العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

النبراس الكاشف لشبهات المتلاعبين بأحكام الميراث. د. محمود حلمي علي

محمود حلمي علي

:: مطـًـلع ::
انضم
4 يونيو 2013
المشاركات
166
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
فقه شافعي
الدولة
مصر
المدينة
العاشر من رمضان
المذهب الفقهي
الشافعي
أثار بعضُ المنتسبين للعلم الشرعي شبهاتٍ زعموا أنها تُفيد جوازَ تشريعِ قانونٍ يسوي بين الرجل والمرأة في الميراث، في الأحوال التي قسم لها الشرع فيها نصف نصيب الرجل.
وكان من أهم الشبهات التي أثاروها، قولهم: إنّ ميراث الرجل ليس واجبًا عليه؛ فلا يجوز التفريط فيه، بل هو حقٌ له؛ فيجوز له التنازل عنه.
مع الاستشهاد على ذلك بمشروعية التخارج في الفقه الإسلامي.
بالإضافة إلى المزايدة على المشاعر بدعوى أن التراحم إنما يكون بالتسوية بين الرجل والمرأة في الميراث، فلو تراحمنا لفَعَلْناه، ولو لم نَفْعله وأَبَيناه فهذا يعني أننا غير متراحمين.
وقبل أن يستشري الداء وتصعب معالجته، ولكي لا ينطلي هذا الكلام على من لا يميز حقيقته ولا يدرك ما فيه من مواطن الخطأ والخلل ومظانِّ التلبيس والزلل، كان لا بد لأهل العلم من بيان ذلك وتجليته وتمييزه ظاهرًا للناظرين.
فإن الإرث حقٌ قهريٌ لا يقبل الإسقاط ولا النقل، والملك بسبب الإرث يثبت جبرًا من الشرع من غير قبول الوارث، ويدخل في ملكه بغير اختيارٍ منه.
فلا يملك الوارث تغيير أحكام الميراث، ولا يملك غيره أن يفرض عليه هذا التغيير بحجة رضاه به.
والتبرع والإحسان مندوب إليه في الشرع، ولكنه يكون من كامل الأهلية للتبرع بمحض إرادته، بعد أن يدخل الميراث في ملكه ويثبت له حق التصرف فيه، فله أن يتصرف فيه بالتبرع والهبة وسائر وجوه الخير، ويقوم بالتراحم والتكافل والتعاون، من غير حاجة إلى تغيير أحكام الميراث للقيام بذلك.

https://jlr.journals.ekb.eg/article_389134.ht
 
التعديل الأخير:

محمود حلمي علي

:: مطـًـلع ::
انضم
4 يونيو 2013
المشاركات
166
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
فقه شافعي
الدولة
مصر
المدينة
العاشر من رمضان
المذهب الفقهي
الشافعي
حق الإرث لا يقبل الإسقاط ولا النقل
من أهم الشبهات التي أثارها بعض المنتسبين للعلم وزعموا أنها تفيد جواز تشريع قانون يسوي بين الرجل والمرأة في الميراث، في الأحوال التي قسم لها الشرع فيها نصف نصيب الرجل، قولهم: إن ميراث الرجل ليس واجبًا عليه؛ فلا يجوز التفريط فيه، بل هو حقٌ له؛ فيجوز له التنازل عنه.
وهذا من أغمض الشبهات وأكثرها تزييفًا للحقائق، وببيانه تنجلي تلك الشبهات ويندفع ما بني عليها من دعاوى باطلة.
فأبيّن بالتفصيل عدم صحة ذلك التصرف وعدم جوازه في الشرع، وأن الله -عز وجل- لم يُعطِ للإنسان هذا الحق.
ولعل ذلك من الإعجاز التشريعي الذي يمنع من التلاعب بأحكام الميراث، ويضمن حفظ الأموال على مُلَّاكها، ويكفل حريتهم في التبرع بها بمحض إرادتهم.

فقد بيّن الفقهاء أن الملك في الشرع ينقسم قسمين: ملك اختياري، وملك قهري. وبينوا ما يترتب على هذا التقسيم من أحكام.
قال الإمام الزركشي: (الملك قسمان: أحدهما: يحصل قهرا. والثاني: يحصل بالاختيار).()
وقال الإمام البهوتي: (أسباب الملك نوعان: اختياري: وهو ما يملك ردّه، وقهري: وهو ما لا يملك رده).()
وقال الإمام الرافعي: (الملك القهري: هو الذي لا يتعلق سببه بالاختيار، والاختياري: هو الذي يتعلق سببه بالاختيار).()
وقال الإمام القدوري: (سبب الملك: يعود إلى فعل آدمي، كالشراء. ويعود إلى فعل الله تعالى، كالإرث).()

فالملك الاختياري: هو ما يعود سبب الملك فيه إلى فعل الآدمي، ويتعلق سببه باختياره، ويمكن رده.
والملك القهري: هو ما يعود سبب الملك فيه إلى الله تعالى، ولا يتعلق سببه باختيار الآدمي، ولا يمكن رده.

وقد اتفق الفقهاء على أن الملك بسبب الإرث ملك قهري جبري لا اختيار فيه، فهو يثبت جبرًا من الشرع من غير قبول الوارث، ويدخل في ملكه بغير اختيار منه شاء أو أبى؛ لأن حق الإرث لا يقبل الإسقاط ولا النقل.

وبيان ذلك كما يلي:
مذهب الحنفية
قال الإمام السرخسي: (الإرث لا يرتد برد الوارث)()، وقال: (في الميراث الملك ثبت من غير اختيارٍ من المورَّث، ألا ترى أنه لو أراد أن يمنعه لا يتمكن من ذلك، وللشرع هذه الولاية).()
وقال الإمام العيني: (الإرث يثبت جبرًا من الشرع من غير قبول الوارث، أي من غير اختيار منه شاء أو أبى).()
وقال الإمام ابن نجيم فيما يقبل الإسقاط من الحقوق وما لا يقبله: (لو قال الوارث: تركت حقي. لم يبطل حقه؛ إذ الملك لا يبطل بالترك)()، وقال الإمام الحموي: (لأنه لازمٌ لا يُترك بالترك).()
وقال الإمام ابن نجيم: (لا يدخل في ملك الإنسان شيء بغير اختياره، إلا الإرث اتفاقًا).()
وقال الإمام ابن عابدين: (لا شك في الاتفاق على كون الإرث مطلقًا سببًا جبريًا).()

مذهب المالكية
قال الإمام الخرشي: (الإرث جبري يدخل في ملك الإنسان قهرًا عليه).()
وقال الإمام الدردير: (الإرث جبري يدخل في ملك الإنسان بغير اختياره).()

مذهب الشافعية
قال إمام الحرمين الجويني: (الملك الحاصل بالإرث قهري)()، وقال: (الإرث ملك قهري حصل من غير عوض) ()، وقال أيضا: (حق الإرث قهري).()
وقال الإمام الزركشي: (الإعراض عن الملك أو حق الملك، ضابطه: أنه إن كان ملكًا لازمًا لم يبطل بذلك، كما لو مات عن ابنين فقال أحدهما: تركت نصيبي من الميراث، لم يبطل حقه؛ لأنه لازم لا يترك بالترك).()
وذكر الإمام الزركشي أن حق الإرث لا يقبل الإسقاط ولا النقل.()
وقال الإمام السيوطي: (قال العلائي: لا يدخل في ملك الإنسان شيء بغير اختياره، إلا في الإرث اتفاقا).()
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري: (الإرث إثبات ملك للوارث، والإرث ملك قهري يحصل بلا اختيار).()

مذهب الحنابلة
قال الإمام البهوتي: (أسباب الملك نوعان: اختياري: وهو ما يملك ردّه كالشراء والهبة ونحوها، وقهري: وهو ما لا يملك رده وهو الإرث).()

فالملك بالميراث ملك قهري، يثبت بغير اختيارٍ من الإنسان، ولا يملك الإنسان رده ولا الامتناع من تملكه، بل هو يدخل في ملكه بتمليك الله -عز وجل- إياه، وحق الإرث لا يقبل الإسقاط ولا النقل.
فالقول بأنه يجوز للوارث أن يتنازل عن حق الإرث أو ينقل بعضه لغيره من الورثة غير صحيح، بل حق الإرث ثابتٌ له والميراث داخلٌ في ملكه قهرًا شاء أو أبى.

وقد أكثرت جدًا من النقول عن الأئمة في هذا المبحث؛ بما لا يدع مجالا للشك في ذلك.
فإذا تقرر هذا لم يعد لتلك الشبهة مجال للتلاعب بأحكام المواريث، لأن الميراث سيدخل في ملك الوارث قهرًا بتمليك الله -عز وجل- إياه على النحو الذي قسمه الله -عز وجل- في كتابه.
وإذا دخل الميراث في ملك الوارث فلا فرق -حينئذ- بين المال المملوك بالميراث وبين سائر أمواله الخاصة.
 

محمود حلمي علي

:: مطـًـلع ::
انضم
4 يونيو 2013
المشاركات
166
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
فقه شافعي
الدولة
مصر
المدينة
العاشر من رمضان
المذهب الفقهي
الشافعي
مناقشة الاستشهاد بمسألة التخارج

من الشبهات التي أثارها بعض الداعين إلى التسوية بين الرجل والمرأة في الميراث، قولهم: إن مشروعية تخارج أهل الميراث في الفقه الإسلامي تدل على أنه يجوز أن يتنازل الذكور عن بعض نصيبهم للإناث، ومن ثم نقنن هذا التنازل ونسوي بين الذكور والإناث في الميراث.

فما مدى صحة هذا الاستدلال؟ وما المقصود بالتخارج في الميراث؟ وما هي أحكامه؟ وهل في مشروعيته وأحكامه ما يمكن الاحتجاج به على تلك الدعوة المزعومة؟

هذا ما نعتني بتوضيحه وبيانه في هذا البحث؛ لئلا يحدث خلطٌ بين ما هو جائز ومشروع، وبين ما ليس كذلك.

تعريف التَّخَارُج:
التَّخَارُج تفاعلٌ من الخروج، وهو أن يصْطَلح الورثة على إخراج بعضهم من الميراث بمالٍ معلوم.()

سبب التخارج:
التخارج يتوقف وجوده على سبب()، فإذا وجد السبب وجد التخارج وإذا فقد السبب لم يتحقق التخارج، وذلك السبب: هو طلب الخارج من الورثة ذلك، عند رضا غيره به.()

فالتخارج صلحٌ بين الورثة، يتم بطلبٍ من الخارج ورضًا من غيره، على أن يأخذ مالًا معينًا مقابل ما كان يستحقه من التركة.

فهو يبيع ما يستحقه من أعيان التركة بحسب نصيبه المقرر له شرعًا، ببدل مالي، وتنطبق عليه أحكام البيع، ومن أهمها: الرضا، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما البيع عن تراض).()

حكمة مشروعية التخارج:
شرع التخارج تيسيرًا لقسمة المواريث، وإنهاءً للنزاع بين الورثة على أعيان التركة.
قال الإمام السرخسي: (عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: يتخارج أهل الميراث. يعني: يخرج بعضهم بعضًا بطريق الصلح. وذلك جائز؛ لما فيه من تيسير القسمة عليهم، فإنهم لو اشتغلوا بقسمة الكل على جميع الورثة ربما يشقّ عليهم، ويدقّ الحساب، أو تتعذر القسمة في البعض كالجوهرة النفيسة ونحوها. فإذا أخرجوا البعض بطريق الصلح تيسّر على الباقين قسمة ما بقي بينهم، فجاز الصلح لذلك).()

أحكام التخارج:
التخارج صلحٌ يتضمن عقد بيع، يتم بموجبه بيع أحد الورثة ما كان يستحقه من أعيان التركة مقابل مالٍ آخر يتم التراضي عليه.
وهذا التخارج له أحوال:
الحال الأول: أن يدفع الورثة للخارج مالًا من خارج الميراث، بأن يدفعوا ذلك من أموالهم المملوكة لهم بالتساوي: فالحكم أن يقتسم بقية الورثة نصيب ذلك الخارج بالتساوي.
الحال الثاني: أن يدفع الورثة للخارج مالًا من بعض أعيان التركة يخصُّونه به بالتراضي بينهم، مقابل أن لا يقاسمهم في أعيانٍ أخرى:
فالحكم أن يقسّم الباقي من أعيان التركة على بقية الورثة بقدر أنصبائهم لو كان الخارج موجودًا بينهم، فلا يُجعل كأنه لم يكن، بل يجعل كأنه استوفى نصيبه؛ لئلا تتأثر السهام ويختلف توزيعها لو اعتبرناه كأن لم يكن، ولأن الخارج قد قبض بَدَل نصيبه فكيف يمكن جعله كأن لم يكن؟ بل يجعل كأنه استوفى نصيبَه ولم يستوفِ الباقون أنصباءهم.()

فالتخارج عن الميراث لا يُعدُّ تنازلاً عن الحق في الإرث، بل الخارج قد ثبت له حق الإرث، وثبت ملكه، ثم هو يتنازل عن أعيان التركة ويأخذ بدلها أعيانًا أخرى من خارج التركة، أو يأخذ بعض أعيان التركة مقابل تنازله عن حقه في سائر أعيانها.

التخارج عن الميراث قليل الوقوع:
التخارج عن الميراث ليس أمرًا عامًا يتكرر حدوثه في جميع المواريث؛ فإن التخارج إنما يحتاج إليه لتيسير قسمة المواريث التي يشق أو يتعذر قسمة جميع أعيان التركة فيها على جميع الورثة، فشرع التخارج في هذه الأحوال؛ إنهاءً للنزاع بين الورثة على أعيان التركة.
فهل يصح أن يقاس على التخارج ويُلحق به تغيير قسمة ميراث الذكر والأنثى والتي يتكرر وقوعها في أغلب المواريث؟
وهل هذا القياس يتحقق به مقصود الحكم الأصلي من إنهاء النزاع، أم يتحقق به ضد ذلك المقصود الشرعي بفتح أبواب من النزاع بين الورثة لا تنتهي؛ بسبب تغيير الأحكام المستقرة التي أجمعت عليها الأمة، وإيقاع التعارض بين نصوص الشرع القطعية وبين ما يراد له أن يكون قانونًا ملزمًا؟!

وهل يصح قياس تلك الدعوى التي تطالب بالتبرع الإلزامي عن قدر من الميراث بلا عوض، على التخارج عن الميراث الذي يكون بالتراضي وبعوض مالي مقبول؟!

وكيف يُدعى قبول عامة الناس لهذا التبرع الإلزامي، مع أن التخارج عن الميراث قليل الوقوع بين الناس بالرغم مما فيه من عوض مالي.
والسبب في ذلك: أنه قلّما يرضى أحد بأن يخرج من البَيْن بغير استيفاء حقه()، وقلما يرضى أحدٌ أن يخرج مقابل شيء يأخذه؛ لأن الغالب أن ما يأخذه من العوض المالي يكون أقلَّ من نصيبه من أعيان التركة.()
ومن ثم جُعل سبب التخارج: طلبُ الخارج من الورثة ذلك، عند رضا غيره به.()
فلا يجبر أحدٌ على التخارج عن نصيبه في الميراث، ولا يصح التخارج إلا عن رغبة ورضًا ممن هو أهل لذلك.
فكيف يجرؤ من يعلم شيئًا من أحكام التخارج أن يدعي أن مشروعية التخارج تدل على جواز تشريع التسوية بين الذكر والأنثى في الميراث وإلزام جميع الذكور بالتنازل عن جزء من ميراثهم؛ رغماً عنهم، ودون أي عوض مالي؟!

النبراس الكاشف لشبهات المتلاعبين بأحكام الميراث
 

محمود حلمي علي

:: مطـًـلع ::
انضم
4 يونيو 2013
المشاركات
166
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
فقه شافعي
الدولة
مصر
المدينة
العاشر من رمضان
المذهب الفقهي
الشافعي
مناقشة دعوى التراحم في تغيير المواريث

من الشبهات الواهية التي تدرَّع بها بعض الداعين إلى التسوية بين الذكر والأنثى في الميراث، قولهم: إن تلك التسوية يتحقق بها التراحم، فلو أجزنا تشريعها وقبلناه فنحن من المتراحمين، ولو نازعنا في قبول تشريعها وأَبَيناه فهذا يعني أننا غير متراحمين.

وتلك الشبهة فيها تلبيس القُبح الباطن ثوب الحُسن الظاهر.
فلا شك أن التراحم بين الناس مأمور به شرعًا، ومحمود بين الناس عرفًا وطبعًا.
لكن القول بأن التسوية بين الذكر والأنثى في الميراث هو ما يتم به تحقيق هذا التراحم، هو قولٌ شديد القبح؛ لأن هذا القول يعني أن أحكام المواريث المنصوصة في القرآن ليس فيها تراحم، ولا يتحقق التراحم إلا بتغييرها.

ولولا ما في الدعوة إلى التسوية بين الذكر والأنثى في الميراث من فُحشِ المخالفة لأحكام المواريث المنصوصة في القرآن، لقلتُ: إنّ تبرير تلك الدعوى بأن ذلك هو ما يتحقق به التراحم، هو عذرٌ أقبح من ذنب.
فهل الالتزام بقسمة الشرع في الميراث لا يُعدُّ من التراحم؟!
وهل التراحم لا يتحقق إلا بتغيير قسمة الشرع في الميراث؟!
سبحانك هذا بهتان عظيم!

لقد اعتنى الشرع غاية العناية بكل ما يحقق التكافل والتراحم، وبما يضمن القيام بحاجة المحتاجين من الرجال والنساء على حد سواء:
فشرع الزكاة (تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)()، وندب إلى الصدقة والهبة والوصية وسائر أنواع التبرعات، ونظّم أحكام النفقات الواجبة وبيّن مراتبها، وجعل القريب الذي لا تجب نفقته أولى بزكاة المال والصدقة من غيره، فالصدقة على القريب لها أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة.()
وكلُّ ذلك وغيره من الأوامر الشرعية مما يضمن تحقيق التكافل والتعاون والتراحم بين المسلمين والقيام بمصالحهم، لو أحسن المسلمون تطبيقه والالتزام به.
فليس بالمسلمين حاجة إلى تغيير أحكام المواريث لكي يتراحموا، بل هم في أمس الحاجة إلى تنفيذ أحكام الشرع التي تحقق هذا التكافل والتراحم.

فكيف نترك كل تلك الأبواب التي تكفل القيام بمصالح المرأة وتحقق التكافل والتراحم، ونذهب نُلزم الرجل بالتبرع لها، وإن كان أحوج لهذا المال منها، لا لشيءٍ سوى لأن الشرع أعطاه ضعف نصيبها في الميراث؟!
وكيف يُلزم الرجل بالتبرع للمرأة بغض النظر عن غناها أو فقرها، وبغير نظرٍ إلى من تلزمه نفقتها، وبغير عنايةٍ وحرصٍ على إيصال حقها من الزكاة الواجبة إن كانت من المستحقين لها، أو الصدقة المندوبة إن كانت من أهلها؟!

وكيف يُفرض على مالكٍ أن يتبرع بجزء من ماله بغير اختياره ورضاه؟
إن من القواعد المقررة في الشريعة: أن الأصل بقاء الأملاك على أيدي ملاكها()، وأن أصل الشريعة في تصرف الناس في أموالهم ومملوكاتهم هو إطلاق التصرف لهم()، وأنه لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير بلا إذنه()، ولا يجوز لأحد أن يأخذ مال أحد بلا سبب شرعي.()
فلا يصح تشريع الإلزام العام لكل الوارثين من الرجال بالتنازل عن جزء من نصيبهم لصالح من يرث معهم من النساء.

ثم هناك من الورثة من هو محجور عليه كالصبي، وهو لا يصح تبرعه ولا يملك وليُّه أن يتبرع بحقه أو بجزء منه، فكيف نشرّع قانونًا يلزم جميع الذكور بالتبرع والتنازل عن حقوقهم وفيهم من لا يجوز له أن يتبرع ولا يجوز لوليه أن يتبرع من ماله كالصبي؟!
قال الإمام ابن حجر الهيتمي: (متى تحقق ‌التبرع من مال اليتيم بفلس، حرم على الولي إعطاؤه، وعلى غيره قبوله).()
وقال الإمام القليوبي: (يشترط في الواهب أهلية التبرع؛ فلا تصح هبة ولي من مال محجوره).()
وقال الإمام الرشيدي: (لا يجوز للولي التبرع بملك المحجور).()

فقد ظهر لنا ما في دعوى التراحم من المفاسد؛ بإلزام كل الذكور الوارثين بالتنازل عن جزء من نصيبهم، وإن كانوا أحوج إليه، أو كانوا صغارًا لا يصح تبرعهم، والغفلة عن أبواب التكافل والتعاون والتراحم التي كفلتها الشريعة والتي تحقق مصلحة التراحم ولا توقع في تلك المفاسد.

فهذا مما يقطع بعدم صحة تشريع التسوية بين الرجل والمرأة في الميراث، لا قبل الإرث؛ لأن حق الإرث لا يقبل الإسقاط ولا النقل، ولا بعد تملك الميراث؛ لأنه لا يجوز أن يُلزم أحدٌ بالتبرع لغيره قهرًا بغير مسوغ شرعي، ولأن من الورثة من لا يصح تبرعه كالصبي ولا يجوز لوليه أن يتبرع بشيء من ماله.

النبراس الكاشف لشبهات المتلاعبين بأحكام الميراث
 

محمود حلمي علي

:: مطـًـلع ::
انضم
4 يونيو 2013
المشاركات
166
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
فقه شافعي
الدولة
مصر
المدينة
العاشر من رمضان
المذهب الفقهي
الشافعي
المواريث المنصوصة من حدود الله

إن أحكام المواريث وقسمته التي نص الله -عز وجل- عليها في كتابه هي من حدود الله، والواجب على المسلم أن يقف عند حدود الله -عز وجل- ولا يتعداها، ففيها كل الخير والمصلحة للناس في دينهم ودنياهم.

وقد قال الله -عز وجل- بعد بيان أحكام المواريث في كتابه الكريم: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}()

قال الإمام ابن عطية: (رجّى الله تعالى على التزام هذه الحدود في قسمة الميراث، وتوعد على العصيان فيها). ()
وقال الإمام الرازي: (أنه تعالى بعد بيان سهام المواريث ذكر الوعد والوعيد؛ ترغيبًا في الطاعة وترهيبًا عن المعصية فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ}. وقوله: (تلك) إشارة إلى ماذا؟ فيه قولان: الأول: أنه إشارة إلى أحوال المواريث. القول الثاني: أنه إشارة إلى كل ما ذكره من أول السورة الى هاهنا من بيان أموال الأيتام وأحكام الأنكحة وأحوال المواريث).()
وقال الإمام الزمخشري: (تِلْكَ: إشارة إلى الأحكام التي ذكرت في باب اليتامى والوصايا والمواريث. وسماها حدوداً، لأن الشرائع كالحدود المضروبة الموقتة للمكلفين، لا يجوز لهم أن يتجاوزوها ويتخطوها إلى ما ليس لهم بحق). ()

فأحوال المواريث التي ذكرها الله -عز وجل- وبيّنها في كتابه هي من حدود الله، فالواجب المحافظة عليها، والوقوف عند حدودها، والالتزام التام بها.

قال الإمام ابن كثير: (قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي: هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه، هي حدود الله؛ فلا تعتدوها ولا تجاوزوها؛ ولهذا قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي: فيها، فلم يَزِد بعضَ الورثة ولم ينقص بعضًا بحيلة ووسيلة، بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي، لكونه غيّر ما حكم الله به وضادّ الله في حكمه. وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم).()
وقال الإمام ابن المنذر: (عن قتادة: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} ومن يتعد حدود الله التي حدَّ لخلقه وفرائضه التي افترض عليه في الميراث وقَسْمه {يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} فانتهوا إليها، ولا تعتدوها إلى غيرها).()

وقد أصدرت "هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف" بيانًا شريفًا شافيًا حول قضية ميراث المرأة، ومن تمام الوفاء بمقصود هذا البحث، أن نثبت هذا البيان بنصه كاملا في هذا المقام، فهَاكُم() أيها الكرام نص هذا البيان:
(بسم الله الرحمن الرحيم
تابعت هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف باهتمامٍ بالغٍ ما يُثارُ في الآونةِ الأخيرةِ حولَ بعضِ الثوابتِ الشَّرعيةِ المُحْكَمةِ التي يُحاوِلُ البعضُ التحقيرَ مِن شأنِها والاستخفافَ بأحكامِها، بينما يَجتهِدُ آخَرونَ في التقليلِ من قيمتِها، بإخراجِها من إطارِ القطعيَّاتِ المُحكَماتِ إلى فضاءِ الظنِّيَّاتِ.
ومِن تلك القضايا التي زادَ فيها تجاوُزُ المضللينَ بغير علمٍ في ثوابتَ قطعيَّةٍ معلومةٍ مِن الدِّينِ بالضرورةِ، تقسيم القرآن الكريم المُحكَمُ للمواريثِ، خصوصًا فيما يتعلَّقُ بنصيبِ المرأةِ فيه، والذي وَرَدَ في آيتينِ مُحكَمتَينِ مِن كتابِ الله المجيدِ في سُورةِ النِّساءِ، وهو أمرٌ تجاوَزَتْ فيه حَمْلةُ التشنيعِ الجائرةُ على الشَّريعةِ كلَّ حُدودِ العقلِ والإنصافِ.
فقد سوَّلَتْ لبعضِ الناسِ عُقولُهم القاصرةُ، وخيالاتهم البعيدة عن الشرع وأحكامه، أن الإسلامَ ظَلَمَ المرأةَ حِينَ لم يُسَوِّ بينها وبينَ الرجلِ في الميراثِ تسويةً مطلقةً، وأنه ينبغي أن تأخُذَ المرأةُ -المظلومةُ في زعمِهم!- مثلَ ما يأخُذُ الرجلُ، لا يتميَّزُ عنها في شيءٍ.
وبناءً على تلكَ الخَيالاتِ المُناقِضةِ لقطعيَّاتِ القرآنِ ثبوتًا ودَلالةً، والتي يَحسبُها أصحابُها انتصارًا لحقوقِ المرأةِ؛ جهلًا منهم بالتفاصيلِ الحكيمةِ لصُوَرِ ميراثِ المرأةِ في الإسلامِ، والتي تأخُذُ في بعضِها أكبرَ مِن نصيبِ الرجلِ، بل أحيانًا ترث ولا يرث الرجل؛ فإنهم راحُوا يُطالِبونَ هنا وهُناكَ بسَنِّ قوانينَ تُلزِمُ بالتَّسويةِ المُطلَقةِ بينَ المرأةِ والرجلِ في الميراثِ، ضاربينَ بأحكامِ القرآنِ القطعيَّةِ المُحْكَمةِ عرْضَ الحائطِ!
وانطلاقًا مِن المسئوليَّةِ الدِّينيَّةِ التي اضطلع بها الأزهرُ الشريفُ منذُ أكثرَ مِن ألفِ عامٍ إزاءَ قضايا الأُمَّتينِ العربيةِ والإسلاميَّةِ، وحِرْصًا على بيانِ الحقائقِ الشَّرعيَّةِ ناصعةً أمامَ جماهيرِ المسلمينَ في العالَمِ كلِّه؛ فإن الأزهرَ الشَّريفَ بما يَحمِلُه من واجبِ بيانِ دِينِ الله تعالى وحراسة شريعته وأحكامه؛ فإنه لا يَتَوانَى عن أداءِ دَورِه، ولا يتأخَّرُ عن واجبِ إظهارِ حُكمِ الله -تعالى- للمُسلِمينَ في شتَّى بِقاعِ العالمِ، والتعريفِ به في النَّوازلِ والوقائعِ التي تَمَسُّ حياتَهم الأُسَريَّةَ والاجتماعيَّةَ.
وهنا يُؤكِّدُ الأزهرُ أنَّ النصوصَ الشرعيَّةَ منها ما يَقبَلُ الاجتهادَ الصَّادرَ مِن أهلِ الاختصاصِ الدَّقيقِ في علومِ الشريعةِ، ومنها ما لا يَقبَل ذلك.
فالنصوصُ إذا كانَتْ قطعيَّةَ الثبوتِ والدَّلالةِ معًا فإنها لا تحتملُ الاجتهادَ ولا تقبل التغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، وذلكَ مثلُ آياتِ المواريثِ الواردةِ في القرآنِ الكريمِ، والتي يُحاوِلُ البعضُ الآنَ العبثَ بها وإعادةَ تقسيمِ ما وَرَدَ بها مِن تحديد أنصبة على ما يراه هو، لا على وَفقِ ما جاءَتْ به الشريعةُ من أحكامٍ ثابتةٍ بنصوصٍ قطعيَّةِ الثبوتِ قطعيَّةِ الدَّلالةِ بلا ريبٍ، فلا مجالَ فيها لإعمالِ الاجتهاد.
وقد أكَّدَ الأزهرُ الشريفُ قبلَ ذلكَ مرَّاتٍ عديدةً أنَّ هذا النوعَ من الأحكامِ لا يَقبَلُ الخوضَ فيه بخيالاتٍ جامحةٍ وأُطروحاتٍ تُصادِمُ القواعدَ والمُحكَماتِ، ولا تَستنِدُ إلى علمٍ صحيحٍ، فهذا الخوضُ بالباطلِ مِن شأنِه أن يَستفِزَّ الجماهيرَ المسلمةَ المتمسِّكةَ بدِينِها، ويفتحَ البابَ لضَربِ استقرارِ المجتمعاتِ، وفي هذا مِن الفسادِ ما لا يَخفَى، ولا نتمناه لأحد أبدًا.
أمَّا النصوصُ الظنيَّة الدَّلالةِ، فإنَّها تقبل الاجتهادَ والنظرَ، غيرَ أن الاجتهاد فيها مقصورٌ على أهل الاختصاص المشهود لهم بسعة العلم وبالدِّين والورع.
اقرؤوا أيُّها المسلمون في الشرق والغرب في نهاية آية الميراث: ﴿فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ﴾ ثم قوله تعالى بعد ذلك: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم * وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾.()
هذا، والأزهرُ الشريفُ يحذر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من هذه الفتنة ومن دعاتها، ويَرفُضُ رفضًا قاطِعًا أيَّة محاولة للمَسَاسِ -مِن قريبٍ أو بعيدٍ- بعقائد المسلمين وأحكام شريعتهم، أو العبث بها.
وليعلَم الجميع أنَّ رسالةَ الأزهر الشريف، وبخاصةٍ ما يتعلَّق منها بحراسةِ أحكام دين الله وبيانها للناس، هي رسالةٌ عالمية لا تَحدُّها حُدُودٌ جُغرافية، ولا توجُّهات عامة أو خاصة، يتحمَّل عبئها رجال من ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾()
حفظ الله الأزهر وأبقاه للعالمِينَ الحافظ الأمين على دين الأمة وسلامتها من الفتن والشرور).()

فالواجب علينا جميعا أن نلتزم بأحكام المواريث التي نص الله -عز وجل- عليها في كتابه؛ فإنها من حدود الله، والواجب على المسلم أن يقف عند حدود الله -عز وجل- ولا يتعداها، ففيها كل الخير والمصلحة للناس في دينهم ودنياهم.

النبراس الكاشف لشبهات المتلاعبين بأحكام الميراث
 

محمود حلمي علي

:: مطـًـلع ::
انضم
4 يونيو 2013
المشاركات
166
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
فقه شافعي
الدولة
مصر
المدينة
العاشر من رمضان
المذهب الفقهي
الشافعي
أحكام المواريث القطعية بين الدستور والقانون

تبين لنا مما سبق من تفنيدٍ للشبهات أن الدعوة إلى تشريع قانونٍ مُلزم بالتسوية المطلقة بين الرجل والمرأة في الميراث لا تستند إلى أي دليل شرعي، بل فيها مخالفة لحدود الشرع وتعدٍّ على حقوق الناس المالية وسلبِها منهم وإعطائها لغيرهم رغمًا عنهم.
ومع ذلك فإن بعض الداعين إليها يُلبس دعواه ثوب المشروعية القانونية، ويبرر ذلك بالاستناد إلى توافقٍ مجتمعي لتشريع تلك التسوية، بحيث يكون ذلك معبرًا عن إرادة الشعب.
فأَلْبس تلك الدعوى ثوبَي زور:
الأول: ادعاء حصول توافق مجتمعي عليها.
الثاني: ادعاء جواز تشريع مثل هذا القانون استنادًا لهذا التوافق المزعوم.

أما عدم حصول توافق مجتمعي على ذلك، بل وعدم إمكان حصوله؛ فهو من البديهيات التي تستند لواقع الناس وفطرتهم في حرصهم على أموالهم()، فلا يتصور من جميعهم الإحسان والتنازل والتبرع، ولم يكلِّفْهم الشرع بذلك، بل أمرهم بألا يدفعهم حب المال إلى التعدي على حقوق غيرهم.()

وأهم ما يعنينا في هذا المقام: مناقشة دعوى جواز تشريع مثل هذا القانون استنادًا لهذا التوافق المزعوم؛ فهذه دعوى باطلة، وأفصل القول في بيان وجه بطلانها في هذا المبحث.

فقد نصت المادة الثانية من الدستور المصري على أن: (مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع).()
وتأسيساً على ذلك فإن: (قضاء المحكمة الدستورية العليا مطَّرد على أن ما نص عليه الدستور في مادته الثانية - بعد تعديلها 22 من مايو في سنة 1980 - من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، إنما يتمحض عن قيدٍ يجب على كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية أن تتحراه وتنزل عليه في تشريعاتها الصادرة بعد هذا التعديل، فلا يجوز لنصٍ تشريعي، أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي يكون الاجتهاد فيها ممتنعاً، لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادؤها الكلية، وأصولها الثابتة التي لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً.
ومن غير المتصور بالتالي أن يتغير مفهومها تبعاً لتغير الزمان والمكان، إذ هي عصيّة على التعديل، ولا يجوز الخروج عليها، أو الالتواء بها عن معناها.
وتنصبُّ ولاية المحكمة الدستورية العليا في شأنها، على مراقبة التقيُّد بها، وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها.
ذلك أن المادة الثانية من الدستور، تُقدِّم على هذه القواعد، أحكامَ الشريعة الإسلامية في أصولها ومبادئها الكلية، إذ هي إطارها العام، وركائزها الأصيلة التي تفرض متطلباتها دوماً بما يحول دون إقرار أية قاعدة قانونية على خلافها؛ وإلا اعتبر ذلك تشهيّاً وإنكاراً لما علم من الدين بالضرورة.
ولا كذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو بهما معاً، ذلك أن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها، ولا تمتد لسواها، وهي بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان، لضمان مرونتها وحيويتها، ولمواجهة النوازل على اختلافها، تنظيماً لشئون العباد بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعاً، ولا يعطل بالتالي حركتهم في الحياة، على أن يكون الاجتهاد دوماً واقعاً في إطار الأصول الكلية للشريعة بما لا يجاوزها؛ ملتزماً ضوابطها الثابتة، متحرياً مناهج الاستدلال على الأحكام العملية، والقواعد الضابطة لفروعها، كافلاً صون المقاصد العامة للشريعة بما تقوم عليه من حفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال).()

وبناء على ذلك:
فالأحكام قطعية الثبوت والدلالة، والتي تمثل مبادئ الشريعة الإسلامية، لا يجوز مخالفتها وفقا للدستور المصري، وتنصب ولاية المحكمة الدستورية العليا فى شأنها، على مراقبة التقيد بها، وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها، بما يحول دون إقرار أية قاعدة قانونية على خلافها.

ويعدُّ الأزهر الشريف هو المرجع الأساسي في بيان الأحكام قطعية الثبوت والدلالة، والتي تمثل مبادئ الشريعة الإسلامية.
فقد نصت المادة (7) من الدستور المصري على أن: (الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كفاة شئونه، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشئون الإسلامية).()

ونص المرسوم بقانون رقم 13 لسنة 2012، المادة 32 مكررًا (أ) على أن: (تختص هيئة كبار العلماء بما يلي: 3- البت في المسائل الدينية والقوانين، والقضايا الاجتماعية ذات الطابع الخلافي التي تواجه العالم والمجتمع المصري على أساس شرعي. 4- البت في النوازل والمسائل المستجدة التي سبق دراستها ولكن لا ترجيح فيها لرأي معين).()

وقد أصدرت "هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف" بيانًا حول قضية ميراث المرأة، ومما جاء في هذا البيان: (يُؤكِّدُ الأزهرُ أنَّ النصوصَ الشرعيَّةَ منها ما يَقبَلُ الاجتهادَ الصَّادرَ مِن أهلِ الاختصاصِ الدَّقيقِ في علومِ الشريعةِ، ومنها ما لا يَقبَل ذلك.
فالنصوصُ إذا كانَتْ قطعيَّةَ الثبوتِ والدَّلالةِ معًا فإنها لا تحتملُ الاجتهادَ ولا تقبل التغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، وذلكَ مثلُ آياتِ المواريثِ الواردةِ في القرآنِ الكريمِ، والتي يُحاوِلُ البعضُ الآنَ العبثَ بها وإعادةَ تقسيمِ ما وَرَدَ بها مِن تحديد أنصبة على ما يراه هو، لا على وَفقِ ما جاءَتْ به الشريعةُ من أحكامٍ ثابتةٍ بنصوصٍ قطعيَّةِ الثبوتِ قطعيَّةِ الدَّلالةِ بلا ريبٍ، فلا مجالَ فيها لإعمالِ الاجتهاد).()

وبناء على ذلك:
فلا يجوز سَنُّ قوانينَ تُلزِمُ بالتَّسويةِ المُطلَقةِ بينَ الرجل والمرأةِ في الميراثِ؛ لأن تقسيم القرآن الكريم المُحكَم للمواريثِ، خصوصًا فيما يتعلَّقُ بنصيبِ المرأةِ فيه، هو من الأحكام قطعيَّةِ الثبوتِ قطعيَّةِ الدَّلالةِ، فلا مجالَ فيها لإعمالِ الاجتهاد.
ولا يجوز لنصٍ تشريعي أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، إذ هي عصيّة على التعديل، ولا يجوز الخروج عليها، أو الالتواء بها عن معناها.
وتنصبُّ ولاية المحكمة الدستورية العليا في شأنها، على مراقبة التقيُّد بها، وتغليبها على كلِّ قاعدة قانونية تعارضها، بما يحول دون إقرار أية قاعدة قانونية على خلافها. والله أعلم.


النبراس الكاشف لشبهات المتلاعبين بأحكام الميراث
 

محمود حلمي علي

:: مطـًـلع ::
انضم
4 يونيو 2013
المشاركات
166
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
فقه شافعي
الدولة
مصر
المدينة
العاشر من رمضان
المذهب الفقهي
الشافعي
أهم نتائج البحث
النبراس الكاشف لشبهات المتلاعبين بأحكام الميراث

من أهم نتائج هذا البحث: إبراز العديد من خصائص حق الإرث في التشريع الإسلامي، وبيان بعض الحِكَم والمقاصد في تشريع أحكامه بصورة تمنع من تغييرها أو التلاعب بها، فلا يملك الوارث تغيير أحكام الميراث، ولا يملك غيره أن يفرض عليه هذا التغيير بحجة رضاه به، بل يثبت هذا الحق وفق ما أراده الله -عز وجل- له بحكمته البالغة وقسمته الباهرة.

ويمكن تلخيص أهم تلك الخصائص، وأهم ما يترتب عليها من آثار في النقاط التالية:
حقُ الإرث حقٌّ قهري؛ لا يقبل الإسقاط ولا النقل.
الملك بالإرث ملكٌ قهري، يثبت جبرًا من الشرع من غير قبول الوارث، ويدخل في ملكه بغير اختيارٍ منه.
لا يجوز تشريعُ قانونٍ يُلزم الوارث بالتنازل عن بعض حقه مطلقًا؛ لا قبل تملُّك الميراث؛ لأن حق الإرث لا يقبل الإسقاط ولا النقل؛ ولا بعد تملُّك الميراث؛ لأنه لا يجوز أن يُلزم أحدٌ بالتبرع لغيره قهرًا بغير مسوغ شرعي، ولأن من الورثة من لا يصح تبرُّعه ولا يجوز لوليّه أن يتبرع بشيء من ماله.
التَّخَارُج: هو أن يصْطَلح الورثة على إخراج بعضهم من الميراث بمالٍ معلوم.
مشروعية التخارج في الفقه الإسلامي لا تفيد جواز التنازل عن حق الإرث، بل تفيد جواز أن يبيع الوارث ما استحقه من أعيان التركة لغيره من الورثة، بعد ثبوت ملكه له، وتصرفه فيه بمحض إرادته ورضاه، إن كان أهلاً للتصرف.
النصوصُ إذا كانَتْ قطعيَّةَ الثبوتِ والدَّلالةِ معًا فإنها لا تحتملُ الاجتهادَ ولا تقبل التغيّر بتغيّر الزمان والمكان والأحوال، وتقسيم القرآن الكريم المُحكَم للمواريثِ، خصوصًا فيما يتعلَّقُ بنصيبِ المرأةِ فيه، هو من الأحكام قطعيَّةِ الثبوتِ قطعيَّةِ الدَّلالةِ، فلا مجالَ فيها لإعمالِ الاجتهاد.
لا يجوز سَنُّ قوانينَ تُلزِمُ بالتَّسويةِ المُطلَقةِ بينَ الرجل والمرأةِ في الميراثِ؛ لأنه لا يجوز لنصٍ تشريعي أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، إذ هي عصيّة على التعديل، ولا يجوز الخروج عليها، أو الالتواء بها عن معناها، بل يتعين التقيُّد بها، وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها.
التبرع والإحسان مندوب إليه في الشرع، ولكنه يكون من كامل الأهلية للتبرع بمحض إرادته.
لا نحتاج لتغيير أحكام المواريث لكي نتراحم، بل نحتاج للعمل بالأحكام المشروعة التي تضمن تحقيق التكافل والتراحم.
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى