكلت هذه المدرسة زمن الامام مالك -رحمة الله عليه- تعتبر ثاني مدرسة وقد انتهت إلى عبد الله بن الحكم رياسة المالكية وابن أشهب وابن القاسم الذي لازم الامام مالك عشرون سنة لكن ضعف المذهب المالكي بمصر مع العبيدين الذين أقاموا المذهب الشيعي .

المدرسة العراقية: هي امتداد للمدرسة الأم لأن مؤسسها تتلمذوا على يد أصحاب مالك المدنيين كما انتقل بعض المدنيين إلى بغداد كسليمان ابن بلال ونشروا المذهب المالكي هناك ومن أشهر أعلامها أحمد بن المعدل وأبي بكر الأبهاري والقاضي عبد الوهاب وابن القصار والباقلاني ...وكان منتشرا انتشارا باهرا لكن ضعف بعد موت أبي بكر الأبهري، فصار القضاء وقته على مذهبي الشافعي وأبي حنيفة

المدرسة المغربية: نقصد بيها فاس والقيروان والأندلس، نبتدأ بالقيروان وتسمى أيضا المدرسة الافريقية ومن أعلامها: البهلول بن راشد وعبد الرحمن بن أشرس وعلي بن زياد، ويرجع الفضل في إدخال المذهب عموما لمنطقة الغرب الإسلامي ومن أشهر أعلام هذه المنطقة هو أسد بن الفرات وسحنون الذي اشتهر بكتابه المدونة وهي ثاني أهم كتاب في المذهب المالكي بعد الموطأ، من الأعلام المشتهرين في هذه المدرسة أيضا ابن أبي زيد القيرواني الذي انتشرت كتابته في المغرب والمشرق.

بعدما تحدثنا عن القيروان نتحدث الان على قرطبة أي الاندلس ومن أشهر أعلامها يحيى بن يحيى الليثي والذي اشتهر برواية الموطأ ومن أشهر أعلامها أيضا اب شبطون وقيل عنه أول من أدخل موطأ الامام مالك كاملا بالسماع إلى الأندلس كما حكى القاضي عياض وأيضا عبد الملك بن حبيب وابن عبد البر وابن رشد الجد

لم يكن فرق بين هذه المدارس المغربيةـ، حيث المذهب المالكي منتشر في ثلاث قارات: آسيا و افريقيا و أوروبا.

إن المذهب المالكي كان جامعة دينية متكاملة لتخريج الأئمة والفقهاء والمجتهدين الذين نشروا في الآفاق، لكن ما كان للمذهب المالكي لينتشر وما كان ليستمر لولا ثراء أصوله وقواعده.

تميز المذهب المالكي بكثرة الأصول وذلك بسبب عدة عوامل؛ البيئة التي نشأ فيها المذهب المالكي وهي المدينة المنورة فقد كان لهذه البقعة آثر كبير جدا ،إذ كان يأتي إليها المسلمون من مختلف بقاع العالم والأرض لزيارة روضة الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا يلتقون بالامام مالك وكان يقدم لهم الفتوى...

هنا سنطرح سؤال، هل الامام مالك عالم أثر أم عالم نظر أيضا؟

إن الامام مالك ليس فقيه آثر فقط كما ينشر لدى البعض بل هو فقيه اجتهاد ونظر أيضا لذلك نجد ابن قتيبة 276ه في كتابه المعارف يعد الامام مالك من أصحاب الرأي فيضعه مع أبي ليلى وأبي حنيفة وأبي يوسف تحت عنوان أصحاب الرأي وهذا يؤكد أن الامام مالك علم بالاثر والحديث كما يدل ذلك كتابه الموطأ إضافة إلى أنه عالم بالنظر والاجتهاد وهذا نلاحظه في زمن مالك فكانوا نوازل ووقائع وقعت لا للخطاب الشرعي مجال فيها فكان لابد من إعمال الرأي ما دام علمه يصل إلى المشرق، وأيضا الامام مالك جمع بين الأصول النقلية والعقلية في قوله:" وقال مالك وقد ذكر له الموطأ فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابة والتابعين ورائى وقد تكلمت برأي على الاجتهاد وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، ولم أخرج عن جملتهم إلى غيره"

ذكر القرافي في كتابه شرح تنقيح الفصول وهو كتاب في أصول الفقه أن أصول المذهب هي: القران والسنة والاجماع وإجماع أهل السنة والقياس وقول الصحابي والمصلحة المرسلة والعرف والعادات وسد الذرائع والاستصحاب والاستحسان وشرع من قبلنا ومراعاة الخلاف، كما يمكن تقسيم هذه الأصول إلى أصول عقلية نقلية وتنزيلية أيضا.

الأصول النقلية: القران الكريم، السنة النبوية، عمل أهل المدينة، الاجماع، قول الصحابي، شرع من قبلنا.

الأصول العقلية: القياس، الاستحسان، المصلحة المرسلة، سد الذرائع، الاستصحاب، مراعاة الخلاف.

الأصول التنزيلية: العرف والعادات، ما جرى به العمل.

بعدما تحدثنا عن المذهب المالكي بصفة عامة ، فنحن كمغاربة لابد لنا أن نعرف لمحة تاريخية حول المدرسة المالكية المغربية الفاسية ،لكن بعد هذا فلنتعرف على الحالة الدينية للمغرب قبل دخول المذهب المالكي.

إن تحديد دخول المذهب المالكي يلزمنا أن نتوقف قليلا عند مرحلة الفتح الإسلامي لبلاد المغرب، إذ عرف الإسلام طريقة إلى المغرب مبكرا أي منذ بداية النصف الثاني من القرن الأول الهجري على يد عقبة ابن نافع ثم دخلته مجموعة يقودها الفاتح موسى ابن نصير وتولى الفاتحون حتى استقر الأمر عند المولى ادريس ابن عبد الله ثم خلفه ابنه بعد ذلك ادريس الثاني الذي أكمل بناء الدولة وأسس عاصمتها فاس وقد كانت الدولة الادريسية أول دولة مغربية مسلمة مستقرة في المغرب الأقصى.

بعد الفتح الإسلامي غدا المغرب يعيش وسط مزيج بين المذاهب والتيارات والفرق الإسلامية، سواء على صعيد السياسة أو العقيدة أو الفقه، وكان بعضها تتسم بالتشدد أحيانا نظرا إلى وجود فرق الخوارج واستقرارهم في المغرب لمدة من الزمن تلاه بعد ذلك مذهب الاعتزال وغيرها من المذاهب الأخرى ، أما في الفقه فقد عرف المغرب مذاهب شتى منها المذهب الحنفي الذي استمر وجوده إلى عهد الدولة الادريسية ، ولا يستبعد كذلك وجود المذهب الأوزاعي نظرا إلى القرب من الأندلس وهو من المذاهب التي اندثرت ولم تستمر، فالمغرب بالرغم من بعد مسافته عن المشرق إلا أنه ظل مرتبطا بالمشرق وعارفا بتحولاته الفكرية والسياسية التي تصله بواسطة الحجاج وطلبة العلم والرحالة وكذلك عن طريق المضطهدين الذين كانوا يجدون في المغرب ملجأ سياسيا آمنا.

فهذا عموما حال المغرب قبل دخول المذهب المالكي مزيج بين التيارات المذهبية، فليس المذهب المالكي أول مذهب تعرفه المنطقة الأمر الذي يدعون للتساؤل ؛ كيف ترسخ المذهب المالكي بالمغرب رغم وجود هذه التيارات؟ وقبل ذلك كيف دخل المذهب للمغرب؟

عموما يرجع تكوين نواة المدرسة المالكية بالمغرب إلى عصر الدولة الإدريسية الذي بدأت تقريبا منذ سنة 172ه فدخول المذهب المالكي يرتبط بمبايعة المولى إدريس بحيث الكثير من الدراسات التي تقول لم يكن في هذه المرحلة ترسيم المذهب وإنما وجود ما يمكن أن نسموه التوقير والاحترام العلمي للمذهب في شخص الإمام إدريس الأب بعلة أن الإمام مالك يروي في موطأه عن عبد الله الكامل والد المولى إدريس وهذا يدل على أن المذهب الملكي دخل مبكرا من تاريخ المذهب نفسه إذ عرف المذهب طريقه نخو المغرب والأندلس في حياة الإمام مالك نفسه.

فما هو أول من أدخل المذهب للمغرب؟

لا نجد جوابا حاسما عن هذا السؤال بل نجد أقولا مختلفة منها ما جاء عند المؤرخ الناصري من أن زياد بن عبد الرحمن المعروف بشبطون هو أول من أدخل فقه مالك إلى الأندلس وقال الناصري "شبطون كَمَا قُلْنَا وَهُوَ أول من أَدخل كتاب الْمُوَطَّأ الْمغرب أَتَى بِهِ مكملا متقنا"، ولا يخفى علينا التقارب الجغرافي والمعرفي بين الأندلس والمغرب، كما نجد قولا آخر غير هذا بالقول من أن أول من أدخل موطأ مالك بن أنس إلى المغرب هو عامر بن محمد بن سعيد القيسي على عهد المولى ادريس الثاني إذ كان قاضيا في هذا الزمان وكان قد سمع من الامام مالك وسفيان الثوري وروى عنهما كثيرا، واشتهر أيضا أن أول من أدخل كتاب الموطأ إلى الأندلس هو يحيي بن يحيي الليثي 234ه وأما ابن فرحون فقد ذهب إلى أن الفازي بن قيس أول من أدخل موطأ مالك وقراءة نافع على الأندلس.

فهذه تقريبا هي معظم الأقوال في المسألة والاختلاف لا يضر عموما إذ يمكن التوفيق بينها، فإن دخول المذهب المالكي لمنطقة الغرب الإسلامي وبالضبط منطقة المغرب الأقصى بدأ منذ عهد الدولة الإدريسة أواسط القرن الثاني الهجري، ويعتبر دخول الكتاب الموطأ نقطة بدء دخول المذهب فعليا وتشكيل المدارس المغربية.

مما سبق هل يدل ذلك أنه تم ترسيم المذهب المالكي في هذه الفترة الزمنية؟

المذهب المالكي عرف طريقه مبكرا للمغرب، لكن مسألة ترسيم المذهب ليست محسومة بعد ، إننا عند البحث في هذه المسألة وجدنا المؤرخين اختلفوا في تحديد تاريخ اتخاذ المالكي المذهب الرسمي للدولة المغربية ، إذ لا جد وثائق تدل أن الأدارسة دعو إلى مذهب الامام مالك بشكل رسمي في حين نجد من يرى أن بدايات الترسيم كانت مع الادريس الثاني الذي قيل إنه كان على مذهب الامام مالك.

تمدد المذهب المالكي أكثر في عهد الدولة المرابطية التي كانت تعتمد المذهب المالكي إذ كان للفقهاء المالكية حضوة كبيرة عند الخلفاء المرابطين، واشتهر أن عبد الله بن ياسين الجزولي الفقيه كان له إسهام قوي في تأسيس الدولة المرابطية التي أسهمت في ترسيخ المذهب المالكي بالمغرب والأندلس عن طريق دعمها الرسمي له، وقد أتاح هذا الترسيم السياسي في انتشار المذهب في الغرب والأندلس كما أسهم هذا الترسيم في بروز فقهاء كبار تركوا انتاجات علمية مهمة جدا ما زال تأثيرها مستمرا إلى يومنا هذا ويكفي أن القاضي عياض السبتي مفخرة المغرب المتوفى سنة 544ه، وكما أ يوسف ابن تاشفين 500ه كان مالكي المذهب فدافع عنه وهيأ له أسباب الانتشار لكن انحسر انتشار المذهب مع الدولة الموحدية، ويجدر بنا التوقف قليلا عند موقف الدولة الموحدية بين المذاهب المالكي إذ انتشر في كثير من الكتابات أن الدولة الموحدية اتخذت موقفا عدائيالا من المذهب المالكي، فهل هذا الأمر صحيح؟

لقد ذهب الكثير من الباحثين إلى القول بانتهاء المهدي بن تومرت ومن أتى بعده للمذهب الظاهري مما جعلهم يسمون الدولة الموحدية بأنها دولة ظاهرية والسبب في ذلك اختلافهم في فهم نصوص ابن تومرت من جهة واعتماد نصوص تاريخية تنتمي للحقبة التي تأتي بعده ولعل من أوائل من أصدر هذه الأحكام من المؤرخين وتابعه فيها كثيرون بعده المؤرخ عبد الواحد المراكشي، فقد كان كثيرا ما ينسب المؤرخين وبالأخص المنصور الموحد إلى الظاهرة ويصفهم بمعاداة المالكية وهذا ما زكاه كثير من المؤخرين وقد استدل من هذا الفريق بثلاثة حجج اعتبروها أدلة على الظاهرية الموحدين ومعاداتهم للمالكية من هذه الحجج:

ما ذهبوا إليه من إنكار الرأي ونبذ الفروع والرجوع إلى نصوص القرآن والحديث مثلما هو الحال عند ابن حزم الظاهري.

ما كانوا عليه من رفع لشأن ابن حزم وإبداء التقدير له

ما كانوا عليه من عداء لكتب الفروع المالكية وما قام به المنصور خاصة من تحريف لها وتهديد لمن يشتغل بها.

فهذه هي الحجج الثلاثة لكنها لا ترتقي إلى مستوى الجزم بالانتماء الظاهري للدولة الموحدية فهي وإن وافقت الظاهرية في بعض مبادئها إلا أنها لا تتبنها مذهبا رسميا للدولة الموحدية هذبت شيئا من المذهب المالكي وأضافت إليه مبادئ أخرى قد تلتقي مع المذهب الظاهري وقد تفترق وهذا الاتفاق ليس دليلا على الانتماء الكلي، الدولة الموحدية لم ترفض المذهب المالكي كليا وإنما رفض التفريعات المالكية.

لقد استمر العمل بالمذهب المالكي مع الدولة المرينية بل ازداد قوة في عصرها واحتضنت مدينة فاس وقتها كبار المؤرخين والأدباء والعلماء كلسان الدين الخطيب وابن خلدون وابن البناء المراكشي، وتراجع العمل بالمذهب المالكي شيئا ما عهد الدولة الوطاسية دون أن يعرف عنها محاربة المذهب وهذا التراجع ربما يعود إلى خمول حياة الثقافية جراء الفتن التي عمت البلاد في عهد الوطاسيين ومع الدولة السعدية استردت الحياة الثقافية جزءا من عافيتها أذ اهتموا بإصلاح المدارس والمساد القديمة كتوسيع مسجد القرويين كما اعتنوا بأهل العلم وطلبته وبلغ هذا الاهتمام أوجه في عهد أحمد المنصور كما تميز عهد السعديين بإنشاء الكراسي العلمية بعدد من المساجد وخصصوا أوقافا لتغطية مصاريفها وانتعش المذهب المالكي عهد الدولة العلوية التي أحبت المذهب المالكي الذي ركد شيئا ما بعد وفاة أحمد المنصور السعدي فأنشأت هذه الدولة مدارس جديدة يدرس فيها العلم عموما والمذهب المالكي على وجه الأخص كما تم تأسيس المطبعة الحجرية بمدينة فاس، وعموم فإن المذهب المالكي هو الذي يقوم عليه التدين المغربي فيما يخص الفقه والتشريع على مدار القرون، وإن كان يتأثر أحيانا بالأحوال السياسية والاقتصادية للدولة قوة وضعفا، مما يؤكد أن الإرادة السياسية لا تكفي بمفردها في نفي المذهب كما لا تكفي بمفردها في ترسيخه، إن هذا الأمر يستلزم منا التوقف عند عوامل استمرار المذهب المالكي؛ فما هي هذه العوامل؟

ما كان للمذهب المالكي ليستمر زهاء 12 قرنا بالمغرب لولا وجود مجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية التي أسهمت في ترسيخ المذهب وتثبيته، فمن العوامل:

كثرة أصول المذهب المالكي : وهذا مما يؤكد استمراره في المغرب طوال هذه القرون لأن هذه الأصول تبين قدرة المذهب على التجدد والتفاعل مع المجتمع ومستجداته، فالمذهب المالكي ثري الأصول إذ تبلغ أصوله حوالي 15 أصلا فقهيا أو أكثر ومن هنا نفهم تعدد المدارس الذاهب المالكي في وقت مبكر من تاريخ المذهب نفسه إذ تنقسم المذاهب الفقهية المالكية حسب جغرافية كل منطقة فالبيئة العراقية غير المصرية وغير المغربية وغير الحجازية....

المرونة في التيسير في المعاملات: من بواكر كتابات المعاملات كتاب أحكام السوق ليحيى بن عمر الأندلسي 288ه

مراعاة المقاصد العامة للتشريع: إذ يتميز المذهب المالكي باعتماد المصالح المرسلة ومراعاتها في الاجتهاد والفتوى وهذا ما جعله مناسبا لمختلف البيئات، إذ كان يراعي مقاصد الشرع في معاملتهم مما لا يتعارض مع القرآن والسنة.

السبب الذاتي: تأثير مالك بن أنس على المغاربة بسيرته العطرة ورقيه الأخلاقي لأنه كان شديد العناية بطلبة العلم عموما والمغاربة خصوصا بل كان كثير الثناء على المغاربة، مما ساعد على نمو هذه العلاقة تفير العلماء لحديث النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" يوشك أن يضرب الناس أكباد الابل يطلبون العلم فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة"، وقد روي عن ابن عيينة أنه قال في هذا سئل من عالم المدينة؟ فقال: إنه مالك بن أنس .

كثرة التلاميذ: لقد كان للامام مالك من التلاميذ ما لا كان عند الائمة الآخرون.

وهذا كله بفضل طول مدة مكث صاحب المذهب في الإقراء والتدريس لمدة ناهزت 60 سنة، مما أتاح أن يكون له تلاميذ كثر من أقطار مختلفة من خرسان والعراق والشام ومصر والمغرب...

العامل الجغرافي: موقع المدينة المنورة مقر عمل الإمام مالك رحمة الله عليه وكذا دور موسم الحج في التلقي على الإمام مالك يعتبر دورة سنوية يجتمع فيها المسلمون من مختلف بقاع العالم لأداء فريضة الحج وزيارة روضة النبي والصلاة في مسجده.

العامل السياسي: أحد أبرز العوامل في ترسيخ المذهب واستمراره في المغرب.

الفقه المالكي كان في الغرب الإسلامي متشابكا مع واقع الناس وهمومهم ومسايرا لنوازلهم ومستجداتهم، لهذا السبب اختار المغرب المذهب المالكي كثابث من ثوابته الدينية الأربعة.
 
أعلى