العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

سيطرة الآلة الإعلامية في صناعة فكر الإسلاميين

إنضم
14 نوفمبر 2009
المشاركات
350
التخصص
الفقه والأصول والبحث القرآني
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
الحنفي
إذا دخل اثنان من المتخاصمين على قاض ليحكم بينهم، فقال القاضي لأحدهما معنّفا: قل ما عندك أيها المذنب. فماذا نصف ذلك الفعل من القاضي؟ نصفه بأنه إن لم يكن حكما نهائيا على أحد المتخاصمين، فهو - على أقل تقدير - إشارة إلى ما سيحكم به، وإلى ما سيخرج به من نتيجة حكمية.

هكذا كان الأمر حينما دعاني أحد أصحابنا إلى مشاهدة حلقة من برنامج (الإسلاميون) الذي تعده وتذيعه قناة الجزيرة الفضائية. وكانت الحلقة حول شهيد القرآن سيد قطب رحمه الله.

كانت الحلقة بعنوان (انتقام المفكر) .. ثم كان أول مشهد هو عنوان الحلقة في أسفل الشاشة، ومقطع من دخول الطائرة في برج من البرجين الأمريكيين فيما يعرف بأحداث سبتمبر. هذا هو أول ما تقع عليه عين المشاهد بعد تجاوز مقدمة البرنامج (التتر).. وهكذا نستطيع أن نتعرف على الخط الذي تسلكه الحلقة، من اللحظات الأولى للبرنامج، وحتى قبل أن ينطق معلق البرنامج. وما يأتي في البرنامج من أقوال المستضافين خلاف ذلك فهو محاولات دفاع، لا تغير الخط الذي انتهجه البرنامج من حيث تأثيره على المشاهد، لأن الذي يعرض ذلك القول المخالف أو المدافع هو البرنامج نفسه، فهو أدرى بالصواب في المعيار الثقافي للمشاهد المتلقي. وربما يقول البعض إن البرنامج يورد كافة الآراء. أقول: نعم، ولكن البرنامج لا يفعل ذلك بصورة مجردة، بل يضيف رايه ويحدد بنفسه مسار الفكر للمشاهد من خلال تنسيقه للمادة، ومن خلال تعليق مقدم البرنامج، بل وتقديمه للمادة وللمحاور، بحيث تأتي كلمات المفكرين في السياق الذي أعده وجهزه البرنامج، فتكون خادمة له، لا أنها تبث على الناس ابتداء. وهكذا، وحينما شاهدت أو مشهد من الحلقة، أصابتني لحظة من شعور بالرتابة، وأنني ساستمع إلى ما نعتاد سماعه تجاه سيد قطب، من أنه رجل عنف، ويكفر المجتمعات.. إلخ، فيكون حفظ الوقت اولى. إلا أني أصررت على متابعة وتحليل الحلقة مدفوعا في ذلك برغبة صديقي في مشاهدتها، فلعلها تحوي جديدا. وكانت النتيجة بعد المشاهدة هي التوقع الذي ورد في أول لحظات المشاهدة. ثم وجدت حلقات أخرى حول الحركات الإسلامية، كحركة أبي الأعلى المودودي، وحركة الإخوان المسلمين، وحزب التحرير، ونهوض الإسلاميين في العصر، وثورة الفقيه في اليمن.. إلخ.

إن المشكلة لو كانت هي إضاعة الوقت في مشاهدة أمور تخالف الحقائق لكانت أهون من المشكلة الواقعية. فالمشكلة الواقعية هي أن هذا البرنامج - بآرائه التي تعبر عن توجهه الذاتي - تعد مصدرا لتكوين الفكرة حول هذه الحركات الإسلامية، حتى لدى الإسلاميين الذين يتفاوتون في بعدهم عن المركز الفكري والقيادي لتلك الحركات. فمن لا يعرف الإخوان المسلمين، ومن لا يعرف عن الجماعة الإسلامية التي أسسها المودودي، ومن لا يعرف عن التوجه الدعوي لسيد قطب.. من لا يعرف شيئا حول تلك الحركات والدعوات فإن البرنامج يكون مصدرا لمعلوماته شاء أم أبى. ولا يمكن أن يقال هنا: إن الشخص يستمع إلى المعلومات دون تثبيتها، فهو يسمع ليعرف وجهة نظر البعض. لا يمكن أن يقال هذا؛ لأنه يخالف الطبيعة التكوينية للعقل، فمن طبيعة العقل البشري أنه لو كان فارغا تجاه جانب من الجوانب، فإنه يميل إلى اكتساب المعلومات حول هذا الجانب، ولو بلا تصفية وتحقيق. وهذا يفسر لنا خطورة مرحلة الطفولة في التربية؛ حيث يميل الطفل بقوة إلى اكتساب الأفكار والمعلومات بلا تمحيص، وبلا معرفة للصواب والخطأ، وهذا ما يعرف بالتنشئة، أي أن الموجهين هم الذين ينشئون الطفل، ولا دخل للطفل هنا بما ينشأ عليه، فوظيفته هي التلقي لملء الفراغ. وهذا هو ما تفعله الآلة الإعلامية لملء الفراغ المعلوماتي عند الناس من خلال ما تريد هي أن تملأ به هذا الفراغ.

وأنا - الذي أكتب هذا الكلام - استمعت بشغف إلى الحلقات التي تقدم فكرا أو حركة تقل معلوماتي عنها أو تنعدم، ثم توقف فجأة وقلت: إنني حينما استمعت للحلقة حول سيد قطب كشفت عن زيف ما فيها بسهولة، وعرفت تدني مستواها التحقيقي، ولم تؤثر في الحلقة ولم تضف جديدا، بل كنت أراها ركيكة سمجة.. لماذا؟ لأني أعرف جيدا عن كتابات سيد قطب، واعرف جيدا ما كانت عليه دعوته، فالحلقة لم تصادف فراغا عندي.. ولكن الوضع مختلف مع الحلقات الأخرى! فأتابعها بشغف، وأعرف المزيد منها حول تلك الحركات والجماعات. فقلت في نفسي: ولماذا لا تكون كالحلقة حول سيد قطب؟ ومن أدراني بمصداقية تلك المادة.. إن كل سبب هذا الاختلاف في الشعور هو أنني حينما استمعت إلى حلقة قطب كنت على حصيلة قوية بالرجل ودعوته، بينما تقل معرفتي وتنعدم في محاور الحلقات الأخرى.. فها أنا أتلقى من الآلة الإعلامية كعوام المساكين الذين يعدون فريسة سهلة لتلك الآلة الإعلامية، وأرضا خصبة لزراعة المعلومات.

نعم.. إنك لو سألتني الآن مثلا عن الجماعة الإسلامية في باكستان، ربما ذكرت لك معلومات كان مصدرها هو هذا البرنامج!!

إن خطر تلك الآلة الإعلامية لم يقتصر - كما كان في الماضي - على كونه أداة لتشكيل أفكار الناس؛ بل تعدى الحد ليكون أداة لتشكيل أفكار الإسلاميين!! الذين يفترض منهم أن يقوموا هم بدعوة الإسلام. فإذا كانت حشود الحركات الإسلامية الآن - بعد اتساعها وقصور آلتها الإعلامية وأدبياتها التربوية الخاصة نسبة إلى ما كانت عليه في مطلعها - تتلقى معلوماتها حول الحركات الإسلامية النظيرة من آلات إعلامية غير إسلامية، فكيف نتصور إحداث التفاعل والتكامل الأدائي بين هذه الحركات الإسلامية؟ وكيف يمكن أن تستفيد الجماهير التابعة في تلك الحركات من الدعاة والعلماء في الحركات النظيرة؟

إن السبيل الوحيد إلى الخلاص من تلك الإشكالية هي أن يعود الأمر إلى سبيله الأول، فتتولى الجماعة أو الحركة مسؤولية تنشئة أبنائها، فتبدأ معهم بتأسيس عقيدتهم وتصحيحها - لأن تلك هي دعوة الإسلام الأولى بديهة، والتي تتفرع عنها كافة أركان البناء الإسلامي بعد - وتعمل على تربيتهم الفكرية والروحية، من خلال آلتها الإعلامي الخاصة. ولا يجوز لها في هذا المقام أن تنشغل عن أفرادها وحشودها بحجج القضايا الأولية والأولويات الحركية.. سياسية كانت أو فكرية أو حتى علمية..إلخ، طالما ثبتت في ذمة الحركة أو الجماعة مسؤولية تنشئة وتربية مجموعة من التابعين.

والله تعالى المستعان.
 
أعلى