العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

وغادرنا الرَّأس المرفوع، شيخٌ من شيوخ وادي مرفوع

د. عبدالحميد بن صالح الكراني

:: المشرف العام ::
طاقم الإدارة
إنضم
23 أكتوبر 2007
المشاركات
8,136
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أسامة
التخصص
فقـــه
الدولة
السعودية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
وغادرنا الرَّأس المرفوع، شيخٌ من شيوخ وادي مرفوع
خواطر في رثاء الشَّيخ أبي عبدالله: معيوف بن مطر الجعيد -رحمه الله-.

كتبه: د. عبدالحميد بن صالح الكرَّاني

بسم الله، والحمد لله، وصلاةً وسلامًا على رسول الله.

جاءت نصوص الشَّريعة لتؤكِّد على مكانة كبيري السِّنِّ والمَقام؛ الذين خبروا الحياة وجرَّبوها، وعرفوا مواضع الخير ومزالق الشرِّ فيها، ولاسيَّما وهذه الشَّيبة قد شابت في الإسلام، فمُجالستهم نفع واستزادة، والأخذ برأيهم استفتاح وريادة، وقد قال نبيُّنا عليه الصَّلاة والسَّلام: «‌الْبَرَكَةُ ‌مَعَ ‌أَكَابِرِكُمْ» [أخرجه الطَّبرانيُّ في الأوسط]. وفي رواية: «‌الْخَيْرُ ‌مَعَ ‌أَكَابِرِكُمْ» [أخرجه البزَّار]. وبموت هؤلاء ينقص الخير بقدرهم، وتقلُّ الخبرة بغياب رأيهم، وإذا ذهب الرأسُ ذهب الجسد كلُّه.

إِذَا مَا مَاتَ ذُو عِلْمٍ وَتَقْوَى * فَقَدْ ثَلمَتْ مِنَ الإِسْلامِ ثُلْمَهْ

وَمَوْتُ الْعَابِدِ الْمَرْضِيِّ نَقْصٌ * فَفِي مَرْآهُ لِلأَسْرَارِ نَسْمَهْ

وَمَوْتُ الْفَارِسِ الضِّرْغَامِ هَدْمٌ * فَكَمْ شَهَدَتْ لَهُ بِالنَّصْرِ عَزْمَهْ

وقد شدنَّي قراءة مقالٍ بارع، كُتِب بقلمٍ فارع، لأخي وزميلي العزيز، فضيلة الشيخ الدكتور/ سلطان بن حَبَّاب الجعيد؛ وهو الخطيب المُفوَّه، والأستاذ بكلِّ علمٍ يُنَوِّه، وعنوان مقاله: «مهلًا أَيُّها الجيل الفريد» كلماتٌ في رثاء -الفقيد أبي عبدالله- الشَّيخ معيوف بن مطر الجعيد -رحمه الله-، وقد شهدتُ أنه لم يبالغ قطُّ، بل أصاب كبد الحقيقة، ونفذ إلى باطنها.

وتتميمًا لما بدأ به مقالَه، وانتدابًا للوفاء بحقِّ الصُّحبة لمن حمل كنيةَ والدِهِ ونداءَه (أبا عبدالله)، أعني ابنه: أبا معاذ، سعادة الدكتور/ عبدالله بن معيوف بن مطر الجعيد -حفظه الله ورعاه-؛ فهذه فاتحة الخواطر:

وترجَّل الفارسُ:
ومات العمُّ الشَّهم الأبيُّ: «معيوف»؛ الرَّجُل الذي تنادى النَّاس بأخلاقه، وتسامع الرَّكب بشِيَمه وإكرامه، ولا أذيع سرًّا إن قلتُ: إنَّني وإن لقيتُ العمَّ «معيوف» مراراً، إِلَّا أَنَّ عدد لقاءاتي به لا يتجاوز أصابع اليد، غير أَنَّها كانت لقاءاتٌ ثريَّةٌ، ومُلهِمة مريَّة.

إنك حين تجلس مع هذه القامة لَتَجدُ في جُعبته الكثير من الحكايات، سواءٌ عن نشأته وماضيه، أو كيف عركته الحياة وعركها؛ إذ نشأ في البادية تحوطه الصَّحراء من كل ناحية، وفي ذلك تحدِّيات تقهر الإنسان؛ لما يعانيه من شدِّة الحرِّ والظَّمأ، وهمٍّ بين حِلٍّ وتَرْحال، لا يعرفون حياة الدَّعة والرَّفاهية، ولا يدركون ما أمامهم من متاهاتٍ متوالية، ويأوون إلى خيامهم البسيطة، المصنوعة من الشَّعر والوَبَر، تُنصب وقت الإقامة، وتطوى وقت الرَّحيل بكُلْفة وسآمة، بينما عملهم وقُوام حياتهم رعي الدَّوابِّ والماشية، من الإبل والأغنام بأرجلٌ حافية!، ومع ما في هذه الحياة من الشَّظف والقسوة النَّابية، إِلَّا أَنَّهم تربَّوا فيها على تحمُّل المسؤوليَّة الكافية، والاعتماد على النَّفس بعزيمةٍ وافية.

وقد ورث العمُّ «معيوف» صفات العربيِّ الأصيل، من الشَّهامة والمروءة، والكرم والنَّجدة، والعفو والسَّماحة، فهي متأصِّلة فيه جبليَّة ليست بمتكلَّفة، مع ما طبعه الله عليه من صبرٍ وأناة، وسعة صدرٍ وطول بالٍ حماه، فَحُقَّ لأبي عبدالله قول أبي تمَّام يوافيه:

وَرُحْبَ صَدْرٍ لَوَ أَنَّ الأَرضَ واسِعَةٌ * كَوُسْعِهِ لَم يَضِقْ عَنْ أَهلِهَا بَلَدُ

ورغم الحياة القاسية التي عاشها أبا عبدالله، والظُّروف الصَّعبة التي أحاطت به، إِلَّا أَنَّه كان يمتلك روحَ المَرحِ والدُّعابة، ولُطف المشاعر تملأ إهابه، وكأَنَّه كان يهرب إليها ليقتنص منها لحظات الفرح، ويستدر منها حياة السُّرور، وقد رافَقَتْه هذه البشاشة حتَّى أخريات عمره، فتلقاه مُرحِّبًا متهلِّلاً، كريمًا متودِّدًا، مُحبٍّا للاندماج والتَّفاعل مع الآخرين، يبادر بالتَّبسُّط في المزاح والضَّحك، ويألفك بالإيناس على سليقة تُدهِشك، فهو يُعبِّر عن إنسان أحبَّ الحياة؛ وعاش حُلوها ومُرَّها.

والشيخ الجليل الرَّاحل «معيوف» -وهو على مشارف التِّسعين- مع كونه مُتشِّبعًا بعراقة الماضي إِلَّا أَنَّه كان يعيش روح الحاضر، وقد اتَّسمت علاقته مع أبناء العصر بالسُّهولة، فلا تعقيد ولا نُفرة، ولا استبعاد ولا جفوة، ويصدق فيه قول الأوَّل: «رفيع العِماد، قريبُ البيت من النادِ».

وقد انعكس ذلك على تربيته لأبنائه، فولده البارُّ فضيلة الدكتور/ عبدالله (أبو معاذ) -وهو زميلي- كان يدعوني لحضور بعض مناسباتهم، ويصادف ذلك حضور أبيه، فكان يتعامل معه وكأنَّهما صديقان أو زميلان، وقد لفت هذا نظري، وأثار إعجابي وتعجُّبي، ففارق السنِّ بينهما كبير، ويكاد يكون الابن نصف عمر أبيه، إِلَّا أَنَّ هذه الفروق تتلاشى مع حضور التَّوقير والاحترام، بل قد يصل الكلام بينهما إلى حدِّ المِزاح والفُكاهة، والجدال الطيِّب بنباهة، وهذا من أثر التَّربية السَّديدة، التي أورثت مثل هذا الابن المبارك؛ فكان سهمًا وأَثَرًا يتبارك.

لقد أغرم العمُّ «معيوف» بحياة البريَّة؛ فَعِشْقُها انطبع في قلبه؛ وما ذاك إِلَّا لنشأته الأولى التي عاشها، فهي مهد الصِّبا، ومدرَج الخُطا، وكأَنَّه يتنسَّم فيها رائحة الماضي، ويشتمُّ منها عبق الأيام الخوالي، فقد كان يتعاهد الذَّهاب بأولاده وأهله، ويدعو بعض أقاربه ومحبِّيه وأصدقائه في رحلاتٍ يرفِّه فيها عن رتابة المدنيَّة، ويسيرون فيها المسافات الطَّويلة (التي قد تتعدى 400 كلم)، يمكثون فيها الأيام واللَّيالي ذوات العدد، يستعيدون فيها صورة حياة البادية، التي يُلتمس فيها صفاء الذِّهن، وعبادة التأمُّل في الطَّبيعة، وما خلق الله في السَّماوات والأرض، مع المحافظة على الفرائض التي أوجب الله، يفعل ذلك مرَّات كثيرة خلال العام.

وما أجمل فطنة الابن البارُّ بأبيه -د. عبدالله أبو معاذ- حين ألمَّ بوالده مرضٌ كاد يهدُّ قواه، وخشي على أبيه -وهو ابن الثَّمانين- أن يؤثِّر في نفسه وتنكسر رؤاه، فلمَّا تماثل للشِّفاء رأى أن يأخذ بيده نحو الاستجمام، وعزم عليه في رحلةٍ غير معتادةٍ خارج البلاد؛ ليذهب عنه ما علق به من مكث المشافي، فكانت الوجهة إلى مصر، فتوجَّه به صوب مدينة الإسكندريَّة؛ للتعرُّف على معالمها، وزيارة شواطئها، وركوب قواربها، والتَّنقُّل بين مزارعها، وليأنس بضفاف النِّيل واللَّيل، وقد عشتُ معه تلك اللَّحظات الممتعة عن بُعد، بتقارير أوجزها وأبدعها، وبتنسيقه وترتيبه الذي أودعها؛ متَّعه الله بالصِّحَّة والعافية إزاء ما متَّع به والده، وأناله بركة ذلك في نفسه وعياله وماله.

ثُمَّ تمرُّ الأيَّام واللَّيالي، وفي صبيحة الأربعاء الموافق ١٦/٣/١٤٤٤هـ، كان العمُّ «معيوف» على موعدٍ مع لقاء ربِّه؛ وقد شارف على التِّسعين من عمره، والعجيب أَنَّ الأجل قد وافاه وهو في رحلة إلى مدينة «بِيْشَة» (التي تبعُد عن مدينته قرابة الـ350 كيلومترًا) كعادته في التنزُّه، لترتقي روحه الطَّاهرة حالة كونه في حبور وسرور، مع بشاشة الوجه، وانبساط النَّفس، والأنس بالأصدقاء، وهو في انتظار صلاة الفجر، وقد صلَّى ما كُتب له من قيام الليل مع الوتر، وهو على وُضُوءٍ ووضاءة، وقربٍ من الله ينتظر لقاءه؛ وقد قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن المؤمن: «إِذَا تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ...، فَإِذَا صَلَّى، لَمْ تَزَلِ المَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ، مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ ‌فِي ‌صَلَاةٍ ‌مَا ‌انْتَظَرَ الصَّلَاةَ» [أخرجه البخاري]. وهو على هذه الحال ينتظر بزوغ الفجر، ويترقَّبه ويسأل جليسه، منتظرًا الصَّلاة، وقبل أذان الفجر بثلث ساعة تفيض روحه الطَّاهرة إلى ذمَّة الله، والرَّجاء أَنَّه انتقل إلى ربِّه في شهود دعاء الملائكة الكرام له بالرَّحمة، والصَّلاة عليه؛ وهو «‌فِي ‌صَلَاةٍ ‌مَا ‌انْتَظَرَ الصَّلَاةَ»؛ ووعد الله حقٌّ لا يخلف، وقد سار إلى ذمَّة الله أثناء ارتياضه في البريَّة بكامل صحَّته، وكان لهذا الفقد في الحزن عليه أثرٌ بالغ؛ كونه مات لا يشتكي من مرضٍ أو وجع، وهو في أتمِّ صحَّةٍ وأهنئها، وفي أوفى صحبةٍ وأكرمها.

وقد كانت صلاة الجنازة عليه في مسجد عبدالله بن عباس t -بالطَّائف- بعد صلاة العصر، وكانت جنازته جنازةً مشهودةً، حضرها جموع النَّاس من أماكن متعدِّدةٍ زرافات ووِحدانًا، ورافقته الجموع المشيِّعة إلى حيث قرار دفنه في مقبرة السليم بوادي مرفوع في جنوب الطَّائف؛ وقد امتلأ المكان بالمشيِّعين، وغصَّ بكثرة الحاضرين، وتكرَّرت عليه الصَّلاة كرامةً وبركةً في صفوف متكاثرة إلى جوار المقبرة.

شهدنا دفنه ووداعه، ووقفت جموعٌ تدعو له عند القبر كثيرًا، وفي غمرة الزِّحام لم أنتبه إِلَّا وفضيلة شيخنا العالم الجليل فضيلة العلَّامة الدكتور/ سِتر بن ثَواب الجعيد قائمٌ إلى جواري -حفظه الله ورعاه- مستقبلٌ القبر والقبلة بالدُّعاء، ولمَّا فرغنا من الدُّعاء التزمته وقبَّلتُ رأسَه، وعزَّيته في فقيد بلدتهم، ووقف أهل الفقيد يتلقَّون التَّعازي والمواساة، وكان العزاء مهيبًا؛ وطوابير جاءت لتقديم العزاء بجموعٍ غفيرة، والثَّناء على الفقيد ودعوات الرَّحمة تملأ أرجاء المكان، حتَّى إِنَّه من كثرة الزِّحام وطول القيام اضطررنا للجلوس، وظللنا ننتظر ما يزيد على نصف السَّاعة ولم ينته النَّاس من التَّعزية لكثرتهم، ولم نكد نجد ثغرةً لنلتحق بصفوف المعزِّين إِلَّا باستئذانٍ منهم أن ندخل معهم!!.

ومما لفت نظري، وقد كان المشهدًا مؤثِّرًا، وأكثر المُعزِّين من أهل تلك البادية، وخصوصًا ذلك الجيل السَّابق الذي تَغْلُب على حياته الصَّلابة، وتتجلَّى فيهم قوَّة البأس والتَّحمُّل والمهابة، إِلَّا أَنَّه فاجأني ما رأيتُ منهم من دموعٍ تسيل بحُرقة، وبكاءٍ غلب على بعضهم؛ بشكلٍ مُلفِتٍ للنَّظر، ممَّا يتجلَّى معه لوعة الفقد؛ وهذا دليل الأثر الطيِّب الذي تركه العمُّ «معيوف» في قلوب مُحبِّيه، فحقيقٌ أن تبكي عليه السَّماء والأرض.

وهذا الحشد الذي جاء عفوًا وصفوًا، لهو أعظم شهادة من النَّاس على ما وهب الله هذا الرَّجل الصَّالح من قبول ورضى -أحسبه كذلك ولا أزكِّي على الله أحدًا-؛ فالنَّاس شهداء الله في الأرض، والجنائز علامة فارقة بين الحقيقة والمجاملة!؛ فقد مُرَّ النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بجنازة فأُثني عليها خيرًا، فقال نبيُّ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «‌وَجَبَت، ‌وَجَبَت، ‌وَجَبَت!»، قال عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه-: فدى لك أبي وأُمِّي، مُرَّ بجنازة، فأُثني عليها خيرٌ، فقلتَ: «‌وَجَبَت، ‌وَجَبَت، ‌وَجَبَت؟»، فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ...، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ» [رواه مسلم].

‌‌وَكانَتْ فِي حَيَاتِكَ لي عِظَاتٌ * وَأَنْتَ اليَوْمَ أَوْعَظُ مِنْكَ حَيًّا

إن العمَّ «معيوف» لم يكن رجلًا عاديًّا، بل كان مدرسة يُنهل منها، وتجربةً يتعلَّم منه النَّاس، جيلًا بعد جيل؛ فهو يختصر قرنًا من الزَّمان؛ ينقل منه خبراته التي استفادها من الحياة الواسعة، ويثري السَّامع للمواطن الغائبة عن ذهنه؛ ولئن كانت الاستشارات اليوم تقدَّم برسومٍ وما يُدرى عن وسومها؛ فقد كان يُقدِّم هذه الخبرات بالمجَّان: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان:9]، وهي تقع منه وهو المجرِّب المحنَّك، وباختصار الواثق المخضرم.

وإن كان الإنسان يموت وينقطع عمله، إِلَّا أَنَّه يبقى أثره في ولدٍ صالح يدعو له، والولد سرُّ أبيه، وما مات من خلَّف مثل أولاد الشَّيخ البررة، وفي مُقدِّمتهم: فضيلة الدكتور/ عبدالله بن معيوف الجعيد (أبو معاذ)، الزَّميل العزيز، والصَّديق الوفيُّ، والخلُّ الصفيُّ، والجار الحفيُّ، رجلٌ بأُمَّة، وأحسب أَنَّه يصدُق فيه قول النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ، لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً» [أخرجه أحمد]. وهو صاحب عزم وهمَّة، وعمل دؤوب للأُمَّة، مليءٌ بنُبْل السجايا، متضلِّعٌ من المبادرة بالخير والعطايا، وما ذلك إِلَّا من حسن تربية هذا الوالد العظيم؛ الذي يُرجى أن يكون كُلّ أعمال ولده في موازين حسناته؛ { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } [الطور:21].

بِأَبِهِ اقْتَدَى عَدِيٌّ في الكَرَمْ * ومَنْ يُشَابِهْ أَبَه فَمَا ظَلَمْ

ومع كون الدكتور/ عبدالله الجعيد زميلًا لي، فلا يمنعني أن أتعامل معه على أَنَّه أستاذٌ لي، وقد استفدت منه كثيرًا، فأنا أتعلَّم من مدرسته، وأنهل من خبرته، ولا زلتُ مفيدًا منه، فهو امتدادٌ لمدرسة والده -رحمه الله-؛ وظِلٌّ له في الأرض، وبقيَّةٌ من آثاره، وهنيئًا لمن استدرَّ من فهمه، والتقط من فطنته، وشاركه في عمله، وتعلَّم من مبادراته، وأفاد من ملكاته في التَّدريب، وخبراته في الممارسة، ودافعيَّته لصقل المواهب.

وقد لحظت هذا الأثر العميق من وقت مبكِّرٍ حين زاملته في كلِّيَّة الشَّريعة بجامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة في الرِّياض عام (1416هـ)، ثُمَّ أصبحنا سويًّا زملاء المهنة في التَّعليم سنين عددًا، ثُمَّ يشاء الله أن التقينا في سنوات الإيفاد للتَّدريس في خارج البلاد، ليعود بنا الزَّمن بالانتقال إلى مكَّة المكرَّمة، وفي ذات الحيِّ، بل ومتجاورين على شارعٍ واحد؛ متقابلين في المسكن والدَّار؛ جمعنا الله وإياه مع والدينا ووالدي والدينا وأحبابنا إخوانًا على سُررٍ متقابلين، في جنَّاتٍ ونهر، في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، بجوار نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام، وصحابته الكرام، والتَّابعين الأعلام، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.

وختامًا أسأل الله أن يرفع درجة العمِّ «معيوف» في المهديِّين، وأن يخلفه في عقِبه في الغابرين، وأن يغفر لنا وله يا ربَّ العالمين، اللَّهمَّ افسح له في قبره، ونوِّر له فيه.
 

د. عبدالحميد بن صالح الكراني

:: المشرف العام ::
طاقم الإدارة
إنضم
23 أكتوبر 2007
المشاركات
8,136
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أسامة
التخصص
فقـــه
الدولة
السعودية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
اليوم نيوز - موقع إخباري
الأحد , 28 ربيع أول 1444 هـ , 23 أكتوبر 2022 م
المقال:

وغادرنا الرَّأس المرفوع، شيخٌ من شيوخ وادي مرفوع.
خواطر في رثاء الشَّيخ أبي عبدالله: معيوف بن مطر الجعيد -رحمه الله-.
كتبه: د. عبدالحميد بن صالح الكرَّاني
 

د. عبدالحميد بن صالح الكراني

:: المشرف العام ::
طاقم الإدارة
إنضم
23 أكتوبر 2007
المشاركات
8,136
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أسامة
التخصص
فقـــه
الدولة
السعودية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
صحيفة المجد
الأحد , 27 ربيع أول 1444 هـ , 23 أكتوبر 2022 م | أكتوبر 23, 2022 , 14:24 م
المقال:

وغادرنا الرَّأس المرفوع، شيخٌ من شيوخ وادي مرفوع.
خواطر في رثاء الشَّيخ أبي عبدالله: معيوف بن مطر الجعيد -رحمه الله-.
كتبه: د. عبدالحميد بن صالح الكرَّاني
 
إنضم
5 يونيو 2010
المشاركات
1,454
الجنس
ذكر
الكنية
أبو معاذ
التخصص
طبيب
الدولة
السعودية - مصر
المدينة
السعودية - مصر
المذهب الفقهي
شافعى
رحمه الله
وأسأله سبحانه أن يرفع درجته في المهديِّين، وأن يخلفه في عقِبه في الغابرين، وأن يغفر لنا وله يا ربَّ العالمين
اللَّهمَّ افسح له في قبره، ونوِّر له فيه مد بصره


ولدتك أمك يا بن آدم باكيا
والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل ليوم تكون فيه إذا بكوا
في يوم موتك ضاحكا مسرورا
 

د. عبدالحميد بن صالح الكراني

:: المشرف العام ::
طاقم الإدارة
إنضم
23 أكتوبر 2007
المشاركات
8,136
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أسامة
التخصص
فقـــه
الدولة
السعودية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
رحمه الله
وأسأله سبحانه أن يرفع درجته في المهديِّين، وأن يخلفه في عقِبه في الغابرين، وأن يغفر لنا وله يا ربَّ العالمين
اللَّهمَّ افسح له في قبره، ونوِّر له فيه مد بصره


ولدتك أمك يا بن آدم باكيا
والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل ليوم تكون فيه إذا بكوا
في يوم موتك ضاحكا مسرورا
اللهم استجب، تقبل الله دعواتكم دكتورنا الفاضل
وجزاكم الله خيراً
 
أعلى