العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مع الامام الفقيه الطرطوشي المالكي في كتبه

إنضم
10 يونيو 2009
المشاركات
395
التخصص
فقه واصوله
المدينة
قرطبة الغراء
المذهب الفقهي
المالكي -اهل المدينة-
مع الطرطوشي في كتبه 1-2

د محمد بن سعد الشويعر

منقول

أبو بكر محمد بن الوليد الفهري، المعروف بالطرطوشي، عالم أندلسيّ مالكيّ ولد في طرطوشة ببلاد الأندلس سنة 451ه أيام غزو الصليبيين للأندلس، ولديار الشام، حيث عاصر أحداثاً أثّرت في نفسيته، فقد سقطت في أيديهم طليطلة عام 478ه، ثم سقطت صقلية عام 484ه، عندما كان هذا العالم يتنقل في بلاد الشام لطلب العلم، وزاد الأمر أثراً في نفسه سقوط القدس في أيديهم عام 492ه، وهو تاريخ بدء إقامته في الاسكندرية، وفي اثناء إقامته في الثغر المصري: الاسكندرية، كان يشعر بأنه مجاهد مرابط حيث نقل المحقق لبعض كتبه عبد المجيد تركي، والتي عنيت بنشرها دار الغرب الاسلامي في بيروت،، ما نقله عنه ابن فرحون، في كتابه الديباج وهو قوله: إن سألني الله تعالى عن المقام في الإسكندرية، لما كانت عليه في أيام الشيعة العبيديّة، من ترك إقامة الجمعة، ومن غير ذلك من المناكر التي كانت في أيامهم، أقول له: وجدت قوماً ضلالاً، فكنت سبب هدايتهم

ذلك أن العبيديين ويعرفون بالفاطميين فتحوا مصر على يد قائدهم جوهر الصقليّ عام 359ه، وانتقل إليها من المهدية بشمال أفريقيا المعز لدين الله عام ،360ه، حيث اختط القاهرة، التي سماها المقريزي في تاريخه: قاهرة المعز لدين الله، ثم بنى الأزهر بقصد تعليم ونشر مذهبهم، وبنى معه مسجده وقصره بالقرب منه، ثم جعلها عاصمة لدولتهم

والعبيديون هم أول من أنشأ وشجع الأضرحة بمصر والمشاهد: كالحسين والسيدة زينب وغيرها، فمعاصرة الطرطوشي للفاطميين في مصر،وتألّمه لقوة الصليبيين في بلاده الأندلس، وفي بلاد الشام انعكس على آثاره العلمية، وما ألّف من كتب، وتنقّله في البلاد حتى استقر بمصر في مدينة الاسكندرية

يقول الزركلي: الطرطوشي يعرف بابن أبي رندقة: أديب من فقهاء المالكية الحفّاظ من أهل طرطوشة بشرق الأندلس تفقه ببلاده، ورحل الى المشرق عام ،476ه فحج وزار العراق ومصر، وفلسطين ولبنان، وأقام مدة بالشام، وسكن الاسكندرية، فتولّى التدريس واستمر فيها إلى أن توفي عام 520ه، وكان زاهداً لم يتشبث من الدنيا بشيء، من كتبه: ·سراج الملوك ، و ·التعليقة في الخلافيات خمسة أجزاء، وكتاب كبير عارض فيه إحياء علوم الدين للغزالي، وبرّ الوالدين والفترة، والحوادث والبدع، قال عنه إنه مخطوط، ولكنه طبع في دار الغرب الإسلامي في بيروت، وقد كتبنا عنه حديثاً على صفحات الجزيرة، ومختصر تفسير الثعلبي ]الأعلام: 7:359[

: وقد ترجم له ابن خلكان في وفيات الأعيان، وذكر من شعره قوله

إذا كنت في حاجة مرسلاً

وأنت بإنجازها مغرم

فأرسل باكمه خلّابة

به صمم أغطش أبكم

ودع عنك كل رسول سوى

رسول يقال له الدرهم



الوفيات 4: 263

والكتاب الذي بين أيدينا، وصدر حديثاً من دار الغرب الإسلامي في بيروت عام 1997م، ولم يذكره الزركلي ولا ابن خلكان، ولا الصفدي في الوافي بالوفيات، ولعل له غيره من الكتب لم تعرف بعد

ذلك الكتاب الذي يجمع بين دفتيه موضوعين: رسالة في تحريم الجبن الروميّ، وكتاب تحريم الغناء والسماع، الذي خرج في فهارسه والتعليقات بمجلد واحد حوى 390 صفحة ينبىء عن صدقه واخلاصه في الجمع والفتوى، والتثبّت والصراحة، كما يتضح من ايراد بعض أقواله واستفاداته

يقول عنه الصفدي: انه دخل يوماً على الأفضل ابن أمير الجيوش، وكان يكرهه لاختلاف العقيدة بينهما لأن الأفضل على عقيدة العبيديين، فبسط له الأفضل مئزرا كان معه تحته وجلس عليه، وكان إلى جانب الأفضل رجل نصرانيّ فوعظ الطرطوشي الأفضل حتى بكى ثم أنشد:

يا ذا الذي طاعته قربةٌ

وحقّه مفترض واجب

إن الذي شُرِّفتَ من أجله

يزعم هذا أنه كاذب

وأشار الى النصراني فأقامه الأفضل وكان الأفضل قد أنزل الطرطوشي في مسجد شقيق الملك بالقرب من الرّصد، وكان يكرهه، فلما طال مقامه به، ضجر وقال لخادمه: إلى متى الصبر؟ اجمع لي المباح فجمعه فصار هو طعامه ثلاثة ايام، فلما كان عند صلاةالمغرب، دعا على الأفضل، وقال لخادمه: رميته الساعة فلما كان من الغد ركب الأفضل فقتل، وولي بعده المأمون البطائمي فأكرم الشيخ اكراماً كثيراً ]الوافي بالوفيات 5:175[

وحديث اليوم سنقتصر فيه على رسالته في تحريم الجبن الرومي: حيث ذكر في أولها الدافع إلى تأليفها فقال: اعلموا أرشدكم الله تعالى، أن جماعة من المسلمين كلأهم الله برعايته ممن يهمه أمر دينه، ويحترز لمعاده، سألني أن أوضح أمر الجبن الذي يحمله الروم في السفن الى الإسكندرية، وهل هو محرم أو مكروه، أو مباح، ونحن نأتي على إيضاح أمره نقلاً وحجاجاً بعون الله وقوته، ولا يتضح القول فيه إلا بتفصيل صوره، ونرسم له ثلاث صور تصور حالات ثلاث من الإباحة الى التحريم هي:

1- أن تكون الأنافح قال ابن منظور في لسان العرب: إنفحة الجدي: شيء يخرج من بطن الحيوان هذا وهو أصفر فيعصر في صوفة مبتلّة في اللّبن، فيغلظ كالجبن والجمع أنافح التي عقدت بها قد ذكي حيوانها على شرائط الاسلام، ذبحاً في الحلق واللّبّة، ثم عُقِد في آنية جديدة لم يمسها الخمر ولا لحوم الخنازير، ولا اللحوم غير المذكّاة، فإذا استيقنت هذه الصورة، فهو طاهر يجوز أكله وبيعه وشراؤه، وهو داخل في قوله تعالى: ·وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم المائدة 5، لأن المراد بالطاهر ما استوفى الكتابيّ في تذكيته شروط الإسلام، وعلى هذه الصورة يحمل قول كل من أباحه من السلف الصالح

2- أن يعقد بأنافح حيوان غير مذكّى، إما ميتة أو عقرت في غير الحلق واللّبة، أو ذبحها بموسيّ، وأنافح الحلاليف وهي الخنازير البرّية ثم سلمت من سائر النجاسات، ففي هذه الصورة اختلف العلماء فقال مالك والشافعي لا يجوز أكله، وقال أبو حنيفة: يؤكل إلا ما عقد بأنافح الخنزير

3- الجبن الذي يحمله الروم في السفن إلى الاسكندرية وما والاها، وصفته ما قد حكى لنا غير واحد من المسلمين، وذلك أني كنت شديد العناية والبحث في أمره، فبينا أنا ذات يوم أتكلم فيه مع أصحابنا، إذ دخل علينا رجل يسمّى ابن اسكندر فقال: لا تسألوا عنه غيري، إني كنت أول رجل يدخل سفن الروم، عند نزولها بالساحل، وأنقل أخبار الروم إلى الأمير أفتكين والي الاسكندرية، فأجد السفن قد عُبِّي فيها الجبن، ولحوم الخنازير، مكسوّ بعضها على بعض، ومنه ما يكون الجبن بعضه، على بعض ثم يجعل عليه لحوم الخنازير ثم بدأ رحمه الله يسوق وقائع ومشاهدات لتصبح قرائن في الفتوى فقال: ثم سألت جماعة من التراجمة، الذين يخالطونهم، ويدخلون الى سفنهم فكلهم أخبروني مثل ذلك وأخبرني رجل له عقل ودين، وثبت في الأمور، قال لي: ألقى البحر سفينة للروم، على شاطئه، فكنت أول من دخل اليها، فألفيتها صحيحة، ووجدت الجبن ولحوم الخنازير، قد عُبِّي بعضه فوق بعض، من أسفل السفينة الى أعلاها

وقدم علينا رجل من أهل صقلّية، طالب علم يوم الحج، فسألته عن الجبن الروميّ فقال: لا خير فيه، وذكر نحو ما تقدّم، قال لي هذا الرجل: ولقد رأيتهم يأخذون الجبن القديم وقد ساس وتثقّب فيطبّقونه بشحوم الخنازير ولحومها، فيشرب دهنها ويمتلىء وتعود كما كانت، قال هذا الرجل وغيره: وهم يدهنون قوالب الجبن بشحم الخنزير فيكتسب صفرة، ويزداد حسناًوتعفّناً

وسألت غير واحد من الاسارى، فحدثني جماعة منهم أن الأغنام تكون عندهم في الأمرحة، فيجمعون ألبانها في قصارى جمع قصريّة قد يتفق أن تكون طاهرة، ويتفق أن تكون استعملوها في لحوم الخنازير، ثم يعقّدونها بأنافح الميتة، وإن قصدوا تذكيته، عقروه جَرحاً، ولا يقطعون الوَدَجَين والحلقوم، فإذا جفّ حملوه إلى مخازنهم، وهم في تلك الأمرحة البراري يصطادون الخنازير ويقدِّدونها ثم يحملونها إلى مخازن الجبن، فتختلط هنالك، ثم يحملونها على الدواب خلطاً واحداًإلى المدن، وهذه الجملة لا تكاد تسلم لهم منها جبن

وقد توصل من ذلك إلى الحكم بتحريم جبن الرومي، وردّ على أقوال المبيحين أجبان أهل الذمة، وناقش آراء بعض المالكية والحنفية في هذا، موضحاً أنهم أعطوا حكماً عاماً بالاباحة انطلاقاً من الحكم العام لطعام أهل الكتاب، دون تفريق بين حالة وحالة وكذلك ناقش جبن المجوس بين الاباحة والتحريم، وانطلق في حكمه من مناقشة ما أورد في الصورة الثالثة من الصور التي أورد عن حالات الجبن الذي يحمله الروم فقال: قلت: قد اجتمع في هذا الجبن تنجيس الأنافح، وتنجيس لحوم الخنزير، وهذه الصورة لا يتصور في تحريمها خلاف بين المسلمين، إذ لو سلمت من أنافح الميتة، فظواهر القوالب نجسة لملاقاته النجاسة، ثم تأخذه الباعة فتمارسه بأيديها، وتقطعه بشفارها، فتلقى الشفرة أول طبقة، فتنجس وتنجِّس ما مرّت عليه، ثم يمسّ تلك القطعة بيده التي قد مس بها القالب، فنحكم بنجاسة جميعها، فلا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أكله، ولا بيعه ولا شراؤه، ومن باعه فُسخ العقد، ووجب على البائع ردّ الثمن، ولا يلزم المشتري قيمته ثم قال:

ويجب أن يعلم ان مذهب الروم ودينها، جواز أكل الميتة ويقصد بالميتة هنا ما عقر على غير شرائط الإسلام كما مرّ حيث يلتقطونها من الطرقات ويأكلونها، وقد أبصرناهم يلوون رؤوس الدجاج ويأكلونها وقد وصلت إلينا الى الاسكندرية جلود قد قصدوا تذكيتها، وإنما كان في صفحات أعناقها قدر ثقبة، يحمل الجوزة، يفعلون ذلك رغبة منهم في الدم، لأنه عندهم مقدّم على لحومها

وفي مناقشته لرأي ابي حنيفة رحمهما الله قال: بعد أن أعطى الحكم بتحريم الجبن الروميّ وفق قرائنه التي أورد: وإذا ثبت ذلك عدنا إلى الخلاف مع ابن حنيفة، وأصل الخلاف معه أن الأنافح ولبن الميتة عندنا نجسة، وعنده طاهرة، ودليلنا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: ·لا تنتفعوا من الميتة بشيء فإن قيل: اللبن ليس من الميتة، وإنما هو مودوع فيها، الا نرى أنه لا تُحلّه الحياة، فكيف ينجس بالموت؟ قلنا: هذ السؤال لا يتوجّه على الأنافح لأن الأنفحة كرش الحيوان بما حواه من اللبن والكرش جزء من الحيوان، والناس ينتفعون به، لأنه وعاء اللبن يحفظه عن الفساد وعلى أن اللبن من الميتة لأنه يقال: لبن الميتة، كما يقال: لبن الشاة والبقرة فرحم الله الطرطوشي فقد كانت مناقشته علمية أوصلته الى تحريم الجبن الروميّ رغم أن هذه الرسالة في 22 صفحة فقط
 
أعلى