د. يوسف بن عبد الله حميتو
:: متخصص ::
- إنضم
- 21 فبراير 2010
- المشاركات
- 456
- الإقامة
- الإمارات العربية المتحدة
- الجنس
- ذكر
- الكنية
- أبو حاتم
- التخصص
- أصول الفقه ومقاصد الشريعة
- الدولة
- الإمارات العربية المتحدة
- المدينة
- أبوظبي
- المذهب الفقهي
- المذهب المالكي
سئل القاضي أبو عمرو بن منظور (1) بما نصه:
" الحمد لله ، لسيادتكم الفضل في الجواب على قضية، هي المُتَمَعِّشون بالخدمة في الفحص بعمل المقاثي وخدمة الكروم وضروب الأشجار، يقومون على ذلك كله بالعمل الذي لا يتم فائدها إلا به من أول أوان الخدمة أكتبر أو ينير إلى وقت جنا الفائدة في أملاكهم وأملاك مكتراة بيدهم أو مساقاة عندهم ، فإذا نضج ما حملته تلك الشجرات ، وحل وقت جنا المقاثي وأشباهها ، جمع ما تيسر له جمعه مياومة ، وأدخله سوق المسلمين يتكيس في بيعها من الناس بما يتراضى به المبتاع ، فأراد صاحب السوق أن يسعر عليه سلعه التي استفادها لنفسه أو جلبها ، ويخرج له القيمة من رأسه ولا يعتبر بالقيمة التي يبرزها السوق مكايسة على حسب ما قدره قابض الرزق وباسطه لا إله إلا هو، ويجعل حكم من ذكر في التسعير عليهم كمثل الذي يدخل سلعة في الأطعمة والفواكه والخضر والعصير والجبن والزيت والسمن يبيعها من الباعة في السوق المنتصبين لبيع ذلك من الناس، هؤلاء الباعة يشترون من الجلاب ومن أصحاب الفوائد من غير سعر فيسعر عليهم صاحب السوق، بعدما يعرف واجب ما اشتروا، ولا يدعهم يتشططون على الناس في الأرباح ، جرى العمل قديما على هذا.
فهل الباعة في السوق منتصبون به للشراء والبيع من الناس، مثل الجالسين وأصحاب الفوائد المتمعشين في حكم التسعير؟ أو ليسوا كذلك ويكون اعتراض المحتسب للتسعير على الجالب من الظلم الذي لا يحل له والمنكر الذي يجب القيام بتغييره والنهي عنه ، بينوا لنا ذلك بمقتضى الشرع العزيز أبقاكم الله حجة لإيضاح الحق وتبيينه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ".
فأجاب رحمه الله بعد الديباجة :
" ...والذي ظهر لي من الجواب هو ما نص عليه القاضي الإمام ابن رشد رحمه الله، أن جالب السلع لا خلاف أنه لا يسعر عليه شيء مما جلب للبيع(2) ، وإنما يقال لمن اشترى منهم وباع بأعلى ما يبيع به عامة من يجلب: بع بما تبيع به العامة ، أو ارتفع من السوق كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحاطب بن أبي بلتعة ، إذ مر به وهو يبيع زبيبا له في السوق ، فقال له : إما أن تزيد في السعر ، وإما أن ترفع من سوقنا (3) ، لأنه كان يبيع بالدرهم أقل مما كان يبيع به أهل السوق ، فعلى هذا ، هؤلاء الذين يجلبون من أملاكهم مثل ما ذكر أعلاه لا يسعر عليهم ، وأكثر ما ينظر فيه صاحب أحكام السوق إذا رأى شططا كما فعل عمر رضي الله عنه ، وكذلك، إذا رأى فسادا في السلعة ودخول ضرر ببقائها ، يحكم بما يرفع الضرر عن المسلمين .
وأهل الحوانيت والأسواق الذين يشترون من الجلاب وغيرهم جملا ويبيعون ذلك على أيديهم قيل: هم كالجلاب، الحكم واحد في كل ما مضى لا فرق، وقيل إنهم بخلاف الجلاب ، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا غلبوا على الناس ، وأن على صاحب السوق أن يعرف ما اشتروا ويجعل لهم من الربح ما يشبه ، وينهى عن الزيادة ويتفقد السوق فيمنع من الزيادة على ما حد ومن خالف أمره عوقب بما يراه من الأدب أو الإخراج من السوق إن كان البائع معتادا لذلك مستترا به، وهو قول مالك في سماع أشهب ، وإليه ذهب ابن حبيب ، وقاله من السلف جماعة ، ولا يجوز عند واحد من العلماء أن يقول لهم: بيعوا بكذا وكذا ربحتم أو خسرتم ، من غير نظر إلى ما يشترون به، ولا أن يقول لهم فيما اشتروه : لا تبيعوه إلا بكذا وكذا، مما هو مثل الثمن الذي اشتروا به أو أقل، وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون فلا يتركهم أن يغلوا في الشراء، ولو لم يزيدوا في الربح ، إذ قد يفعلون ذلك لأمر ما مما يكون نتيجته ما فيه ضرر . اه . (4)
وجه اعتبار المآل في النازلة:
هذه الفتوى تضمنت نقلا لقولين :
- الأول : أخذ بأصل أنه لا يسعر على الجالب ولا على من يشتري منه.
- الثاني : أخذ بالتسعير على من يشتري من الجلاب دونهم .
وكلا القولين أخذ بمبدأ الذرائع، وسعى إلى درء الضرر، فالقول الأول باعتبار أن التراضي شرط بين البائع والمشتري، وهذا الرضى ينتفي بفرض سعر محدد (5) ، وهذا إكراه للبائع مآله أن المشتري يأكل مال البائع بالباطل، وقد علم في أصل الشرع أن أكل أموال الناس بالباطل حرام، وكل وسيلة تؤدي إليه حرام كذلك .
وإذا كان لولي الأمر دخل في التسعير، فهو من باب رفع الضرر عن المسلمين إذا رأى شططا، كما جاء في نص الفتوى.
قال الزيلعي: "ولا يسعر السلطان إلا أن يتعدى أرباب الطعام عن القيمة تعديا فاحشا... فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا كان أرباب الطعام يتحكمون على المسلمين، ويتعدون تعديا فاحشا، وعجز السلطان عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فلا بأس به بمشورة أهل الرأي والنظر " (6).
أما القول الثاني، فينطلق من الصبغة الوقائية لمبدأ مراعاة المآل عموما وسد الذرائع خصوصا، وذلك من باب تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العـــام، فقد يقصد أهل الحوانيت والأسواق الذين يشترون من الجلاب أمرا يكون نتيجته ما فيه ضرر، والمستند هنا هو أن التسعير فيه رعاية مصلحتين: دفع الضرر عن الناس بمنع تعدي التجار في الأسعار تعديا فاحشا، ورعاية حق الفرد بإعطائه ثمن المثل.
قال الباجي رحمه الله: "ووجهه أي التسعير – ما يجب من النظر في المصالح العامة، والمنع من إغلاء السعر عليهم والإفساد عليهم، وليس يجبر الناس على البيع، وإنما يمنعون بغير السعر الذي يحدده الإمام على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمبتاع، لا يمنع البائع ربحا، ولا يسوغ له ما يضر الناس(7) " .
والتفريق بين الجالب وغيره في التسعير هو ما عليه المالكية، وهو ما نقله ابن رشد الجد في البيان اتفاقا من غير تفصيل، وتعليل هذا التفصيل نجده في كلام للباجي في المنتقى إذ يقول: " وجه ما في كتاب محمد: أن الجالب يسامح ويستدام أمره ليكثر ما يجلبه ، مع أن ما يجلبه ليس من أقوات البلد ، وهو يدخل الرفق عليهم بما يجلبه ، فربما أدى التحجير عليه إلى قطع الميرة، والبائع بالبلد إنما يبيع أقواتهم المختصة بهم، ولا يقدر على العدول عنهم في الأغلب، ولهذا فرقنا بينهما في الحُكرة وقت الضرورة، ووجه ما قاله ابن حبيب : أن هذا بائع في السوق، فلم يكن له أن يحط عن سعره ، لأن ذلك مفسد لسعر الناس كأهل البلد ، قال: فأما جالب القمح والشعير، فقال ابن حبيب : يبيع كيف شاء، إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق، وإن أرخص بعضهم تركوا إن قل من حط السعر، وإن كثر المرخصون، قيل لمن بقي : إما أن تبيع كبيعهم وإما أن ترفع" (8) .
فنفهم بهذا أن فقهاء المالكية باختلاف أنظارهم راعوا في ذلك أكثر من مآل :
- الأول : السماح للجالب بالبيع دون تسعير عليه، لما في ذلك من توسيع على الناس، والتسعير على الجالب فيه تضييق عليهم لأن ذلك يفضي إلى قطع الميرة عنهم .
- الثاني : مراعاة حق الجالب لأن التسعير عليه فيه حرج، ومبدأ الشريعة وأسها رفع الحرج.
- الثالث : مراعاة المصلحة العامة بالتسعير على البائع في السوق منعا للمآل الفاسد ، حتى ولو لم يقصده البائع، وهذا منع للتعسف في استعمال الحق الذي تؤدي ممارسته إلى الإضرار بالعامة، وهو الأرجح على اعتبار أنه إذا تعارضت مصلحتان رجحت أعظمهما، والمصلحة العامة هنا أرجح ، فإنه يدفع الضرر العام ولو بإثبات الضرر الخاص.
وخلاصة هذا كله يجملها الشاطبي رحمه الله في كلمات يسيرة فيقول: " إن أمكن انجبار الاضرار ورفعه جملة فاعتبار الضرر العام أولى، فيمنع الجالب أو الدافع مما هم به ، لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة ..." (9)
ـــــــــ
(1) ـ هو القاضي أبو عمرو عثمان بن محمد بن يحيى بن محمد بن منظور القيسي ، من أهل مالقة يكنى أبا عمرو ويعرف بابن منظور الأستاذ القاضي من أهل النظر والاجتهاد والتحقيق ثاقب الذهن أصيل البحث مضطلعاً بالمشكلات مشاركاً في فنون من فقه وعربية برز فيها إلى أصول وقراءات وطب ومنطق.قرأ على الأستاذ أبي عبد الله بن الفخار وغيره وولي القضاء بمواضع عديدة وتوفي قاضياً. وله تآليف منها: تقييد حسن في الفرائض سماه: بغية الباحث في معرفة مقدمات الموارث وآخر في المسح على الأنماق الأندلسية واللمع الجدلية في كيفية التحدث في علم العربية. توفي عام 735 هـ . ترجمته في تاريخ قضاة الأندلس للنباهي ، ص : 147 .
(2) ـ الأصل في التسعير ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال : غلا السعر في المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: يا رسول الله غلا السعر، فسعر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله هو المسعر القابض، الباسط، الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال ، أخرجه أبو داوود في سننه ، كتاب البيوع والإجارات ، باب التسعير ، الحديث رقم 3450، والترمذي في الجامع ، كتاب البيوع ، باب ما جاء في التسعير ، الحديث رقم : 1314، وقال : حسن صحيح ، وابن ماجه في سننه ، كتاب التجارات ، باب من كره أن يسعر ، الحديث رقك : 200 ، والدارمي في السنن ، كتاب البيوع ، باب في النهي عن أن يسعر في المسلمين ، الحديث رقم : 2554 ، وأحمد في المسند ، رقم الحديث 12613 ، وأبو يعلى في مسنده ، الحديث : 2861 ، وابن حبان في صحيحه، الحديث رقم : 4935 ، وصححه ،، والبيهقي في السنن ، في جماع أبواب السلم ، باب التسعير ، والحديث صحيح الإسناد على شرط مسلم . وقد وقع الاختلاف بين العلماء في حكم التسعير على ثلاثة أقوال :
أ- ذهب جمهور العلماء (بعض الأحناف ومالك ومن وافقه من أصحابه، وهو أحد الأقوال في المذهب الشافعي وهو المشهور في المذهب الحنبلي) إلى القول بتحريم التسعير مطلقا، انظر المنتقى للباجي 5/13 ، وشرح المنهاج 3/473** ، والمغني : 4/239 ، ومختصر المزني ص 12 ،والمهذب 1/299 ب- رواية عن مالك بجواز التسعير مطلقا، أي يلزمه الحاكم ببيع ما يوافق بيع الناس قلة وكثرة. أنظر المنتقى للباجي ، 5/18 . ج- ذهب ابن تيمية وابن القيم إلى التفصيل، حيث يرى هؤلاء أن التسعير يحرم في حالة الظلم، ويجوز بل يجب في حالة العدل، ويقرب من هذا الرأي ما ذهب إليه بعض الأحناف من أنّه يجوز التسعير إذا تعدى أرباب الطعام تعديا فاحشا . انظر : مجموع الفتاوى : 28/77 ، والطرق الحكمية ص : 24.
(3)ـ موطأ الإمام مالك ، كتاب البيوع ، باب الحكرة والتربص ، الحديث رقم : 1899
(4) ـ، المعيار المعرب ، للونشريسي ، 5/83-84 ، وانظر كتاب البيان والتحصيل والشرح والتعليل في مسائل المستخرجة ، 9/313-315 .
(5)ـ بحوث في البيع ، للدكتور علي مرعي ، 1/98 ، وانظر بدائع الصنائع للكاساني ، 5/193 ، ونيل الأوطار ، 5/248 .
(6) ـ تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ، 6/28 .
(7)ـ المنتقى للباجي ، 5/18 ، وانظر : الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده ، ص : 132 .
(8) ـ المنتقى ، 5/18-19 ، وانظر الاستذكار لابن عبد البر ، 6/411.
(9)ـ الموافقات : 3/57.
" الحمد لله ، لسيادتكم الفضل في الجواب على قضية، هي المُتَمَعِّشون بالخدمة في الفحص بعمل المقاثي وخدمة الكروم وضروب الأشجار، يقومون على ذلك كله بالعمل الذي لا يتم فائدها إلا به من أول أوان الخدمة أكتبر أو ينير إلى وقت جنا الفائدة في أملاكهم وأملاك مكتراة بيدهم أو مساقاة عندهم ، فإذا نضج ما حملته تلك الشجرات ، وحل وقت جنا المقاثي وأشباهها ، جمع ما تيسر له جمعه مياومة ، وأدخله سوق المسلمين يتكيس في بيعها من الناس بما يتراضى به المبتاع ، فأراد صاحب السوق أن يسعر عليه سلعه التي استفادها لنفسه أو جلبها ، ويخرج له القيمة من رأسه ولا يعتبر بالقيمة التي يبرزها السوق مكايسة على حسب ما قدره قابض الرزق وباسطه لا إله إلا هو، ويجعل حكم من ذكر في التسعير عليهم كمثل الذي يدخل سلعة في الأطعمة والفواكه والخضر والعصير والجبن والزيت والسمن يبيعها من الباعة في السوق المنتصبين لبيع ذلك من الناس، هؤلاء الباعة يشترون من الجلاب ومن أصحاب الفوائد من غير سعر فيسعر عليهم صاحب السوق، بعدما يعرف واجب ما اشتروا، ولا يدعهم يتشططون على الناس في الأرباح ، جرى العمل قديما على هذا.
فهل الباعة في السوق منتصبون به للشراء والبيع من الناس، مثل الجالسين وأصحاب الفوائد المتمعشين في حكم التسعير؟ أو ليسوا كذلك ويكون اعتراض المحتسب للتسعير على الجالب من الظلم الذي لا يحل له والمنكر الذي يجب القيام بتغييره والنهي عنه ، بينوا لنا ذلك بمقتضى الشرع العزيز أبقاكم الله حجة لإيضاح الحق وتبيينه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ".
فأجاب رحمه الله بعد الديباجة :
" ...والذي ظهر لي من الجواب هو ما نص عليه القاضي الإمام ابن رشد رحمه الله، أن جالب السلع لا خلاف أنه لا يسعر عليه شيء مما جلب للبيع(2) ، وإنما يقال لمن اشترى منهم وباع بأعلى ما يبيع به عامة من يجلب: بع بما تبيع به العامة ، أو ارتفع من السوق كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحاطب بن أبي بلتعة ، إذ مر به وهو يبيع زبيبا له في السوق ، فقال له : إما أن تزيد في السعر ، وإما أن ترفع من سوقنا (3) ، لأنه كان يبيع بالدرهم أقل مما كان يبيع به أهل السوق ، فعلى هذا ، هؤلاء الذين يجلبون من أملاكهم مثل ما ذكر أعلاه لا يسعر عليهم ، وأكثر ما ينظر فيه صاحب أحكام السوق إذا رأى شططا كما فعل عمر رضي الله عنه ، وكذلك، إذا رأى فسادا في السلعة ودخول ضرر ببقائها ، يحكم بما يرفع الضرر عن المسلمين .
وأهل الحوانيت والأسواق الذين يشترون من الجلاب وغيرهم جملا ويبيعون ذلك على أيديهم قيل: هم كالجلاب، الحكم واحد في كل ما مضى لا فرق، وقيل إنهم بخلاف الجلاب ، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا غلبوا على الناس ، وأن على صاحب السوق أن يعرف ما اشتروا ويجعل لهم من الربح ما يشبه ، وينهى عن الزيادة ويتفقد السوق فيمنع من الزيادة على ما حد ومن خالف أمره عوقب بما يراه من الأدب أو الإخراج من السوق إن كان البائع معتادا لذلك مستترا به، وهو قول مالك في سماع أشهب ، وإليه ذهب ابن حبيب ، وقاله من السلف جماعة ، ولا يجوز عند واحد من العلماء أن يقول لهم: بيعوا بكذا وكذا ربحتم أو خسرتم ، من غير نظر إلى ما يشترون به، ولا أن يقول لهم فيما اشتروه : لا تبيعوه إلا بكذا وكذا، مما هو مثل الثمن الذي اشتروا به أو أقل، وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون فلا يتركهم أن يغلوا في الشراء، ولو لم يزيدوا في الربح ، إذ قد يفعلون ذلك لأمر ما مما يكون نتيجته ما فيه ضرر . اه . (4)
وجه اعتبار المآل في النازلة:
هذه الفتوى تضمنت نقلا لقولين :
- الأول : أخذ بأصل أنه لا يسعر على الجالب ولا على من يشتري منه.
- الثاني : أخذ بالتسعير على من يشتري من الجلاب دونهم .
وكلا القولين أخذ بمبدأ الذرائع، وسعى إلى درء الضرر، فالقول الأول باعتبار أن التراضي شرط بين البائع والمشتري، وهذا الرضى ينتفي بفرض سعر محدد (5) ، وهذا إكراه للبائع مآله أن المشتري يأكل مال البائع بالباطل، وقد علم في أصل الشرع أن أكل أموال الناس بالباطل حرام، وكل وسيلة تؤدي إليه حرام كذلك .
وإذا كان لولي الأمر دخل في التسعير، فهو من باب رفع الضرر عن المسلمين إذا رأى شططا، كما جاء في نص الفتوى.
قال الزيلعي: "ولا يسعر السلطان إلا أن يتعدى أرباب الطعام عن القيمة تعديا فاحشا... فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا كان أرباب الطعام يتحكمون على المسلمين، ويتعدون تعديا فاحشا، وعجز السلطان عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فلا بأس به بمشورة أهل الرأي والنظر " (6).
أما القول الثاني، فينطلق من الصبغة الوقائية لمبدأ مراعاة المآل عموما وسد الذرائع خصوصا، وذلك من باب تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العـــام، فقد يقصد أهل الحوانيت والأسواق الذين يشترون من الجلاب أمرا يكون نتيجته ما فيه ضرر، والمستند هنا هو أن التسعير فيه رعاية مصلحتين: دفع الضرر عن الناس بمنع تعدي التجار في الأسعار تعديا فاحشا، ورعاية حق الفرد بإعطائه ثمن المثل.
قال الباجي رحمه الله: "ووجهه أي التسعير – ما يجب من النظر في المصالح العامة، والمنع من إغلاء السعر عليهم والإفساد عليهم، وليس يجبر الناس على البيع، وإنما يمنعون بغير السعر الذي يحدده الإمام على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمبتاع، لا يمنع البائع ربحا، ولا يسوغ له ما يضر الناس(7) " .
والتفريق بين الجالب وغيره في التسعير هو ما عليه المالكية، وهو ما نقله ابن رشد الجد في البيان اتفاقا من غير تفصيل، وتعليل هذا التفصيل نجده في كلام للباجي في المنتقى إذ يقول: " وجه ما في كتاب محمد: أن الجالب يسامح ويستدام أمره ليكثر ما يجلبه ، مع أن ما يجلبه ليس من أقوات البلد ، وهو يدخل الرفق عليهم بما يجلبه ، فربما أدى التحجير عليه إلى قطع الميرة، والبائع بالبلد إنما يبيع أقواتهم المختصة بهم، ولا يقدر على العدول عنهم في الأغلب، ولهذا فرقنا بينهما في الحُكرة وقت الضرورة، ووجه ما قاله ابن حبيب : أن هذا بائع في السوق، فلم يكن له أن يحط عن سعره ، لأن ذلك مفسد لسعر الناس كأهل البلد ، قال: فأما جالب القمح والشعير، فقال ابن حبيب : يبيع كيف شاء، إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق، وإن أرخص بعضهم تركوا إن قل من حط السعر، وإن كثر المرخصون، قيل لمن بقي : إما أن تبيع كبيعهم وإما أن ترفع" (8) .
فنفهم بهذا أن فقهاء المالكية باختلاف أنظارهم راعوا في ذلك أكثر من مآل :
- الأول : السماح للجالب بالبيع دون تسعير عليه، لما في ذلك من توسيع على الناس، والتسعير على الجالب فيه تضييق عليهم لأن ذلك يفضي إلى قطع الميرة عنهم .
- الثاني : مراعاة حق الجالب لأن التسعير عليه فيه حرج، ومبدأ الشريعة وأسها رفع الحرج.
- الثالث : مراعاة المصلحة العامة بالتسعير على البائع في السوق منعا للمآل الفاسد ، حتى ولو لم يقصده البائع، وهذا منع للتعسف في استعمال الحق الذي تؤدي ممارسته إلى الإضرار بالعامة، وهو الأرجح على اعتبار أنه إذا تعارضت مصلحتان رجحت أعظمهما، والمصلحة العامة هنا أرجح ، فإنه يدفع الضرر العام ولو بإثبات الضرر الخاص.
وخلاصة هذا كله يجملها الشاطبي رحمه الله في كلمات يسيرة فيقول: " إن أمكن انجبار الاضرار ورفعه جملة فاعتبار الضرر العام أولى، فيمنع الجالب أو الدافع مما هم به ، لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة ..." (9)
ـــــــــ
(1) ـ هو القاضي أبو عمرو عثمان بن محمد بن يحيى بن محمد بن منظور القيسي ، من أهل مالقة يكنى أبا عمرو ويعرف بابن منظور الأستاذ القاضي من أهل النظر والاجتهاد والتحقيق ثاقب الذهن أصيل البحث مضطلعاً بالمشكلات مشاركاً في فنون من فقه وعربية برز فيها إلى أصول وقراءات وطب ومنطق.قرأ على الأستاذ أبي عبد الله بن الفخار وغيره وولي القضاء بمواضع عديدة وتوفي قاضياً. وله تآليف منها: تقييد حسن في الفرائض سماه: بغية الباحث في معرفة مقدمات الموارث وآخر في المسح على الأنماق الأندلسية واللمع الجدلية في كيفية التحدث في علم العربية. توفي عام 735 هـ . ترجمته في تاريخ قضاة الأندلس للنباهي ، ص : 147 .
(2) ـ الأصل في التسعير ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال : غلا السعر في المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: يا رسول الله غلا السعر، فسعر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله هو المسعر القابض، الباسط، الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال ، أخرجه أبو داوود في سننه ، كتاب البيوع والإجارات ، باب التسعير ، الحديث رقم 3450، والترمذي في الجامع ، كتاب البيوع ، باب ما جاء في التسعير ، الحديث رقم : 1314، وقال : حسن صحيح ، وابن ماجه في سننه ، كتاب التجارات ، باب من كره أن يسعر ، الحديث رقك : 200 ، والدارمي في السنن ، كتاب البيوع ، باب في النهي عن أن يسعر في المسلمين ، الحديث رقم : 2554 ، وأحمد في المسند ، رقم الحديث 12613 ، وأبو يعلى في مسنده ، الحديث : 2861 ، وابن حبان في صحيحه، الحديث رقم : 4935 ، وصححه ،، والبيهقي في السنن ، في جماع أبواب السلم ، باب التسعير ، والحديث صحيح الإسناد على شرط مسلم . وقد وقع الاختلاف بين العلماء في حكم التسعير على ثلاثة أقوال :
أ- ذهب جمهور العلماء (بعض الأحناف ومالك ومن وافقه من أصحابه، وهو أحد الأقوال في المذهب الشافعي وهو المشهور في المذهب الحنبلي) إلى القول بتحريم التسعير مطلقا، انظر المنتقى للباجي 5/13 ، وشرح المنهاج 3/473** ، والمغني : 4/239 ، ومختصر المزني ص 12 ،والمهذب 1/299 ب- رواية عن مالك بجواز التسعير مطلقا، أي يلزمه الحاكم ببيع ما يوافق بيع الناس قلة وكثرة. أنظر المنتقى للباجي ، 5/18 . ج- ذهب ابن تيمية وابن القيم إلى التفصيل، حيث يرى هؤلاء أن التسعير يحرم في حالة الظلم، ويجوز بل يجب في حالة العدل، ويقرب من هذا الرأي ما ذهب إليه بعض الأحناف من أنّه يجوز التسعير إذا تعدى أرباب الطعام تعديا فاحشا . انظر : مجموع الفتاوى : 28/77 ، والطرق الحكمية ص : 24.
(3)ـ موطأ الإمام مالك ، كتاب البيوع ، باب الحكرة والتربص ، الحديث رقم : 1899
(4) ـ، المعيار المعرب ، للونشريسي ، 5/83-84 ، وانظر كتاب البيان والتحصيل والشرح والتعليل في مسائل المستخرجة ، 9/313-315 .
(5)ـ بحوث في البيع ، للدكتور علي مرعي ، 1/98 ، وانظر بدائع الصنائع للكاساني ، 5/193 ، ونيل الأوطار ، 5/248 .
(6) ـ تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ، 6/28 .
(7)ـ المنتقى للباجي ، 5/18 ، وانظر : الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده ، ص : 132 .
(8) ـ المنتقى ، 5/18-19 ، وانظر الاستذكار لابن عبد البر ، 6/411.
(9)ـ الموافقات : 3/57.