العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

الشعر في زمن النكبة للشيخ عائض القرني

إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
الشعر في زمن النكبة للشيخ عائض القرني

الحمد لله القائل: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ الله الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)).
والصلاة والسلام على من قال فيه ربه: ((وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ)) فبذّ بفصاحته البلغاء، وأسكت بمنطقه الشعراء، وأفحم ببيانه العرب العرباء، وعلى آله وأصحابه اللُّسُن المفوَّهين والكماة الباسلين.
أما بعد:
الأدب كلمة مؤثرة حية تبعث في الشعوب الحياة.
وقد عاشها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بنفسه متكلماً وسامعاً وخطيباً وفقيهاً ومفتياً.
ولكن قبل أن أتحدث عن الأدب الرفيع الذي عايش الأمة أُعرِّض بأدب رخيص، أدب مبتذل، وأدب ليس مقصوداً في الإِسلام.
فنحن نعيش اليوم أدباً هو في مجموعه لا يحمل مبدءًا ولا يتعامل مع قضيتنا الكبرى ولا يتحمَّس لرسالتنا الخالدة.
أدباً غلب عليه التذبذب وتبدُّل المواقف بحسب المنافع والأغراض والمصالح.
أدباً يسترضي الخواطر ويجامل على حساب الحق، فإذا قائله أول من يُكَذّبه ولا يؤمن به.
أدباً مجمركاً كتبت عليه الوصاية، يصف الزوارق البحرية في شواطئ اللهو والضياع، ويبكي على موت أرانب الصحراء، ويحدثنا عن بلقيس وتدمر والأمة تغرق في بحور الدماء، وتئنُّ تحت أسواط الجلادين، وتموت في الزنزانات، وتُحاصر بطوابير الملحدين المرتزقة.
أدباً نتيجته ميدالية ذهبية، أو سيارة فاخرة، أو كلمة شكر من الجنرال، أو ابتسامة من الممدوح.
أدباً أخرج أفراخ العلمنة أبرياء أمام الشعب، ونجوماً في وسائل الإِعلام، وأبطالاً في مسيرة الأمة.
وجعل الأَعلام خونة، والناصحين غششة، والأتقياء أهل خطورة.


أدباً طارد الجنس، وطلب الشهرة، وحرص على الظهور.
فأين أدبنا؟
وأين شعرنا؟
وأين إبداعنا؟
وأين طموحاتنا؟
نحن نريد أدباً جميلاً طموحاً عفيفاً.
أدباً يستفيد من روعة السبع المثاني والقرآن العظيم.
أدباً يلهب حماس الأمة فيوقظ الغافل، وينبه البليد، ويزجر العاصي.
أدباً يعيد لنا مجدنا، ويذكرنا تاريخنا، ويحمل مبادئنا.
أدباً يصلنا بالماضي، ويحثنا إلى المستقبل.
في ظلاله نعيش بظلال ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)).
وفي أحيائه نحيا تحت أفياء لا إله إلا الله محمد رسول الله.


لقد عاش رسولنا صلى الله عليه وسلم الأدب بكل معاني هذه الكلمة فجاشت روحه ودمعت عينه وهفت نفسه مع الأدب.
في صحيح مسلم عن عمرو بن الشريد قال: (ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتحفظ لـ[URL="http://www.mmf-4.com/vb/comments.aspx?id=1000092"]أمية بن أبي الصلت شعراً؟
عجيب! هل اتسعت حياتك الحافلة لتسمع الشعر؟
هل اتسعت أحداثك وأيامك يا رجل العالم لتسمع الأبيات؟
قال: قلت: نعم.
قال: أنشدني.
فأنشدته بيتاً.
قال: هيه.
فأنشدته ثانياً.
فما زال يقول: هيه حتى أنشدته مائة بيت[/URL]) (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (آمن شعره وكفر قلبه) (1) ، أي أمية .
كان صلى الله عليه وسلم يجيد الأدب.. فإذا تكلم بَذَّ الفصحاء.
وكان يقول: (أُعطيت جوامع الكلم) (1) ، فأخرج من الأمة الخام أمة الصحراء وأمة الأرانب وأمة الضب، أخرج منها أمة فريدة تكتب بسم الله في قرطبة ، وتصلّي في أشبيليا ، وتسجد على ضفاف دجلة و الفرات .
يقول الزبيري قاضي اليمن وهو يمدح بلاغة المصطفى صلى الله عليه وسلم:


يقول: ما قال كلمة إلا أحيا بها جيلاً.
وما خطب خطبة إلا جهّز جيشاً.
وما أرسل عبارة إلا فتح مدينة.
فسيطر بهذا الأدب صلى الله عليه وسلم على العقول وملك به الأفئدة.
وكان صلى الله عليه وسل يجعل من مسجده منتدىً أدبياً، ويقرّب المنبر لـحسان ويقول: (اهجهم وروح القدس معك) (1) .
ويسأل حسان بن ثابت : (كيف أنت والمشركين؟
أي كيف بك إذا جمعنا مع المشركين صراع أدبي.
فأخرج
[URL="http://www.mmf-4.com/vb/comments.aspx?id=1000123"]حسان
لسانه متحدياً وضرب به أرنبة أنفه وقال: لساني يا رسول الله، والله لو وضعته على حجر لفلقه، أو على شَعْر لحلقه.
فدعا له[/URL]).
فأرسل القوافي كالقنابل وأرسل الأبيات كالسهام.
يقول رضي الله عنه قبل غزوة الفتح مهدداً الشرك والوثنية والإِلحاد والزندقة.


يقول: نسأل الله ألا يعيد هذه الخيول إلى بيوتنا إن لم نصف الحساب معكم، وإن لم نعلن نتيجة النصر مع الباطل.


فيدخل صلى الله عليه وسلم عام الفتح منتصراً، ويسأل أبا بكر النَّسَّابة الحافظ للشعر وهو يرى خيول خالد قد انصبت من كداء مكة ونساء مكة يخرجن بالخُمُر يلطمن الخيل، فيتبسم صلى الله عليه وسلم لتحقق قول حسان ويقول: (يا [URL="http://www.mmf-4.com/vb/comments.aspx?id=1000001"]أبا بكر كيف يقول حسان[/URL]) (1) ؟
فيعيد عليه الأبيات ويسمع القائد العظيم أبيات الحماسة والصدق والنبل فيتأثر بها.
ويشهد الرسول صلى الله عليه وسلم بدراً وينتصر انتصاراً رائعاً سجله التاريخ.
فيأتي حسان ويشارك فيقول للحارث بن هشام الذي فرّ من المعركة وهو أخو أبي جهل :


يقول للمحبوبة: إن كنت كاذبة فأنجاك الله عزَّ وجل كما أنجى الحارث بن هشام الذي ترك الأبطال في بدر وفر.
فوقعت هذه الأبيات وقع السيف على قلب الحارث رضي الله عنه لأنه قد أسلم وخرج إلى اليرموك ليبيع دمه، وليطهر أوزاره من هذه الأبيات، وليكتب في سجل الخالدين.
وتوفي صلى الله عليه وسلم وترك لنا شعراء ثلاثة، هم: ابن رواحة و كعب بن زهير و حسَّان .
يقول تعالى: ((هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ)).
هل نخبركم بالدجاجلة؟
هل نخبركم بالمرتزقة المنافقين؟
هل نخبركم بباعة المبادئ؟ ((تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ))، الذي لا يحمل ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)).
((يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ))، أي: يتشدّقون عند الكيانات وأمام الأشخاص، فيمدح أحدهم من ذم أمس ويذم من مدح بالأمس.
((وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ))، فأتى الشعراء الثلاثة إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم يبكون ويقولون: يا رسول الله نحن الشعراء وأنزل الله فينا ما تعلم.
فنزل جبريل بقوله سبحانه وتعالى: ((إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا الله كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ))، ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)) بلا إله إلا الله وتوضؤوا ودخلوا المسجد وحملوا المصحف وأيَّدوا الرسالة التي أتى بها صلى الله عليه وسلم وتطهروا من أوزار التخلف والحزبية للباطل والركوع للآثم الفاجر.
ويتولى أبو بكر الخلافة فيجعل للأدب المؤمن في حياته جزءاً كبيراً، بل هو نفسه من مواصفاته ومن مؤهلاته أنه كان خطيباً نسَّابة أديباً.
في اليوم الأول لوفاته صلى الله عليه وسلم عُقد مجلس في دار بني ساعدة للأنصار.
فكاد هذا المجلس أن يتحول إلى كارثة على الأمة، فتحرك أبو بكر و عمر و أبو عبيدة في الوقت المناسب لإنقاذ الموقف.
فقال لهم أبو بكر : يا معشر الأنصار، آويتم، وواسيتم ونصرتم وأكرمتم، فجزاكم الله عنا خير الجزاء، والله ما مثلنا ومثلكم أيها الأنصار إلا كما قال طفيل الغنوي :


فتهلَّلت وجوههم وانشرحت صدورهم، فقاموا فبايعوه رضي الله عن الجميع.
إن الكلمة المؤثرة المؤمنة الصادقة تغيّر أفكار الشعب وتوجه طاقات الأمم.
ويتولى عمر الخلافة فلا يبتسم لأنه صارم ولأن الشيطان يسلك فجّا وعمر يسلك فجاً آخر، ولأن الأعداء تهاب عمر ، ولأن الأكاسرة والقياصرة على منابرهم وفي دواوينهم يهتزون من سمعة عمر وهو في المدينة كما يقول محمود غنيم :


أرسل عمر رضي الله عنه وأرضاه النعمان بن عدي أميراً على ميسان وهي قرية تقع قريباً من البصرة .
فتولى الإِمرة وكان صحابياً لكنه يحب الشعر والأدب.
فجلس يوماً مع أصحابه في سمر فقال مازحاً:


أي من يُبلغ الجميلة في المدينة أنه تطور بي الحال (بعد ثورة 14 سبتمبر!!) فأصبحت أميراً بعد أن كنت أنام على الرصيف.
وبعد أن كنت أشرب الماء لوحده أصبحت أشرب الخمر! ولا أشربه إلا في الحنتم والزجاج.
ولم يفعل ولم يشرب الخمر، وما كان له أن يشرب الخمر وقد آمن بالله، وما كان له أن يشرب المسكر وقد عاهد الله وباع نفسه من الله.
فوصلت الأبيات عن طريق (الاستخبارات!!) إلى عمر ، فقرأ عمر رضي الله عنه وأرضاه الخبر فاستدعى أميره في الحال لأن عمر ليس صاحب هذا التساهل والدوران حول الحمى.
فقال للأمير: ما هذه الأبيات التي سمعت؟ والله لقد ساءني ما صنعت فلابد من الحدِّ في ظهرك.
فقال: يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ، والله ما شربت الخمر وإنما قال الله عزَّ وجل: ((وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ)).
قال عمر : أما الحد فقد أسقطته عنك بهذه الآية، ولكن والله لا تلي لي عملاً، ثم عزله.
وتمرُّ النكبات على الأمة بعد الخلافة الراشدة فيكون للشعر دور فيها.
فيستشير المعتصم المنجِّمين في فتح عمورية أثناء حربه مع الروم.
فقال المنجمون: احذر! لقد نزل نجم العقرب في كوكب الذنب فلا نصر في هذه الفترة.
فقال: آمنت بالله وكفرت بكم.
ثم جهز جيشاً عرمرماً.


وتوجه على بركة الله ودكدك بلاد الروم وانتصر عليهم ومزّق ديارهم.
وعاد ليسمع ماذا يقول شاعر الإِسلام أبو تمام الذي سجّل فتح عمورية بأبدع ما يقال.
فقال أبو تمام :


ثم ضحك على المنجمين وعلى الكهنة وقال: أين فتواكم الرخيصة؟ أين العمالة؟ أين الكذب على الله وعلى الدين وعلى الرسالة؟
أما انتصر المعتصم ؟
أما ذبح الأبطال؟
أما مزق أديم الكماة؟
يقول:


فالله هو الذي رمى بك لأنك عبد لله. فما كنت بعثياً ولا علمانياً ولا ناصرياً ولا ماركسياً، وإنما كنت حنيفاً مسلماً ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى)).
ثم أثنى عليه بالإِيمان فقال:


فيشكره المعتصم ويسجل الإسلام لـأبي تمام قصيدته الرائعة الإِسلامية البديعة التي حملت روح الإِسلام.
إننا بحاجة إلى أدب ينشد مبادئنا في النكبات، ويمسح جراحنا ويكفكف دموعنا ويقيلنا من العثرة.
ولسنا بحاجة إلى أدب يصف القائد ولا سيارته ولا شارته ولا طابوره، ولا يتهجَّم تهجم الحطيئة على أعدائه؛ لأن هذا الأدب سوف يموت.
وتستمر القافلة وتأتي نكبات لنا وعلينا، ويأتي أبو الطيب المتنبي شاعر الدنيا، ولولا أبو الطيب المتنبي لما ذكر سيف الدولة .
فيقف مع سيف الدولة في الوغى ويحشد معه الجيوش ويسخر لسانه ليكون بوقاً له في المعارك.
يقول للقائد:


من يضحك إلا أنت في المعمعة؟
من الذي يبتسم والسيوف تقصف الرؤوس إلا أنت؟


فأنت ما قتلت رجلاً واحداً ولكنك انتصرت للمبادئ وللا إله إلا الله.
والمتنبي على الملاحظات الشرعية التي على شعره إلا أنه كان يُبكي عيون الناس.
يقولون: غضب الصاحب بن عباد على المتنبي لأنه لم يمدحه فقال للشعراء: والله لا ينشدني أحد شعراً لـأبي الطيب إلا قتلته.
فماتت أخت ابن عباد فأتته ستون رسالة مصدَّرة ببيتين لـأبي الطيب المتنبي يقول فيها:


فقال: لمن هذا؟
قالوا: لـأبي الطيب .
قال: هذا كالشمس قد انتشر.. انْشدوا شعره، أو كما قال.
فالمبادىء الإِيمانية - أيها الإخوة - ترتفع بالأدب.
ولا أدب لنا إذا لم يكن فيه خدمة لمبادئنا.
وتسقط الأندلس ونصاب بنكبة.. فقلوبنا هناك ودموعنا وأسرارنا وتاريخنا.
لقد دفنّا علماءنا في الأندلس وتركنا تاريخنا وليالينا وسمرنا وقمرنا ونجومنا.
ودفنا أشجاننا وعتابنا هناك ثم عدنا بلا مصير.


عسى الله أن يعيدنا إلى تلك الدنيا.
فيبكي العالم الإسلامي سقوط الأندلس ، ولكن بكاءهم مقصر في جانب بكاء أبي البقاء الرندي ، فاسمع إليه وهو يستفتح قصيدته باكياً متأثراً صارخاً من ألم النكبة التي عاشها الأطفال والنساء والكيان والدعاة والعلماء.


فعسى الله أن يعيد تلك الأرض ثانية.
من منكم لا يعرف بغداد ؟
بغداد الحب والجمال والطموح.
بغداد ؛ أحمد بن حنبل و الشافعي و ابن الجوزي و الجيلاني .
بغداد ؛ المنصور و الرشيد و المأمون و المعتصم .
بغداد ؛ أبي تمام و البحتري و أبي العتاهية .
لقد أصيبت بغداد بنكبة التتار يوم انحرف أهلها في مرحلة من المراحل عن الصلاة، وعن إقامة الإيمان، وعن لا إله إلا الله، وعن التحاكم إلى شرع الله، فأصبح العلمَاء في الطابور السادس، وأصبح أهل الفكر وأهل الأقلام هم الأوباش والجواري وباعة القيم والرخصاء، ((وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً)).
فيبكي الناس، ويقوم شاعر فيخاطب بغداد وهي أطلال والدماء تسيل، والأطفال تحت سنابك الخيل تداس، وكتب دار الحكمة تُرمى في نهر دجلة فيقول:


إنه الأدب الذي يتقطع لوعة وحسرة. وهو الأدب الذي نفقده يوم أصبح الكلام بغير حماس وبغير إحساس.
يخرج لكن من اللسان لا من القلب.
ومن النكبات المدلهمة أيها البررة موت العظماء وقتل النبلاء.
يقول ابن جرير :


فموت بعض الناس موت للأمة، وموت أمة لا يساوي موت واحد.
وأعظم العلماء محمد صلى الله عليه وسلم وأكبر الزعماء وإنسان عين الدنيا رسولنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم فهو ينتقل إلى الله لكن مبادئه لم تنتقل.
يقول شوقي :


يقول البردوني أعمى القلب وأعمى البصر ولا زال حياً، لكن ((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله)).
يقول في قصيدة يحيي فيها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، قصيدة تُبكي العيون وتثير في القلب شجوناً الله أعلم بها.


ثم يقول في آخرها:


إنها قصيدة بديعة جزلة مؤثرة، لكن ربما يخرج الورد من الشوك.
لقد مات صلى الله عليه وسلم فكأن الأمة ماتت يوم موته.


وأما عمر فقد رثاه أحد الشعراء بقوله:


وأما محمد بن حميد الطوسي فهو بطل ما جاوز السادسة والثلاثين من عمره، قاتل في عهد المعتصم وكان قائد الجيوش.
التقى يوماً مع الروم فقاتل من بعد الفجر إلى صلاة المغرب.
يقولون: كان يأخذ السيف فيقاتل به حتى ينكسر السيف وتلمع شظاياه من على رؤوس الأبطال، فيأخذ السيف الآخر، ومع الغروب فتر، فاجتمع عليه الكماة فقتلوه.
فأتى أبو تمام ليشارك في المصيبة فسجّل قصيدة مبكية في محمد بن حميد الطوسي ، ولما سمعها المعتصم قال: والله ما مات من قيلت فيه هذه القصيدة.
يقول أبو تمام :


أتى وفد غطفان إلى عمر فقال: أمنكم أحد من أبناء هرم بن سنان الذي مدحه زهير ؟
قال رجل منهم: أنا يا أمير المؤمنين.
قال: ماذا قال فيكم زهير وماذا أعطيتموه؟
قال الابن: مَدَحَنا فأعطيناه مالاً.
قال عمر : ذهب والله ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم.
قال زهير في هرم :


إلى آخر ما قال، فهذا هو الخلود، ولذلك لا زلنا نتناشدها إلى اليوم وتحيا معنا.
أما أدب (أنا ذبابة الليمون... أطير من شجرة إلى شجرة!) وأدب (سيارتي مازدا سبور.. أنت سيارتي.. عشت في رحلة في روابي الخليج..) وأدب:


فهذا الأدب السخيف لا يدوم أياماً فضلاً عن الأعوام.
ابن بقية وزير عباسي أطعم الناس وكسا العلماء، فحسده عضد الدولة لأنه أخذ عليه الاسم والصيت، فأصبح رمزاً دائماً للصحف الصباحية! فهي لا تحيي إلا ابن بقية في عهد العباسيين وتركت السلطان عضد الدولة .
فدبر عضد الدولة كارثة للوزير حتى قتله واغتاله.
ففوجئت الأمة بهذا الوزير الباذل وإذا هو مصلوب عند باب الطاق في بغداد .
فأتى أبو الحسن الأنباري أحد العلماء والأدباء العاشقين لـابن بقية فقال وهو ينظر إلى الجثمان:


فأنت دائماً تحب الخلود والعلو في حياتك وفي موتك.


فالناس الذين حول الجذع والجثمان كأنهم يمدون أيديهم لك لتعطيهم المال كما كانوا يمدونها في الدنيا.


يقول: ضاقت الأرض أن تواري مكارمك ولموعك وسطوعك وكرمك فجعلوك في الجو.
فالشعر يستطيع بجماله أن يقلب المفاهيم.
ونحن لا نريد قلب المفاهيم، ولكن نريد تحبيب الناس للحق ونصرته.
أصابت مصر هزة أرضية بسبب الذنوب والخطايا.
فخاف السلطان في ذاك العهد وأراد أن يتوب فدخل عليه شاعر أفاك وقال له:


يا سلام على الخيبة! وعلى قلة الأدب.
فاستمر السلطان في طغيانه بسبب هذا الأفاك الأثيم.
ويقول ابن هانئ شاعر الأندلس لخليفة آخر:


فعلّمه الله من هو الواحد القهار، فأصابه بمرض عُضال حتى كان يتقلب على فراشه ويقول:


فنحن لا نريد الأدب الذي يجعل من السفاك حليماً وحكيماً، ومن المجرم عبقرياً فاتحاً.
ويُنْكَب ابن عباد سلطان الأندلس عندما غلب عليه الترف وغلب عليه الانحراف عن الجادة، فكثرت الجواري في بيته والدفوف والطنابير والعزف وسماع الغناء والكأس بعد الثانية ليلاً، فأراد الله أن يؤدبه.
فاستغاث يوماً بـابن تاشفين وهو سلطان المغرب على أعدائه الروم في الأندلس .
فعبر ابن تاشفين البحر ونصر ابن عباد .
فأنزله ابن عباد في الحدائق والقصور والدور ورحب به وأكرمه.
وكان ابن تاشفين كالأسد ينظر في مداخل المدينة وفي مخارجها لأن في نفسه شيئاً.
وبعد ثلاثة أيام هجم ابن تاشفين بجنوده على المملكة الضعيفة وأسر ابن عباد وقيده وسلب ملكه وأخذ دوره ودمَّر قصوره وعاث في حدائقه ونقله إلى بلدة أغمات أسيراً، وهكذا يفعل الزمن دائماً ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ))، ((وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ)).
فتقلَّد ابن تاشفين زمام الحكم وادّعى أن أهل الأندلس هم الذين استدعوه وأرادوه.
ومرت الأيام وإذا ببنات ابن عباد يصلنه في السجن حافيات باكيات كسيفات جائعات، فلما رآهن بكى عند الباب وقال:


ثم دخل الشاعر ابن اللبانة على ابن عباد فقال له:


وهي قصيدة بديعة أوردها الذهبي ومدحها.
روى الترمذي عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها مرت بقبر أخيها عبد الله الذي دفن في مكة فسلَّمت عليه وقالت: يا عبد الله ما مثلي ومثلك إلا كما قال متمم:


ثم بكت وودعته.
وكان عمر رضي الله عنه يقول لـمتمم بن نويرة : [يا [URL="http://www.mmf-4.com/vb/comments.aspx?id=1000195"]متمِّم ، والذي نفسي بيده لوددت أني شاعر فأرثي أخي زيداً . والله ما هبَّت الصبا من نجد إلا جاءتني بريح زيد ، يا متمم إن زيداً أسلم قبلي وهاجر وقُتِل قبلي، ثم يبكي عمر[/URL]].
يقول متمم :


فهذا أدبٌّ حي لا زلنا الآن بعد خمسة عشر قرناً نعيش معه ونتأثر به ونتوّج به خطبنا وأمسياتنا ونوادينا.
أما شعر الإسمنت ودرجات الحرارة والصيدليات المناوبة! وشعر البطيخ! والكوسَة والأسعار والمحيطات والجغرافيا والعواصم، فإنه يموت سريعاً.
حتى أنك إذا رأيت مطلع قصائدهم قلت: أعوذ بكلمات الله التامَّات من شر ما خلق !!
نُكب بنو الأحمر في الأندلس فجاء الشاعر ابن عيذون يعزيهم في هذه المصيبة فقال:


إلى آخر ما قال، وقد شرحها كثير من الأئمة والعلماء.
فذكَّرهم بالله في آخر القصيدة، وهذا هو الفارق بين الشاعر الملتزم المؤمن والشاعر المجرم المنحرف.
ومن أعظم النكبات في التاريخ: نكبة البرامكة الذين قيلت فيهم قصائد أظنها تربو على العشرين.
أُدخل يحيى بن خالد البرمكي السجن فمكث فيه سبع سنوات لا يرى الشمس، وقُتِل أبناؤه جميعاً.
فدخل عليه أحد الناس فقال: ما هذا؟ أبعد النعيم تكون في هذه الحال؟
قال: دعوة مظلوم سرت في ظلام الليل غفلنا عنها وما غفل الله عنها.
لا إله إلا الله! عرف الحق.
سجن الرشيد أبا العتاهية الشاعر فأرسل له قصيدة يقول فيها:


فبكى وأطلقه ((فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا)).
قيل لـعلي بن أبي طالب : كم بين العرش والتراب؟
قال: دعوة مستجابة.
وينكب المسلمون في فلسطين نكبة دامية ما سمع التاريخ بمثلها، ولا زلنا الآن بعد أربعين سنة نعيش النكبة وسوف تستمر إلى أن يأذن الله بالنصر.
ومعاملات فلسطين في هيئة الأمم لا يحملها ثلاثة حمير!!
يقول نزار قباني وهو مثل البردوني في قبح المنهج لكن ربما نجد الجوهرة في المزبلة!
يقول:


لقد أبدع ولكننا لا نقبله لأنه يعيش بلا مبدأ ولا إيمان ولا يعرف المسجد، فهو زنديق عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، فلذا نمقته ونُشْهد الله على بغضه، ونسأل الله أن ينصفنا ورسالتنا ورسولنا وقرآننا منه.
يقول في مقطوعة أخرى له:


ويقول العشماوي في أطفال الحجارة:


إلى آخر ما قال.
وتُنكب الكويت ويَدخل صدَّام ويتمزق الأطفال وتُسحق الشريعة ويُكفر بالله ويتجمع العالم فيندد به.
فقام كثير من الشعراء الذين زكَّوه بالأمس ومدحوه وأثنوا عليه ونادوه بيا فاتح الدنيا ويا رمز النصر ويا إله الخلود.
وكانت شاعرة مشهورة تناديه بيا إله المجد! وكانت تقول للآخرين:


وكان كثير منهم يبوس كف المجرم، وقد علموا أنه قتل الأكراد أحفاد صلاح الدين وأنه عادى الإِسلام والمسلمين.
فانقلبوا الآن يذمونه وينددون به!
أليس شاعره البعثي هو القائل:


وعلم البعث الذي كانت تمضي به الطوابير يقول:


الآن اكتشفنا أن صدام كان مجرماً؟
حتى يقول شاعر منهم:


كيف نتخذه صديقاً؟
ألم يكن كافراً قبل الغزو؟
أما داس المصحف؟
أما قتل الأبرياء؟
لماذا تذبذبنا في المواقف؟
يقول الشاعر المسلم الآن قالوا: حدودنا هي إقليمنا فقط، وأما غيرها من البلاد فليست لنا.
ونقول: لا.. بل بغداد لنا، بغداد المعتصم و أحمد و المتوكل ، والكويت لنا وطشقند لنا وقرطبة لنا.


ويقول آخر:


وقلت في قصيدة لي أتحدث فيها عن أوضاع الأمة وعن ماضيها:

صوت من الغور أم نور من الغار أم ومضة الفكر أم تاريخ أسرار


يا عيد عمري ويا فخري ويا أملي ويا محبة أعمار وأقطار


تطوي الدياجير مثل الفجر في ألق تروي الفيافي كمثل السلسل الجاري


الشمس والبدر في كفَّيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار


أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبار


فما لقومي بلا وعي قد انتكسوا أصغوا لصيحات عربيد وخمار


ما جاءهم من صلاح الدين موعظة فما انجلت عن سماهم وصمة العار


هم الأسود ولكن في حظائرهم هم الثعالب عند الفاتك الضاري


لهم لموع ولكن لا شموس لهم لهم سلاح ولكن غير بتار


جمع الطوابع من أسمى هوايتهم أعلى مفاخرهم من يوم ذي قار


الشاربون دماء الجيل في دعة الراقصون على ناي وأوتار


الساهرون على كأس وأغنية العاكفون على طبل وقيثار


هل حرَّروا القدس من صهيون أو حضروا يوم الوغى وارتدوا أسياف أحرار


هل طهَّروا المسجد الأقصى وهل طهرت أكفهم ويحهم ليسوا بأطهار


هل أعلنوا الحرب إسلاماً وتضحية هل واصلوا سير سلمان وعمار


تبرأتْ منهم الأجيال وانسحبت جيوشهم وعليها وصمة العار


وطاردتهم جيوش البغي فانحسروا يروون ملحمة للقط والفار


تبكي المنائر منهم كلما هتفوا لأن في يدهم سكين جزار


عروبة ليس للإسلام في دمها نور وليس عليها فطرة الباري


عروبة برئت مَنها جحافلنا ما لم تتوج بإيمان وأذكار


أروي حياة رسول الله أبعثها شذًا تفوح بآمال وأزهار


يخشى إعادتها لص ويحذرها نذل تربَّى على أنغام غدَّار


لأن مجد رسول الله تذكرة على جبين العلا كالكوكب الساري


يغرد المجد في بستان شرعته في هيبة النور لا تغريد أطيار


أصحابه عبروا التاريخ وانتصروا وحدَّثوا طلعة الدنيا بأسرار


في قندهار دماء من عروقهم تكفي طموحاً لمهزوم ومنهار


سل نخل بَيْسان والحمراء ما فعلوا اقرأ مكارمهم يا أيها القاري


ثم اكتفينا بآمال وفلسفة ليل العجائز أو أخبار سمار


فن الهزيمة سهل كم تعلمه جيش الموسيقى بطبلات وأزيار


أبكي وأضحك من أفعال صبوتهم يا ألف صدام بل يا ألف عمار


شادوا الدنانير هالات مزخرفة جَمّاعها لا يساوي ربع دينار


يبيع قيمته بالرخص من سفهٍ والدين ينهار منه في شفاً هار

وهذه الأزمة التي حلّت بـالكويت -أيها الأحبة- تعطينا درساً بليغاً عن تغير الحال وتنقله من عند المولى سبحانه.


((وَضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)).
يقول عبد الله بن المبارك الزاهد العابد الولي أمير المؤمنين في الحديث: لقصيدة عدي بن زيد خير عندي من قصر طاهر بن حسين .
وطاهر بن حسين أمير عباسي كان في الشمال في خراسان له قصر عجيب، لكن هذه القصيدة التي قالها عدي بن زيد والتي ذكرها ابن كثير و ابن خلكان وأثنوا عليها ثناءً حسناً هي أروع من ذاك القصر.
يقول:


عدي بن زيد هذا شاعر جاهلي ما كان يشرب الخمر.
نزل يوماً مع النعمان بن المنذر تحت شجرة فقال: أبيت اللعنة هل تسمح لي بالكلام؟
قال: تكلم.
قال: هل تدري ماذا تقول هذه الشجرة أيها الملك؟
قال: لا أدري.
قال: تقول:


فبكى النعمان ورفع الخمر.
يقول: يا نعمان لا تضيع حياتك في الخمر، فهذه الشجرة تخبرك بأن قبلك ملوكاً سكنوا هنا وجلسوا هنا وضحكوا وشربوا لكن ذهبوا فانتبه.
يقول صاحب كليلة ودمنة : أرسل الأسد الحيوانات تجمع له صيداً.
فذهبت تصطاد فأتت له بغزال وأرنب وظبي.
فقال: من يقسم بيننا؟
فقال الذئب: أنا.
قال: تفضل.
قال: أما الأرنب فللثعلب، وأما الظبي فلي، وأما الغزال فلك.
فغضب الأسد ومدَّ ذراعه فخلع رأس الذئب فإذا هو ميت.
فقال: من يقسم؟ قال الثعلب: أنا.
قال: تفضل.
قال: أما الأرنب ففطورك، وأما الظبي فغداؤك، وأما الغزال فعشاؤك.
قال: أحسنت أصاب الله بك الخير، من علّمك هذه الحكمة؟
قال: رأس الذئب المخلوع!!
ومقصود صاحب كليلة ودمنة أنه يخاطب السادة فيقول: انتبهوا فإن ما حلَّ بجيرانكم سيحل بكم، (إياك أعني واسمعي يا جارة).
يقول ابن القيم : نزل أعرابي على قوم وقد ضاع له بعير فقال: من القوم؟
قالوا: بنو سعد.
فارتحل إلى الوادي الآخر فقال: من القوم؟
قالوا: بنو سعد.
قال: في كل وادٍ بنو سعد.
فصارت مثلاً.
والمعنى أن في كل دارٍ مصيبة.
قال ابن مسعود : [ما امتلأت دار حبرة إلا امتلأت عَبْرة] -أي دموع-.
المقصود أن ننتبه لحالنا، فليس عندنا عهد من الله بعدم العقاب، بل العهد الذي بيننا وبين الله هو أن نطيعه وأن نتولاه وأن ننصر دينه.
أرسل عمر سعداً إلى القادسية فقال: [يا سعد لا يغرنَّك قول الناس أنك خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، إنَّ أحبهم إلى الله أتقاهم له].
((وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ))، فادّعوا ذلك كذباً فقال لهم تعالى: ((قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ)).
ومن الدروس من أزمة الكويت : أن نصلح الأحوال على كافة المستويات.
قال دريد بن الصمة لقومه: أرى ألا تغفلوا هذه الليلة فإن العدو مقبل.
قالوا: لا عدو وإنما هذه توجسات من كبر سنك وتخريفك.
فداهمهم العدو في الصباح واجتاحهم اجتياحاً ما سمع التاريخ بمثله.
فقال:


فالواجب علينا إصلاح الأمور والسير على منهج الله، فإن الله يمهل ولا يُهمل، فلنستعد لأسوأ الاحتمالات.
تقول أم الأندلسي الذي ضيع ملكه:


فأنت الذي ضيَّعت مجدك ومبادئك وخلودك.
ذكر ابن كثير أن معاوية رضي الله عنه حضر صفين .
فخرج علي للمبارزة وتعرفون من هو علي ، فأشهر ما فيه أنه (حيدرة) أي: الأسد، وكان يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدره
كليث غابات كريه المنظره
أكيلكم بالسيف كيل السَّنْدَره (1)
فقال المسلمون لـمعاوية : بارز أنت يا معاوية .
قال: والله لا أستطيع لـعلي .
فقال معاوية : يا عمرو -أي ابن العاص - بارز الرجل.
قال: لا أستطيع.
قال: عزمت عليك أن تبارزه.
فخرج عمرو ، فلما رأى علياً وضع سيفه ودرعه وقال: مكره أخاك لا بطل.
فهو أول من أطلقها.
وبدأت المعركة ففر معاوية ، ولما وقف في الصحراء تذكر أبيات ابن الأطنابة الحجازي التي يقول فيها:


فتذكرها معاوية فعاد إلى الرَّدى وانتصر في آخر المطاف.
والمقصود أن أهل المبادئ يثبتون على مبادئهم.


نعم.. لقد كان الأدب الجميل المؤثر يصنع من الجبان شجاعاً ومن البخيل كريماً ومن المتردِّد مقداماً.
كان المحلق من أبخل العرب، وكان عنده ثمان بنات ما تزوَّجن لأن العرب تعفو عن كل شيء إلا عن البخيل فإنها لا تعفو عنه.
فتشاور مع امرأته في حال بناته.
فقالت: اذهب إلى الأعشى شاعر العرب فاستدعه وضيّفه وأهد له هدية لعله أن يمدحك فيسير مديحه في العرب فيتزوَّجون بناتك.
فذهب واستدعى الأعشى وضيّفه وذبح له ناقة وكساه جلباباً وأعطاه دنانير.
فلما خرج الأعشى وركب الناقة طرب وقال:


فذهبت هذه الأبيات كالسحر وكالماء وكالضياء في التيار حتى بلغت آذان العرب.
فما أتى شهر إلا وقد زوّج المحلّق بناته جميعاً!
وقطري بن الفجاءة أحد الشعراء من الخوارج أراد أن ينهزم ويفر في معركة من المعارك فقال لنفسه يشجعها بالشعر:


عندما انتصر صلاح الدين على الصليبيين وفتح بيت المقدس طلب شمس الدين الحلبي خطبة الجمعة في بيت المقدس .
فلما حان الوقت دخل يوم الجمعة وأذن المؤذن في بيت المقدس فبكى المسلمون جميعاً مما أثاره ذاك الأذان من خلود وذكريات في أذهانهم.
فقام شمس الدين وكان شاعراً فابتدأ بحمد الله وأثنى عليه وذكر النصر ثم قال لـصلاح الدين :


وأنا أذكر لكم قصة مشابهة استطراداً لذكر المكارم والخلود والمبادئ:
دخل ثلة من الشباب على عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الزاهد -رضي الله عنه وأرضاه- مجدد أمر الأمة الإسلامية وحافظ مبادئها في القرن الأول.
فقال للأول: أنت ابن من؟
قال: أنا ابن الأمير الذي كان عند عبد الملك بن مروان على الكوفة .
فسكت عمر بن عبد العزيز وأشاح بوجهه.
فقال للثاني: وأنت ابن من؟
قال: أنا ابن الوزير الذي كان عند الوليد .
فسكت ثم قال للثالث: وأنت ابن من؟ وكان حفيداً لـقتادة بن النعمان الصحابي الذي شارك مع الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة أحد فضُربت عينه بالسيف فنزلت على خدِّه فردَّها المصطفى صلى الله عليه وسلم بيده.
فقال:


فدمعت عينا عمر بن عبد العزيز وقال:


لما أراد الأشتر قتل محمد بن طلحة بن عبيد الله السجّاد العابد قال له: لا تقتلني.
فقال الأشتر : ولمَ لا أقتلك؟
قال: ((أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ الله)).
فسلَّ سيفه وقتله ثم قال:


والأدب أيها الإِخوة يسلُّ السخيمة في النكبات وسوف أجعلها آخر فقرة.
(غضب الرسول صلى الله عليه وسلم على [URL="http://www.mmf-4.com/vb/comments.aspx?id=1000190"]كعب بن زهير غضباً شديداً وهو صلى الله عليه وسلم إذا غضب كان كما قيل:


غضب على كعب بن زهير لأنه هجاه فأهدر دمه في العرب.
فذهب كعب يتقلب في قبائل العرب حتى وصل إلى أبي بكر الصديق فعرض عليه الحال.
فقال: أعندك شيء من الشعر؟
فصنف كعب قصيدة بديعة مليحة وأتى في صلاة الفجر وسلَّم على الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله اسمع مني.
قال: قل.
قال:


فقال صلى الله عليه وسلم: ومن سعاد ؟
قال: زوجتي.
قال: لمَ تبن إذاً[/URL]) (1)
إلى أن قال:


فسلَّ سخيمته. فرقّ قلبه صلى الله عليه وسلم وأعطاه بُردته وأطلق قياده وجعله حرّاً من أمته شاعراً معه بسبب تلك الأبيات الرائدة التي حملت مبدأ وحباً.
وأما النابغة الذبياني عندما غضب عليه النعمان بن المنذر فإنه استعجل القدوم عليه وقال:


يقول الذهبي : كان علي بن موسى الرضا ولي عهد المأمون ، وكان ممدوحاً عند الشعراء وهو من أحفاد علي بن أبي طالب .
مدحه الناس إلا الحسن بن هانئ فاستدعاه علي بن موسى وقال: لماذا هجرتني ولم تمدحني؟
فقال معتذراً:


وفي ختام هذه الرسالة: أرجو التنبيه إلى قضيتين:
أولاً: أننا قد أكثرنا من تمجيد وإطراء وفسح المجال للشعر النبطي وشعر الحداثة في صحفنا ومجلاتنا، وكأنه لم يعد عندنا شعر غير هذا الشعر.
فأما النبطي فأكثره غثاء كغثاء السيل: مدح رخيص، وغزل ساذج، وأبيات ركيكة غير متينة، وخطورة على اللغة العربية في كثرة ترداد هذا النوع من الشعر الرخيص.
وأما أدب الحداثة وشعرها فهو غموض يلف الكلمات، ومقاصد مشبوهة لا تخفى على المتأمل، وكلمات مرصوصة على الأسطر يجيدها كل من يقرأ ويكتب.
فلمَ كل هذا؟
إنني أطالب صحفنا ومجلاتنا والقائمين عليها بأن يفسحوا المجال قليلاً لأدب الأمة.. الأدب الإسلامي وإبراز دوره ونشر نتاج دعاته بدلاً من هذا التعتيم والمحاربة التي هي من المفرقات لوحدة الأمة، ومما يُسبب العداوة بين أبناء المجتمع الواحد.
فهذا نداء خالص أتمناه من هؤلاء القائمين على الصحف والمجلات بأن تتسع صدورهم للمخالف لهم في الرأي.
ثانياً: يجب أن نفرق بين الشعر والنظم، لأن بعض طلبة العلم لدينا يجيدون النظم -لا الشعر- فيغضبون ويتذمرون إذا لم تنشر الصحف شيئاً من نتاجهم بسبب ضعف السبك.
فالشعر شيء، والنظم شيء آخر.
الشعر عاطفة جيّاشة، ومعانٍ رقيقة، وعبارات متماسكة ومنسجمة.
وأما النظم فهو رصف للكلمات دون أن تشعر القارئ بأدنى عاطفة أو أحاسيس روحية، وإنما تطغى عليها الألفاظ والمصطلحات غير الشعرية.
يقول ابن دقيق العيد وهو فقيه شهير:


فهذا قطعة من كتاب فقهي لا شعر عاطفي! وانظر إلى تزاحم الكلمات الفقهية في هذا البيت الوحيد (اختلف، الأصحاب، رجحوا، وهو الصحيح).
ويقول ابن القيم في مقطوعة جميلة ولكن آثار النظم بادية عليها:


فهذه قطعة جميلة ويزيدها جمالاً أنها صادرة من رجل نحبه وهو ابن القيم الإِمام السلفي القدير.
ولكن: هل هناك مقارنة بين هذه المقطوعة وبين شعر المتنبي مثلاً الذي كانت كل كلمة فيه تحمل معنىً بديعاً وعاطفة متأججة؟
لا أظن ذلك!
وإن كان ابن القيم عندنا يفوق مئات من مثل المتنبي أو غيره من الشعراء الذين لا يعيشون إلا لمبادئهم الرخيصة.
فليفهم ذلك.
والله أَعلم، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم.
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
رد: الشعر في زمن النكبة للشيخ عائض القرني

يرفع للفائدة والاطلاع.
 

انبثاق

:: مخضرم ::
إنضم
5 يونيو 2010
المشاركات
1,228
التخصص
الدراسات الإسلامية..
المدينة
بريدة
المذهب الفقهي
حنبلي
رد: الشعر في زمن النكبة للشيخ عائض القرني

شكرا لمن نقل ولمن كتب.
 
أعلى