قال ابن حزم فى المسألة رقم 1638
" ولا تحل الرشوة : وهي ما أعطاه المرء ليحكم له بباطل ، أو ليولي ولاية ، أو ليظلم له إنسان - فهذا يأثم المعطي والآخذ .
فأما من منع من حقه فأعطى ليدفع عن نفسه الظلم فذلك مباح للمعطي ، وأما الآخذ فآثم ، وفي كلا الوجهين فالمال المعطى باق على ملك صاحبه الذي أعطاه كما كان ، كالغصب ولا فرق - ومن جملة هذا ما أعطيه أهل دار الكفر في فداء الأسرى ، وفي كل ضرورة ، وكل هذا متفق عليه ، إلا ملك أهل دار الكفر ما أخذوه في فداء الأسير وغير ذلك ، فإن قوما قالوا : قد ملكوه - وهذا باطل ؛ لأنه قول لم يأت به قرآن ، ولا سنة ، ولا قياس ، ولا نظر ، وقولنا في هذا هو قول الشافعي ، وأبي سليمان ، وغيرهما .
برهان صحة قولنا - : قول الله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } فنسأل من خالفنا : أبحق أخذ الكفار ما أخذوا منا في الفداء وغيره أم بباطل ؟ فمن قولهم : بالباطل ، ولو قالوا غير ذلك كفروا ، وفي هذا كفاية ؛ لأنه خطاب لجميع الجن والإنس ، وللزوم الدين لهم .
وقول رسول الله
{ إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . فإن قيل : لم أبحتم إعطاء المال في دفع الظلم ، وقد رويتم من طريق أبي هريرة ، قال : { جاء رجل إلى رسول الله
فقال : يا رسول الله إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال : فلا تعطه مالك ، قال : أرأيت إن قاتلني ؟ قال : قاتله ، قال : أرأيت إن قتلني ؟ قال : فأنت شهيد ، قال : أرأيت إن قتلته ؟ قال : فهو في النار } . وبالخبر المأثور { لعن الله الراشي والمرتشي } . قال أبو محمد : خبر لعنه الراشي إنما رواه الحارث بن عبد الرحمن وليس بالقوي - وأيضا - فإن المعطي في ضرورة دفع الظلم ليس راشيا .
وأما الخبر في المقاتلة فهكذا نقول : من قدر على دفع الظلم عن نفسه لم يحل له إعطاء فلس فما فوقه في ذلك ، وأما من عجز فالله تعالى يقول : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . وقال عليه السلام : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } فسقط عنه فرض المقاتلة والدفاع ، وصار في حد الإكراه على ما أعطى في ذلك . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } وقد ذكرناه بإسناده فيما سلف من ديواننا هذا - والحمد لله رب العالمين .
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من طريق أبي موسى الأشعري : { أطعموا الجائع وفكوا العاني } وهذا عموم لكل عان عند كل كافر أو مؤمن بغير حق . روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري ، ومعمر قال : معمر عن الحسن البصري ، وقال سفيان : عن إبراهيم النخعي ، ثم اتفق الحسن ، وإبراهيم ، قالا جميعا : ما أعطيت مصانعة على مالك ودمك ، فإنك فيه مأجور - وبالله تعالى التوفيق (1) . انتهى كلامه بنصه وتمامه .
ــــــــــــــــــ
(1) أنظر : المحلى ، تحقيق الدكتور عبدالغفار سليمان البندارى ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ج8 ص 118،119