...
أ- المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الحَنَفِيَّةِ (مِنْ كِتَابِ الطَهَارَةِ)
...
***
ثانيًا/ مَسْأَلَةُ المَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ وَالخِمَارِ
(1) حّدثنا أَبُو مُعَاويَةَ عن الأَعمَشِ عن الحَكَمِ عَن عَبدِالرَّحمنِ بْنِ أَبي لَيلَى عن كَعبِ بن عُجْرَةَ عن بِلاَلٍ: أنَّ رسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَسَحَ علَى الخُفَّيْنِ والخِمَارِ. أخرجه مُسلم (275) -والخِمار: هو العمامة، سُميت بذلك؛ لأنها تخمر الرأي أي تغطيه-.
(2) حدَّثنا يُونُسُ عن دَاوُدَ بن أبي الفُرَاتِ عن مُحمَّدِ بْنِ زيدٍ عن أضبي شُرَيْحٍ عن أَبي مُسْلِمٍ مَولَى زَيدِ بن صُوحَانَ قال: كُنت مَع سَلْمَانَ فَرَأَى رَجُلًا يَنْزَعُ خُفَّيْهِ للوُضُوءِ فقال لَهُ سَلمانُ: امْسَحْ عَلى خُفَّيكَ وعَلى خِمَارِكَ وامسَحْ بنَاصِي؟َتكَ، فإِنِّي رَأَيتُ رسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَمسَحُ على الخُفَّيْنِ والخِمَارِ. أخرجه ابن ماجه (563).
(3) حدَّثنَا يَزِيدُ التَّيمِيُّ عَنْ بَكْرٍ عن ابنِ المُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ عن أَبِيهِ عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أنَّهُ مَسَحَ مُقَدَّمَ رَأَسِهِ وَعَلَى الخُفَّينِ، وَوَضَعَ يَدَهُ على العِمَامةِ ومَسَحَ على العِمَامَةِ. أخرجه مُسلم (274).
وذُكِرَ أنَّ أبا حنيفةَ قال: لا يُجْزِئُ المَسْحُ عَلَيْهِمَا.
***
اتفق جمهور الفقهاء -الحنفية والمالكية والشافعية- على أن المسح على العمامة لا يُجزئ في الوضوء. ولهم في ذلك تفصيلات، فقالت المالكية: يجوز المسح على العمامة إن خِيفَ ضرر بسبب نزعها من الرأس، وإن قدر على مسح بعض رأسه مباشرة مسحه وكمل على عمامته وجوبًا. وقالت الحنفية والشافعية: إن جمع بين المسح على الناصية والعمامة أجزأه. وذهب الحنابلة والظاهرية: إلى جواز المسح على العمامة.
قال صاحب الهداية: ولا يجوز المسح على العمامة والقَلَنْسُوَةِ والبُرْقُعِ والقُفَّازَيْنِ؛ لأنه لا حرج في نزع هذه الأشياء، والرخصة لدفع الحرج. اهـ. راجع: الهداية وشروحها: فتح القدير (1/ 157)، والعناية (1/ 157)، ونصب الراية (1/ 237).
وقال أبو بكر الجصّاص في أحكام القرآن (2/ 495): واختلف في المسح على العمامة، فقال أصحابنا ومالك والحسن وصالح والشافعي: لا يجوز المسح على العمامة ولا على الخمار. وقال الثوري والأوزاعي: يمسح على العمامة.. وقد بينَّا في حديث المغيرة بن شعبة أنه مسح على ناصيته وعمامته فأخبر أنه فعل المفروض في مسح الناصية ومسح على العمامة، وذلك عندنا جائز. اهـ.
ولم يأخذ الحنفية بأحاديث المسح على العمامة لأمرين:
الأول: أنها أخبار آحاد وردت بأمر يُقيد مطلق الكتاب، وهو لا يجوز عندهم، وهو ما يسمونه بالنسخ بالزيادة.
وبيان ذلك أن قوله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ) [المائدة: 6] يقتضي بإطلاقه عدم مسح غير الرأس، وقد جاءت أحاديث المسح على العمامة فقيدت هذا الإطلاق بجواز ذلك، وهو ما يعتبرونه نسخًا، ولا يجوز النسخ إلا بالمتواتر أو المشهور.
الثاني: أنها أخبار آحاد وردت في أمر عمّت به البلوى فلا تُقبل، فإن أمر الوضوء يحتاج إلى معرفته عموم الناس، فإذا ورد بطريق آحاد لا يُقبل، وهذا من قواعدهم في قبول الأخبار أيضًا.
يقول صاحب العناية: والتمسك بالحديث الضعيف؛ لأن قوله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ) [المائدة: 6] يقتضي عدم جواز مسح غير الرأس، والعمل بالحديث يكون زيادة عليه بخبر الواحد وهو نسخ فلا يجوز. اهـ. انظر: العناية شرح الهداية (1/ 751).
ويقول أبو بكر الجصَّاص في احكام القرآن (2/ 495): إن الآثار متواترة في مسح الرأس، فلو كان المسح على العمامة جائزًا لورد النقل به متواترًا في وزن وروده في المسح على الخفين، فلما لم يثبت عنه مسح العمامة من جهة التواتر لم يجز المسح عليها من وجهين: أحدهما: أن الآية تقتضي مسح الرأس، فغير جائز العدول عنه إلا بخبر يوجب العلم. والثاني: عموم الحاجة إليه فلا يقبل في مثله إلا المتواتر من الأخبار. اهـ. وراجع: المبسوط (1/ 101).
وقال أبو الوليد الباجي في المنتقى (1/ 76) شارحًا ما رواه مالك -في موطّأه (69)، والترمذي (102)-: أن جابر بن عبدالله سُئِلَ عن المسح على العمامة فقال: لا، حتى تمسح الشعر بالماء. قال: يقتضي أن المسح على العمامة لا يجزي وبه قال جمهور العلماء. وقال أحمد وداود: يجزي المسح على عمائم العرب. اهـ. وراجع: المدونة (1/ 124).
وقال في حاشية الدسوقي شارحًا قوله في مختصر خليل: "إن خيف غسل جرح كالتيمم مسح.. وعمامة خيف بنزعها" ضرر، ولو أمكنه مسح بعض الرأس أتى به وكمل على العمامة وجوبًا. اهـ. وراجع: مختصر خليل وشروحه: حاشية الدسوقي (1/ 164)، ومواهب الجليل (1/ 207)، ومنح الجليل (1/ 162)، وشرح الخرشي (1/ 201).
قال النووي في المجموع (1/ 438): قال أصحابنها: إذا كان عليه عمامة ولم يرد نزعها لعُذر ولغير عذر مسح الناصية كلها، ويُستحب أن يتم المسح على العمامة سواء لبسها على طهارة أو حدث. وأما إذا اقتصر على العمامة ولم يمسح شيئًا من رأسه فلا يُجزيه بلا خلاف عندنا. اهـ. وراجع: الأم (1/ 41).
وقال ابن قدامة في المُغني (1/ 184): ويجوز المسح على العمامة. اهـ.
قال أبو مُحمد ابن حزم في المُحلى (1/ 303): وكل ما لُبس على الرأي من عمامة أو خمار أو قلنسوة أو بيضة أو مغفر أو غير ذلك: أجزأ المسح عليها، المرأة والرجل سواء في ذلك، لعلة أو غير علة. اهـ.
واستدل الجمهور على عدم جواز المسح على العمامة بما يلي:
1- قوله تعالى: (وَاْمْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ) [المائدة: 6] وحقيقته تقتضي إمساسه الماء ومُباشرته، وماسح العمامة غير ماسح برأسه فلا تجزيه صلاته إذا صلى به، وقد سبق وجه الاستدلال الحنفية بهذه الآية.
2- وبأن الرأس عضو طهارته المسح، فلم يجُز المسح على حائل دونه كالوجه واليد في التيمم فإنه مجمع عليه.
3- وبأن الرأس عضو لا تحلق المشقة في إيصال الماء إليه غالبًا، فلم يجُز المسح على حائل منفصل عنه كاليد في القفاز والوجه في البرقع والنقاب.
4- وبأن أحاديث المسح على العمامة وقع فيها اختصار، والمراد مسح الناصية والعمامة ليكمل سنة الاستيعاب لجميع الرأس، يدل على صحة هذا التأويل أنه صرّح به في حديث المغيرة بن شعبة عند مسلم: ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين. وفي رواية: مسح على الخفين ومقدم رأسه وعلى عمامته -وقد سبق تخريجه أول المسألة-.
وروى أبو داود -في سننه (147)- عن أنس قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قِطْرِيَّةٌ، فأدخل يده تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة.
وهذا التأويل المتعيين؛ لأن وجوب مسح الرأس ثبت بالقرآن، وجاءت الأحاديث الصحيحة بمسح الناصية مع العمامة، وفي بعضها مسح العمامة ولم تذكر الناصية، فكان محتملًا لموافقة الأحاديث الباقية، ومحتملًا لمخالفتها، فكان حملها على الاتفاق وموافقة القرآن أَوْلَى.
واستدل الحنابلة والظاهري بالأحاديث الصحيحة في المسح على العمامة؛ ومنها:
1- حديثُ بلال وسلمان والمغيرة المذكورة في أول المسألة؛ ومنها: ما رواه البُخاري (205) عن عمرو بن أُمية قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه.
2- وبأن العمامة حائل في محل ورد الشرع بمسحه فجاز المسح عليه كالخفين.
3- وبأن الرأس عضو يسقط فرضه في التيمم فجاز المسح على حائله كالقدمين.
4- وبأن الآية لا تنفي المسح على الحائل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مُفسر له، وقد مسح النبي صلى الله عليه وسلم على العمامة وأمر بالمسح عليها، وهذا يدل على أن المراد بالآية المسح على الرأي أو حائله. ومما يُبين ذلك: أن المسح في الغالب لا يصيب الرأس، وإنما يمسح على الشعر وهو حائل بين اليد وبينه فكذلك العمامة، فإنه يُقال لمن لمس عمامته أو قبلها: قبل رأسه ولمسه.
5- أن الأحاديث التي جمعت بين المسح على الناصية والعمامة تُحمل على تعدد الوضوء؛ فأحاديث المسح على العمامة لا تحكي وضوءًا واحدًا.
6- وأجاب ابن القيم على استدلال الحنفية فقال في إعلام الموقعين (2/ 231): إنكم رددتم السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح على العمامة، وقلتم: إنها زائدة على نص الكتاب، فتكون ناسخة له فلا تُقبل، ثم ناقضتم فأخذتم بأحاديث المسح على الخفين وهي زائدة على القرآن، ولا فرق بينهما، واعتذرتم بالفرق بأن أحاديث المسح على الخفين متواترة بخلاف المسح على العمامة، وهو اعتذار فاسد، فإن من له اطلاع على الحديث لا يشك في شهر كل منها وتعدد طرقها واختلاف مخارجها وثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا. اهـ.
وهكذا رأينا أن أحاديث المسح على العمامة لا تثبت عند الحنفية على وفق ما قرروه من قواعد في قبول الأخبار وردها، أضف أنهم لم ينفردوا فيما ذهبوا إليه من عدم جواز المسح على العمامة؛ بل وافقهم جمهور العلماء؛ ومن ثم فإن ما قاله ابن أبي شيبة من مُخالفة أبي حنيفة للأثر أمر غير مقبول، فإن أبا حنيفة جمع بين الأدلة ولم يُخالفها.
وهذه المسألة يظهر فيها بوضوح الفرق بين نظر الفقهاء الذي يلحظ الأدلة الشرعية الأخرى ويوفق بينها عند التعارض، وبين نظر المحدثين الذي يعملون بظواهر النصوص ويرمون من خالفهم بمخالفة السنة (الكلام منقول! ).
***
...
وجزاكم الله خيرًا جميعًا.
والله أعلم.