الدكتور نظام يعقوبي من همس المخطوطات إلى رحاب الحرمين
معرفتي بالشَّيخ د. نظام يعقوبي لم تكن عن قرب وإن استشرفتها يوماً، بل من خلال ما يشيع عنه في الأوساط العلميَّة، حتَّى وقع بين يديَّ مقالٌ في غاية النَّفاسة لصاحبنا العزيز فضيلة الشَّيخ د. محمَّد آل رميح، فإذا بي أكتشف بفضل قلمه السَّيَّال نقلةً نوعيَّةً في تصوُّري عنه، إذ أظهر جوانب لولاها لظلَّت مجهولةً، وأبرز سماتٍ لولاها لأصبحت مطموسةً!!.
وكم من عالمٍ تخفى علينا آثاره الحميدة، وتتوارى خصاله المجيدة، إِمَّا لتواضعه الذي جبل عليه، وهضم نفسه الذي تحلَّى به، أو لغفلة طلَّابه عن إبراز مقامه، أو لانشغالنا نحن عن تتبُّع سيرته ومتابعة مسيرته.
لقد أطلّ أخي د. محمَّد آل رميح على شخصيَّةٍ عصريَّةٍ حيَّةٍ للشَّخ د. نظام يعقوبي من نافذةٍ واسعة؛ ظلَّت تراودني أحداثها، وتؤنسني استذكار أيَّامها؛ حيث جمع بين الرِّواية التَّاريخيَّة والحكاية الإنسانيَّة، فأرانا كيف يتجاور في حياته همس المخطوطات مع أنفاس الحرمين، وكيف يجمع بين عالم التَّحقيق الدَّقيق والمبادر الميدانيِّ الذي يلامس حياة النَّاس.
في مسيرته ترى صورة العالم الذي لا يكتفي بجمع الكتب، بل يوقظها من سبات الرُّفوف؛ وينقلها من خزائن المخطوطات إلى رحاب المجالس، ويجعلها جسوراً تربط بين القرون؛ لتحيا بها القلوب.
وفي شخصيَّته تلحظ ملامح ما قد يصحُّ أن يوصف بإدارة بنك ذاكرة الأمَّة؛ إذ يحفظ لها نصوصها كما يحفظ وجوه أهلها؛ ويعرف أخبارهم؛ ليصل بين المشرق والمغرب بخيوط من الأسانيد، وينسج اللقاء بثبت المراسلة، وبثِّ المشافهة.
ولعلَّ أثره الأعمق يكمن في تلك اللِّقاءات الحوليَّة، والمجالس الدَّوريَّة التي جمعته بالحرمين الشَّريفين؛ حيث أضحت هذه المجالس إلى مدارساتٍ مفتوحة تجمع العالم الإسلامي: فشيخ من المغرب، وطالب من المشرق، ومخطوط من بخارى، وفائدة خفيَّة، وأخرى بالاعتبار حفيَّة، كلُّها تجتمع في القلب النَّابض لكلِّ مسلمٍ: إنها مكَّة المكرَّمة والمدينة المطيَّبة.
وكأنَّ الشَّيخ يختصر المسافات، ويحوِّل اللِّقاءات العابرة إلى مشاريع علميَّةٍ جارية، والحوارات القصيرة إلى امتداداتٍ في سلسلة الرِّواية.
لم يكن الشَّيخ د. نظام يعقوبي منغلقاً في دائرة المخطوطات وحدها، بل كان يزاوج بين الحسِّ الإنسانيِّ والعطاء العلميِّ؛ حيث يغيث محتاجاً، ويؤوي غريباً، ويردُّ مخطوطاً مسروقاً إلى موضعه، ويقيم وقفاً لنشر العلم، ويفتح مكتبةً للباحثين.
هذه الأفعال المجتمعة ليست ملاحق لسيرته، بل هي جزءٌ أصيلٌ من ثرائه المعرفيِّ، وكرمه الحاتميِّ.
فهو عالم حديث، ومحقِّ مخطوطات، وصانع شبكات علميِّة، وذاكرة حيَّة، وحارسٌ لميراث الأمَّة، جمع بين المخطوط والإنسان، والذَّاكرة والرَّحمة، والحرم والمكتبة.
فلله درُّه، متَّع الله بحياته؛ وزاده توفيقاً وسداداً، ونفع به وبجهوده.
وكتبه
أ.د. عبدالحميد بن صالح الكرَّاني
أستاذ الفقه والمشرف العامُّ للشَّبكة الفقهيَّة
الباحة مدينة الضباب
الخميس 20-2-1447هـ
الموافق 14-8-2025م