اتصل بي أحد الناس يوماً وقال :أنت فلان؟ ..ثم عرف بنفسه, وقال إن فلانا أعطاه هاتفي,وأن عنده بعض الاسئلة في الدين! فقلت له ولم لا تسأل أهل العلم؟ قال :إنهم حين أشرع في طرح أسئلتي يتهمونني بالإلحاد! وبعضهم يستعيذ مني ويشيح بوجهه عني..فعلمت أن وراءه قصة وأنه قرأ في كتب الفلاسفة وصاحب بعض الملحدين فلحسوا عقله وطمسوا قلبه ..المهم أني وجدتني مدفوعا لإجابته..رجاء أن أكون سببا في رده من انحرافه الفكري , وقد انتقيت من أسئلته التي أمطرني بها..هذا السؤال:-
قال:في قصة الاسراء والمعراج فرض الله خمسين صلاة ثم كان موسى سببا في التخفيف حتى بلغت خمس صلوات..وهذا يقتضي أن موسى أكرم من الله وأرحم من الله..إلخ..فكيف ذلك؟!
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اقتفاه..
اللهم اهدنا وسددنا..ويسر الهدى لنا
اعلم هداني الله وإياك أن عليك العناية بمنطوق السؤال بحيث لا يتضمن تقريراً لجمل خبرية مشتملة على الكفر و"رب كلمة يقولها قائلها من سخط الله لا يلقي لها بالا فتلقي به في النار سبعين خريفا"
فتقول مثلا : كيف نرد على من يزعم أن هذا كذا وكذا...أو..إلخ
ثم اعلم أن مقياسك للكرم الرباني ورحمة الله غلط يا أخي..لتضمنه قياس الخالق على المخلوق..والله يقول "ليس كمثله شيء" ويقول "هل تعلم له سميا"
فالله عز وجل شاء بحكمته أن يُظهر أخوة موسى وحبه لنبينا وأمته....وهو سبحانه من خلق الرحمة في قلب موسى وقلبك وقلوب الناس ففي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله مئة رحمة فوضع واحدة بين خلقه وخبأ عنده مئة إلا واحدة) ,ولا يلزم من فرض الله الأول..خمسين صلاة أن يكون تخفيف موسى عليه السلام قاضيا بكونه أرحم..
ومنشأ الخطأ عندك كما أسلفت قياسك الباري على البرية
فهذا قياس فاسد ظاهر الفساد عند كل من له أدنى نصيب من العقل..فأنت لا تعلم كنه رحمة الله عز وجل ولا تحيط علما بما يندرج تحتها من معان وكذلك عدله..وبقية صفاته..
واعتبر هذا المثال حتى تفهم المقال :هذا شخص سرق ثلاثة دراهم..أنت بعقلك وقلبك ربما لا ترى أنه يستحق أكثر من توبيخ أو سجن يوم..لكن الله حكم بقطع يده! إذا تحققت الشروط..وهذا مثال توضيحي لتدرك الفرق بين صفاتنا وصفات الله عز وجل..وتأمل إن شئت قول النبي صلى الله عليه وسلم "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" وطبعي وطبعك وعامة البشر, النفور من رائحة الخلوف هذه
ولكني أنبه إلى أن العقول قاصرة عن إدراك هذه المعاني الدقيقة المتعلقة بذات الله عز وجل..فلأجل ذلك قال الله"ولا تقف ما ليس لك به علم" فأرشد العقل إلى معالم حدوده التي يجول فيها دون تخبط وهو من رحمته بالخلق تقدس اسمه ,ولهذا قال مالك:الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة
يقول الله عز وجل"ليس كمثله شيء"..فكل ما تتصوره عن حقيقة رحمته..أو أي صفة من صفاته..فالله بخلافه..
لكن إن عرفت الله وامتلأ قلبك بحبه..جعلت أنوار التوحيد تكشف لك من الحقائق ما تطمئن به نفسك وتقر به عينك
ولهذا لما كان موسى عليه الصلاة والسلام أعرف بصفات الله وحقيقة كرمه منك..لم يجد حرجاً في توجيه النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه التخفيف ونبي الله محمد الذي هو أعظم الناس معرفة بالله وأكل البشر توحيداً لم يجد في السؤال ما يخدش الأدب مع الله عز وجل
ولو خطر له المعنى الذي تقوله..لما تجاسر أن يطلب من الله..وإلا كان نقصا في كمال إيمانه..
ثم إن الله تعالى ليس رحيما فحسب..إنه جل وعلا متصف بما لا حد له من الصفات الكمالية,وقد لا تفهم اندماجها وتداخلها وآثارها في الخلق..فتنظر من زاوية واحدة..مهملا الحِكم الأخرى والمعاني الأخرى,ثم كون الله رب العالمين أذن لعبد من عباده أن يراجعه في هذا..فهذا يكفي في بيان عظم رحمته....وأما لماذا لا يبدأ هو سبحانه بالتسهيل..فهذا شروع في سؤال الله عما يخص أسرار أفعاله وهو القائل "لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون"..فهذه الآية قاعدة عريضة..عليك أن تفزع إليها في فهم كثير من القضايا المتعلقة بالله عز وجل,
ومع هذا أقول كتفسير يسير لا يحيط بجوانب القضية :تفاعلت صفة الرحمة مع صفة الحكمة..فأنتجت هذا الذي أنكرته!
وذلك أن من حكمة الله ومقاصده أن يعلّمنا سؤاله وأنت تعلم أن سؤاله من أجناس العبادات ,كما تعلم أنه سبحانه يحب لعبده أن يدعوه في حين يغضب المخلوق مهما بلغ به الكرم من كثرة السؤال, وهذا وحده أحد تجليات رحمته بخلقه
ومن مقاصده في هذا الحديث الجليل أن يبين جلالة قدر الكليم فيكون أتباع النبي محمد أولى بموسى من المنسوبين إليه
من كفار أهل الكتاب فيكون هذا حجة عليهم..في بيان معنى أن الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى وأبوهم واحد
وأما قولك كيف يعرف عن أمة محمد مالا يعرفه رسول الله..فلا يلزم..إذ الحديث ليس فيه هذا الاستنتاج..
فقد يكون النبي ظهر له هذا المعنى لكنه استحيى أن يسأل الله في هذا المقام المهيب وقد يستحي العبد أحيانا من دعاء الله..وقد يكون علم موسى من جهة أنه قاس على بني إسرائيل وتعنتهم فأعطى النبيَ
حاصل خبرته في الأمر,وقد يكون أطلعه الله سبحانه بوحي منه..إلخ, والحاصل أنه ما قلته ليس بلازم لا عقلا ولاشرعاً
وفي الحديث إشارة عظيمة أن الأنبياء دينهم واحد..وأن الأنبياة إخوة....أي عقيدتهم واحدة وإن تباينت شرائعهم ..وهب أن موسى يعلم هذا عن أمة محمد..ولم يعلمه رسول الله بعد...فلا إشكال , قال تعالى عن نبيه محمد "ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان" ولعلك تعلم أن موسى تعلم من الخضر..مع كون موسى أفضل منه وأجل بالاتفاق
شرح الله صدرك بالإيمان وملأ قلبك بفيوضات التوحيد
والسلام عليكم