العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

المصطلح الأصولي في الخطاب الخلدوني

د. عبدالحميد بن صالح الكراني

:: المشرف العام ::
طاقم الإدارة
إنضم
23 أكتوبر 2007
المشاركات
8,140
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أسامة
التخصص
فقـــه
الدولة
السعودية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
المصطلح الأصولي في الخطاب الخلدوني
سعيد بنسعيد العلوي (*)


في مقدمة ابن خلدون أمور عديدة تغرى بالحديث عن العقلانية وتمجيد العقل. في طليعة تلك الأمور الكلام الصريح عن (طبائع الأشياء) حينا قليلا والحديث الضمني عنها أحيانا غالبة، ذلك أن لكل من العصبية، والملك، والبداوة، والحضارة، والعمران، وكذا الباقي من المفاهيم الخلدونية المعلومة، طبائعَ قارةً تلازم كل ما تعبر عنه هذه المفاهيم فهي لا تفارقها، وبموجبها يكون الفعل والحركة الانتقال من حال إلَى حال، إذ لكل شيء غاية يقصدها. فالغاية التي تؤدى إليها العصبية هي الملك، و الغاية التي يسعى إليها الملك هي الانفراد بالمجد، والغاية التي تسعى إليها الدولة هي الهرم، فهو يصيبها في الجيل الرابع، بعد أن تكون الدولة قد مرت بأجيال ثلاثة لكل جيل منها بِدَوْرِهِ طبيعته المميزة التي لا يملك أن يحيد عنها. ومن الأمور التي حملت الجمهرة الكبيرة من قراء المقدمة، منذ (إعادة اكتشافها) في عشرينات القرن الماضي، على الحديث عن العقل والعقلانية حديث أبي زيد نفسه عن التاريخ وعن (طبيعته) خاصة، فقد أغرى العديد من الدارسين بالحديث عن (المعنى) وعن (المنطق) الذي يخضع له التاريخ البشري في سيره، وبالجملة رأينا من الكثيرين جنوحا إلَى اعتبار ابن خلدون فيلسوفا للتاريخ تارة، ومؤسسا لعلم الاجتماع تارة أخرى، ورائدا من رواد الاقتصاد السياسي طورا ثالثا، بل إن المجال قد يتسع ليجعل من المؤرخ العربي الكبير رائدا لعلوم أخرى مثل المناخ، والجغرافيا الاقتصادية، وعلم النفس الاجتماعي. ولعل النموذج الواضح هو ذاك الذي يقدمه المفكر القومي العربي ساطع الحصري في كتابه (دراسات في مقدمة ابن خلدون) حيث يبدو ابن خلدون سابقاً على فيكو وهردر وكانط وهيجل وسبنسر، ومؤسسا أول لعلوم كثيرة لم يكن -بطبيعة الأمر- ظهورها ممكنا إلا بحدوث تراكم معرفي هائل من جانب أول، وتحقق عدد من الثورات العلمية من جانب ثان. أضف إلَى ذلك أن الاعتقاد الديني الذي كان الفقيه المالكي والمتكلم الأشعري يصدر عنه يجعل إبحاره في المحيط الذي يريد الحصري أن يلقى به فيه أمرا متعذرا، من ذلك مثلا أن مؤرخنا الكبير، متى نظرنا إليه في دائرة النظام المعرفي الذي ينتمي إليه، لم يكن يملك الحديث عن المعنى في التاريخ - على النحو الذي نجده عند فيكو أَو كانط أَو هيجل مادام الله هو الذي يوجه التاريخ ويقود الإنسان.


هل يفيد كلامنا هذا الإقصاء الكلي للعقل والمعقولية عن الفكر الخلدوني؟
الحق أنه لا شيء أكثر سذاجة من تقرير رأي مماثل في (المقدمة) وصاحبها. وقد يكفى، في دحض هذا الاعتقاد أن يتأمل المرء حديث ابن خلدون عن العمران البشري، أَو ينظر في شرحه للتعاقب في أحوال الاجتماع البشري بين (البداوة) و(الحضارة)، وقد يبدو فساد هذا الرأي كلية متى تابعنا تعليل ابن خلدون للأسباب التي تجعل المؤرخين يقعون في الأخطاء الشنيعة التي يروجونها أحيانا. ما نود قوله فحسب هو أن (العقل) و (المعقولية) يكتسبان في النظام الخلدوني المعرفي معنى يتصل بالمرجعيات التي يصدر عنها ابن خلدون أَو لنقل، في عبارة أخرى: إن العقل والمعقولية، في الخطاب الخلدوني في المقدمة - محكومان بالأسس الأبستيمولوجية التي يرجع إليها فكر صاحب المقدمة وكذا بالدلالة العميقة للعلم (أو الأبستمي) الذي كان الأفق النظري لصاحب المقدمة مشدودا إليه. وما نود الإسهام به، هنا حول مرجعيات ابن خلدون ومصادر تفكيره، هو التنبيه على أهمية المصدر الأصولي في النص الخلدوني: أصول الدين من جانب أول، وأصول الفقه من جانب ثان. يمكن القول، بكيفية أخرى: إن غرضنا هو توجيه الانتباه إلَى أهمية المصادر الدينية الإسلامية في الفكر الخلدوني وخاصة ما كان من تلك المصادر في الرتبة العليا من العلوم الشرعية وهذا من جهة أولى، وأما من جهة ثانية فهو التنبيه، خاصة، إلَى أن اللغة الأصولية في الخطاب الخلدوني، تمكن القارئ من المفاتيح الصالحة لولوج عالم العقل واستكناه (العقلانية) التي ظلت تغري قراء المقدمة ببريق شديد حمل الكثرة من الباحثين على إخراج ابن خلدون من عالمه المعرفي، وسياقه الديني، ووجوده التاريخي.
غني عن البيان، فيما نقدر، أن إسهامنا هذا لا يتوخى القيام بدراسة فيلولوجية، ولا تطمح إلَى تحصيل جرد شامل للمصطلحات الأصولية في المقدمة، وهي كذلك أبعد ما تكون عن ادعاء محاولة تفكيك بنية الخطاب الخلدوني، بل إنها لا تريد أن تعدو عمل التذكير ببعض المفاهيم الكلامية والأصولية في المقدمة وعملها الخفي والفاعل في البنية الذهنية الخلدونية. والتماسا لما نود الوصول إليه هنا هو ترتيب القول في أقسام قصيرة ثلاثة. قسم أول نفرده للحديث عن (فن التاريخ) في الخطاب الخلدوني، وقسم ثان نجعله للحديث في الأصول (أصول الدين وأصول الفقه) ومكانتهما في التاريخ. وقسم ثالث نقف فيه عند مفهوم (العادة) عند ابن خلدون.


أولا: فن التاريخ علم مقصود بالذات
يقول ابن خلدون، فيما يصح اعتباره حديثا في (إحصاء العلوم) كما يقول مفكرو الإسلام القدامى أَو خطاباً في (تصنيف العلوم)، كما يقال في الفكر الفلسفي الحديث:
(اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات، كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام، وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة. وعلوم هي آلية ووسيلة لهذه العلوم، كالعربية وغيرهما للشرعيات، وكالمنطق والفلسفة وربما كان آلة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخرين)(1).
لعل الملاحظة الأولى، البادية للعيان، هي أنه ليس للتاريخ ذكر في هذا الإحصاء والتصنيف، فهل يجوز القول بأن المؤرخ العربي الأكبر لا يرى للتاريخ مكانا في اللوحة الكبرى مادام لا يصرح بذلك تصريحا؟ من الطبيعي أن الجواب لا يحتمل أن يكون بالإيجاب وإلا عدت كتابة المقدمة عبثا، واعتبر حديث ابن خلدون في التاريخ ثرثرة لا طائل فيها. نقرأ في تصدير المقدمة بعد الحمدلة والتصلية مباشرة (أما بعد فإن فن التاريخ من الفنون التي يتداولها الأمم والأجيال (...) في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول والسوابق (...) وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق. فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق)(2). ومن الجلي بذاته أن العلم (بكيفيات الوقائع) لا يتأتى لما كان من العلوم مساعدا، كما أن النظر والتحقيق والتعليل تستدعي، من حيث هي كذلك، التوسل بآليات وعلوم مساعدة عديدة. وغني عن البيان كذلك أن ما كان من العلوم معدودا في علوم الحكمة لا يجوز له أن ينسب في لوحة العلوم إلَى ما كان في مؤخر اللوحة وأسفلها. ثم إن صاحب المقدمة يقول عن التاريخ في (المقدمة في فضل علم التاريخ): (اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية). والترتيب بالشرف والرتبة، وفقا لنظام المعرفة الإسلامية في العصر الكلاسيكي الذي يتوافق بدوره مع التصنيف الأرسطي للمعارف، يجعل الأعلى والأول أكثر شمولية واقتضاء لعلوم أخرى مساعدة مادام العلو علوا بالرتبة، و مادامت صفة الشرف التي يحق للعلم حيازتها تلحقه من جهة سمو الغاية التي يهدف إليها. وإذ كان التاريخ كذلك، على ما ذكر صاحب المقدمة قبل قليل كان (يحتاج صاحب هذا الفن إلَى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات) وهذه القواعد والطبائع تستدعي، من حيث هي كذلك، الإحاطة بسلسلة من المعارف المتضافرة. ومن جهة أخرى كان الجهل بها (وهو ما يقول عنه ابن خلدون: إِنه الجهل بطبائع (العمران البشري)) يوقع المؤرخين في عدد من الأخطاء والأوهام يخصص لها صفحات مستفيضة من تمهيده للحديث في طبيعة العمران. ومن ثم فإن (فن التاريخ) كما يدعوه تارة، أَو (علم التاريخ)، كما يدعوه أخرى، لا يحتمل أن يخرج من دائرة العلوم الكلية، أَو الأولية، أي تلك التي يقول عنها صاحب المقدمة: إِنها علوم مقصودة بالذات.
الملاحظة الثانية، ويحملنا عليها حديث أبي زيد عبد الرحمن بن خلدون عن التاريخ، تتصل بالتصنيف الآخر الذي يستدعيه منطق الحديث في العلوم ونوعها وتجعلنا أمام التساؤل ما إذا كان التاريخ يتصل بالشرعيات أم أن الأحرى به أن ينتسب إلَى الطبيعيات والإلهيات؟ والحق أن قارئ المقدمة سيجد لكلا الموقفين ما يبرره ويؤيده. فمن جهة أولى نجد أن أحاديث ابن خلدون عن طبائع الأشياء عامة، وعن (عمران العالم) خاصة، هي من الكثرة والوضوح والشمول معا بحيث إنها تجعل التاريخ، ضرورة ومنطقا، في عداد العلوم الطبيعية والفلسفية. وقد يكفي أن نقف عند الخبر والأسباب التي تجعل الكذب يتطرق إليه حتى نجد من الأمثلة والأدلة ما يؤيد هذا الرأي ويزكيه، بل إن القارئ يتبين أن الإكثار من أمثلة التاريخ الإسلامي، وتاريخ الغرب الإسلامي تحديدا إنما كان للسهولة في الاحتجاج من جانب وللقصور عن الإتيان، أحيانا، بأمثلة أخرى من تاريخ الأمم والشعوب الأخرى. وعلى كلٍّ فنحن لا نحسب أن المنحى الحِكِْميّ (مع كسر الحاء وتسكين الكاف) في المقدمة يفتقر إلَى الدليل. ومن جهة ثانية نجد أن الفصول العديدة في المعارف الإسلامية المختلفة، تلك التي تجعل من المقدمة دائرة معارف عامة، وكذا الفصول المخصصة للقول في الخلافة والقضايا المتصلة بها، ثم الإفاضة في الحديث عن العلوم الإسلامية المحض،كل ذلك يجد للقول في اتصال (فن التاريخ) بالشرعيات ما يبرره ويدعمه كذلك.
يمكن القول، أخذا بالمنطق - الذي كان أهل الفكر السياسي في الإسلام (مثل الماوردي ومن نسج على منواله) يعملون به بأن التاريخ ينتسب، إلَى العلوم الشرعية وإلى الطبيعيات والإلهيات معا. التاريخ، من جهة انتسابه إلَى (الشرعيات) ومن حيث شرف غايته واقتضاؤه لذلك أن يكون علما مقصودا بالذات، يرقى إلَى رتبة تجعله في مصافِّ (العلم الكليِّ من العلوم الدينية) كما يقول أبو حامد الغزالي عن علم الكلام، أَو هو في رتبة (رئيس العلوم) كما يقول عضد الدين الإيجي عن أصول الدين أيضا(3). والتاريخ، من جهة كونه (خبراً عن الاجتماع البشري الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال) ليس يقبل رتبة تنزل به عن الحكمة بل أَنْ يكون فيها أصيلا وعريقا لها، قرأنا ذلك في تصدير المقدمة.
إذا لم يكن ابن خلدون قد صرح تصريحا بانتساب التاريخ إلَى دائرة العلوم المقصودة بذاتها ولم يكن في قول صريح كذلك قد نبه إلَى الشرعيات أَو إلَى الطبيعيات والإلهيات - فإنه كان يمتلك وعيا قويا، بل وعيا حادا، بأنه بصدد تأسيس علم جديد له الصفات التي ذكرنا في الفقرة أعلاه وأنه لم يسبق إلَى ذلك العلم (فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه وكان ذلك لنا معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب (...) وكأن هذا علم مستقل بنفسه فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني (...) واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة غزير الفائدة)(4).
هذا العلم المستحدث الصنعة، الغريب النزعة، الغزير الفائدة كما يصفه ابن خلدون، ذاك الذي هو مقصود بذاته، بالنظر إلَى مرتبته وغايته، العلم الذي يمكنه موضوعه (العمران البشري) من الانتساب إلَى العلوم الشرعية والحكمية معا يجعله المنهج الذي يعمل بموجبه في حال من التشارك والتمازج مع العلمين الإسلاميين السامِيَيْن: أصول الدين وأصول الفقه.
للقول في مكانة الأصول (أصول الدين وأصول الفقه) في فن التاريخ من وجه وفي (المقدمة) من وجه آخر - نفرد القسم الموالي من هذا الإسهام.


ثانيا: مكانة الأصول من التاريخ
قول أبي حامد الغزالي عن أصول الدين: إنه (العلم الكلي من العلوم الدينية) هو قولٌ يعني أن مبادئ العلوم الدينية الكبرى تتقرر في علم الكلام، وأن إثبات الكليات في مستوى النظر يكون على المتكلم لا على الفقيه أَو المفسر أَو الحديث كما يوضح ذلك صاحب (المستصفى) توضيحا كافيا.
وبالنسبة لموضوعنا فإن العماد النظري لعلم التاريخ، من حيث انتسابه للعلوم الشرعية، يكون التماسه بدوره في علم الكلام، والأساس أَو المنطق، إذا استثنينا (المعنى)، هو الله الفاعل المختار الذي يجعل للكون سننا يسير عليها. وإذن فإن (سنة الله)، على النحو الذي يفسرها به الاعتقاد على قول معين (= علم الكلام)، هي الأساس والسند والمفتاح معا. وفي هذا الصدد تكون قراءة (المقدمة) قراءة تهدف إلَى استخلاص المضامين الكلامية قراءة ممكنة، وإن كانت بطبيعة الأمر قراءة عسيرة بالنظر إلَى الطبيعة السامية أَو التجريدية التي تصاحب (رئيس العلوم) بطبيعته، على أن هنالك طرقا سالكة تقربنا من التدليل على الاعتقاد الكلامي الخلدوني، أي على الموجهات النظرية الإسلامية العليا التي تحكم فكر ابن خلدون في المقدمة. ولا غرابة أن تكون أكثر تلك الطرق وضوحا ومباشرية الفصل الشهير الذي يخصصه مؤرخنا العربي الكبير للكلام في (علم الكلام) وهذا من جهة أولى، وأن يكون ذلك الطريق، من جهة ثانية، الفصول التي تتصل بقضية الخلافة أَو الإمامة العظمى.
لا نود تكرار الآراء المتداولة التي يكثر الرجوع فيها إلَى مقدمة ابن خلدون (تعريف العلم، التمييز في الاستدلال الكلامي بين طريقه المتقدمين وطريقة المتأخرين في الأخذ بعضا أَو كلا بالمنطق الأرسطي، القول بأن علم الكلام -في عهد ابن خلدون على الأقل- قد أصبح (غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم، إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا...) إلخ). وإنما نريد فقط أن نقرر -انطلاقا مما يتبين في وضوح تام- أنه الاعتقاد الخلدوني، أن صاحبنا أشعري المنزع والعقيدة وقد تكفى في ذلك صفة الإطلاق التي يتحدث بها عن كبار الأشاعرة وشيوع فكرهم (ثم جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلاني إمام الحرمين أبو المعالي الجويني فأملى في الطريقة (كتاب الشامل) وأوسع القول فيه ثم لخصه في كتاب (الإرشاد) واتخذه الناس إماما لعقائدهم)(5).
لا تتقرر في علم الكلام أصول الاعتقاد على قول معلوم فحسب (اعتزال، أشعرية، حنبلية، إمامية، زيدية... إلخ)، ولا تتعين كليات العلوم الدينية ومبادئها فقط بل إن هنالك أمرا ثالثا، شديد الخطورة يتم البث فيه على نحو لا يخلو من المواربة والمداهنة وهو القول في الإمامة العظمى وفي الموضوعات التي تتصل بها. والانتماء الأشعري لابن خلدون في مسألة الإمامة العظمى والموضوعات التي ترتبط بها واضح فلا يكون في حاجة إلَى تأويل لقول أبي زيد، والمتمرس بكتاب (الأحكام السلطانية) لأبي الحسن الماوردي الأشعري يجد أن المؤرخ العربي يستعيد جملا، بل فقرات بأكملها من الكتاب المشار إليه، وابن خلدون يذكر الماوردي وكتابه تصريحا لا تلميحا في الفصل المتعلق بالخطط الدينية الخلافية في حديثه عن أحكام إمامة المساجد (وأحكام هذه الولاية وشروطها والمولى فيها معروفة ومبسوطة في كتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي وغيره فلا نُطِيل في ذكرها)(6).
أما الشأن في أصول الفقه فآخر، ذلك أن الصلة بين هذا العلم وبين (علم التاريخ) صلة مباشرة تظهر أولا في مستوى الانتساب إلَى المذهب الأصولي، وتتجلى ثانيا في مستوى حضور المصطلح الأصولي في الخطاب الخلدوني. فأما القول في النسبة الخلدونية للمذهب الأشعري في أصول الفقه فهي واضحة وضوح نسبته إلَى المذهب الكلامي الأشعري. وقد يكفى في ذلك تنويه صاحب المقدمة، في الفصل المعنون (أصول الفقه وما يتعلق به من الجدل والخلافيات) بالنصوص الأشعرية الكبرى: (البرهان) لإمام الحرمين، و(المستصفى) للغزالي، وكتاب (المحصول) للآمدي وكذا كتابه (الأحكام) وغيرها. وأما حضور المصطلح اًلأًصولي في الخطاب الخلدوني فيقتضي منا وقفة متأنية. والحق أن هذه الوقفة تستدعي أن تكون جردا إحصائيا وكشافا شاملا بالمفردات الأصولية، بيد أن ذلك ليس مما يحتمله هذا الإسهام الذي يستهدف التنبيه دون أن يدعي الإحاطة والشمول. والتنبيه في مقام حديثنا تنبيه إلَى ملاحظات نختار منها ثلاثا:
1- يقول صاحب المقدمة، في حديثه عن الأسباب التي تجعل المؤرخين يقعون في الأخطاء الشنيعة في نقلهم للأخبار أن هذه الأخيرة (إذا اعتُِمدَ فيها على مجرد النقل، (...) ولا قياس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب (...) وكثيرا ما وقع المؤرخون والمفسرون وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أَو سمينا، لم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا مبررها بمعيار الحكمة...)(7). فنحن هنا أمام الآلية الأصولية الكبرى، آلية القياس: قياس الغائب بالشاهد، قياس الأشباه والنظائر، قياس الفروع على الأصول. ونحن في جوف القياس الأصولي أمام تفصيل في الآلية أَو قل: أمام خطوة منهجية ملازمة للقياس الأصولي: تلك التي تقوم على التقسيم والسبر (تقسيم المسألة إلَى ما يقتضيه حالها من الأجزاء والأقسام، ثم سبر كل جزء على حدة - كما يكون سبر غور البئر، أي إنفاذ آلة فيه لمعرفة مدى عمقه).
2- نعلم أن إحدى الخطوات المنهجية التي يقتضيها التعليل عند الأصولي، وتستدعيها آلية القياس ويتوجبها عمل (التقسيم والسبر) هي تلك التي تقوم على التمييز بين المتفق والمختلف بحثا عن (العلة) - وهذه غاية القياس الأصولي أَو (الثمرة) كما يقول علماء أصول الفقه. وفي علم التاريخ (يحتاج صاحب هذا الفن إلَى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات (...) والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أَو بون ما بينهما من الخلاف وتعليل المتفق عليه (...) حتى يكون مستوعبا لأسباب كل حادث، واقفا على أصول كل خبر وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول)(8).
نقول، في كلمة جامعة، استخلاصا من قراءة هذا النص: إن المؤرخ في حاجة إلَى معرفة الآلية الأصولية جميعها، في خطواتها ودقائقها، ذلك أن عمل (صاحب هذا الفن) هو، متى دققنا الفكر وأمعنا النظر، عين العمل الذي يقوم به المجتهد إذ يلتمس العلة في الحكم ويستقصي دواعي الترجيح: ترجيح رأي على آخر مخالف له أَو مناقض له بعد أن يكون قد قسم، وسبر، وماثل، وميز بين المتفق عليه والمختلف فيه. كتابة التاريخ اجتهاد: والشروط اللازم توافرها في المجتهد، حين ينظر في الأحكام، هي عينها التي تلزم المؤرخ عندما ينظر في الأخبار.
يميز علماء أصول الفقه، كما هو معلوم، بين أمور ثلاثة تلزم الإنسان في وجوده والنظر فيها هي: مدار التكليف أولا، وهو القاعدة التي يلزم الأخذ بها في التماس (المصلحة) والوقوع على (مقصد الشارع). ثانيا - تلك الأمور الثلاثة: الضروري، والحاجي، والكمالي أَو التحسيني، فلا يطلب الحاجي إلا بعد استيفاء الضروري، ولا ينشد الكمالي إلا بعد التوافر على الحاجي - والترتيب ملزم فلا يحوز التفريط فيه. والمؤرخ العربي الكبير، صاحب نظرية العمران البشري، يقول في فصل شهير من فصول المقدمة: (اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم، إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاشر، فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله، والابتداء بما هو ضروري منه ونشيط قبل الحاجي والكمالي، فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة والزراعة (...) ومنهم من ينتحل القيام على الحيوان من الغنم والبقر والماعز والنحل (...) وهؤلاء القائمون على الفلح والحيوان تدعوهم الضرورة ولابد إلَى البدو لأنه متسع (...) ثم إذا اتسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه - دعاهم ذلك إلَى السكون والدعة وتعاونوا في الزائد على الضرورة واستكثروا من الأقوات والملابس والتأنق فيها (...) واختطاط المدن والأمصار (...) فيتخذون القصور (...) وهؤلاء هم الحضر)(9).
فكما أن الضروري يسبق الكمالي، فإن (البداوة) تكون سابقة على (الحضارة)، و(الخشونة) و(شظف العيش) يكونان متقدمين على (الرقة) و(التأنق) ثم (التفنق) (وهذه كلها عبارات خلدونية بطبيعة الأمر). لذلك يكون من الطبيعي، بحكم هذا المنطق، أن يكتب ابن خلدون فصلا (في أن أجيال البدو والحضر طبيعية) وآخر في (أن البدو أقدم من الحضر وسابق عليه وأن البادية أصل العمران) وأن يبسط في فصول المقدمة الأخرى أقواله في الاجتماع البشري والعمران من ثم نظريته في الحضارة عامة. وبعبارة أخرى فإن صاحب المقدمة ليس فقط فقيها أصوليا أُشْرِبَ الثقافةَ الفقهية منذ صباه وشبابه الأول فكانت خطواته الأولى في الكتابة والتأليف قولا ومشاركة في تلك الثقافة - بل إن أصول الفقه (لغة ومضامين ومنهجا) تظل المنفذ الضروري لفهم نظرية صاحبها في الحضارة وأطوارها، بل تمهيدا لذلك الفهم، في إدراك مغزى العمران والوقوف على طبيعة الاجتماع البشري.
هل يعني هذا القول الانتقاص من شأن (الحكمة) و(العلوم الحكمية) والحال أن صاحب المقدمة يعد هذه الأخيرة (الطبيعيات والإلهيات من الفلسفة) من (العلوم المتعارفة بين أهل العمران) من جهة أولى ويصنفها، كما ذكرنا سابق، في دائرة (العلوم المقصودة بالذات) ليسوي بينها، وبين الشرعيات، من جهة ثانية؟ هل يمكن أن ننقض ما قلناه في السابق من انتساب التاريخ إلَى العلوم الشرعية وإلى الإلهيات معا؟ من البدهي أن الإجابة عن كلا السؤالين لا تملك إلا أن تكون سلبا وإلا كذبتنا في ذلك أقوال ابن خلدون نفسه في مواطن عديدة من المقدمة وناقضتنا عبارته المختلفة والمتنوعة في فصول كثيرة. لقد ظل مؤرخنا العربي الكبير يمتاح دوما من البئرين: بئر العلوم الشرعية، وبئر العلوم الحكمية. لكن هذه الأخيرة إذ تنشد أن تكون عقلا مجردا والتماسا لمنطق ومعنى ذاتيين يحكمان التاريخ بعيدا عن (الشرع) ويعملان خارج مجاله فإن الفقيه الأصولي، والمتكلم الأشعري عبد الرحمن بن خلدون سرعان ما يمسك بالتاريخ إذ هو (خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال). وما يعرض لتلك الطبيعة من الأحوال لا يملك المؤرخ إلا أن يقول: إنها سنة الله يجريها في الكون على (مستقر العادة).


3- التاريخ البشري ومستقر العادة
نقرأ لابن خلدون في الفصل المخصص لعلم الكلام قوله:
(إن الحوادث في العالم الكائنات، سواء كانت من الذوات أَو من الأفعال البشرية أَو الحيوانية فلابد لها من أسباب متقدمة عليها، بها تقع في مستقر العادة، وعنها يتم كونه، وكل واحد من هذه الأسباب حادث أيضا، فلابد له من أسباب أخرى، ولا تزال تلك الأسباب مرتقية حتى تنتهي إلَى مسبب الأسباب وموجدها وخالقها، -سبحانه وتعالى- لا إله إلا هو، وتلك الأسباب في ارتقائها تتضح وتتضاعف طولا وعرضا ويحار العقل في إدراكها وتعديدها)(10).
تتصل الموجودات في الكون وترتبط ببعضها بعضا ارتباطا يجعل بعضاً منها يكون سببا لوجود الآخر، ويجعل بعضها الآخر، بالمقابل، مسَّببًا (فتح الباء الأولى والثانية). ومتى أمعن الناظر الفكر وجعل العقل يرتقي في سلم المدارك فإنه ينتهي، وجوبا، إلَى أصل يكون أولا بالضرورة: ذلك هو (مسبب الأسباب وموجدها وخالقها) فالله يسبب الأسباب ويخلقها من عدم، بمعنى أنه يوجدها بعد أن لم تكن. وفي كل مستويات الفعل، في كل مرتبة يقدر العقل فيها أن شيئا يكون مسببا (نتيجة) وأن آخر يكون سبا (علة)، فإن حقيقة الأمر أن الفاعل على الحقيقة هو الله، فهو علة كل ما في الكون من موجودات أَو هو سبب الأسباب. ذلك ما يقوله صاحب المقدمة بكيفيات مختلفة وما تأتي كل المفاهيم الفاعلة في العمران البشري لدعمه وتوضيحه، من تلك المفاهيم ومن حيث هي ترجمة لنظام من العلاقات، ولصلة متصلة من الأسباب والمسببات نقترح الوقوف عند أمثلة ثلاثة:
1- المثال الأول هو مثال العصبية، ومكانة العصبية في النظرية الخلدونية ليست، فيما نحسب، في حاجة إلَى بيان لكثرة حديث الدارسين عنها من جهة ولوضوح المعنى فيها من جهة أخرى: فالعصبية عند ابن خلدون هي المحرك العميق الباطن إذ بها تكون المطالبة والمدافعة وكل أمر يجتمع عليه، كما يكرر مؤرخنا الكبير في مواطن عديدة من المقدمة. ولكن العصبيات تتفاوت من جهة القوة والتأثير وهي تعرف أطواراً معلومة من الظهور والضمور. والتغلب الذي يفضي إلَى الملك ونشأة الدولة يقتضي خضوع العصبيات الموجودة في اجتماع معلوم إلَى (عصبية تكون أقوى من جميعها تغلبا) (...) وإلا وقع الافتراق المُفْضي إلَى الاختلاف والتنازع، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)(11). وإذن فإن العصبية، تلك القوة الباطنة المحركة، ليس لها أن تعمل من تلقاء ذاتها، بل الحق أن الفاعل على الحقيقة هو الله تعالى-. فالمبدأ المفسر هو إرادة الله: الموجد، الخالق، الفعَّال لما يريد.
2- المثال الثاني هو ما يكون عن العصبية من التغلب وحصول الملك. (الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية، واتفاق الأهواء على المطالبة وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعرفة من الله في إقامة دينه. قال تعالى- (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم)(12).
إذا كان تحصيل الملك يقتضي التغلب، وكان هذا الأخير يستدعي وجود العصبية القوية التي تتمكن من صهر العصبيات الأخرى القائمة وإخضاعها لسيطرة عصبية واحدة غالبة - فإن الشرط الأول (الضروري والكافي كما يقول المناطقة) في ذلك وهو اجتماع الكلمة حول عصبية واحدة وحول شخص واحد ينطق باسم تلك العصبية ويكون محمولا إلَى الزعامة والصدارة بموجب تلك العصبية - إن ذلك الشرط لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود الإرادة الإلهية التي تشاء ذلك الاجتماع وتقدر التأليف بين القلوب المختلفة. وإذن فإن الفاعل على الحقيقة، ما به يكون التغلب المفضي إلَى الملك، هو الإرادة الإلهية.
3- المثال الثالث نقتطفه من الفصل المعنون (في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم)، ولا يخفى أن هذا الفصل من أشد فصول المقدمة دليلا على الأثر الحاسم للعصبية في التاريخ البشري وليست الدعوة الدينية ذاتها تشذ عن ذلك. يقول ابن خلدون: (كل أمر تجعل عليه الكافة فلابد له من العصبية، وفي الحديث الصحيح (...) ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه. وإذا كان هذا في الأنبياء، وهم أولى الناس بخرق العوائد، فما ظنك بغيرهم أَلاَ تخرق له العادة (...)! وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه. وهكذا أحوال الأنبياء، -عليهم الصلاة والسلام-، في دعوتهم إلَى الله بالعشائر والعصائب وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء، لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة - والله حكيم عليم) (13).
القول بأن الله أجرى الأمور على مستقر العادة قول يعني، من جهة أولى، أن العادة هي من التكرار و الاطراد في الكون، بحيث إنها تصبح مستقرة أَو قل: إنها تصبح شأنا نألفه ونتعود عليه فهو عادة بمعنى أنه لا يثير دهشة ولا استغرابا. ولكن هذا القول يعني، من جهة ثانية، أن مستقر العادة لا يدق عن الفهم، فهو يقبل المعرفة، بمعنى أنه ينتظم على نحو يكون قابلا للمعرفة وتلك (القابلية للمعرفة) - لو أردنا استعمال تعبير مماثل لها فهي السنن التي أقامها الله في الكون، سنن الله التي لا تقبل تبديلا ولا تحويلا.
متى أدركنا الأمور على هذا النحو فنحن نستطيع الوقوع على (طبائع الأشياء) دون أن يكون في ذلك اجتراء على المشيئة الإلهية أَو نيل من إرادة الله التي تتصف بالحرية والإطلاق. لكن هذا الإدراك لا يتأتى لنا إلا متى وقعنا على المغزى العميق للعادة، وفهمنا معنى (مستقر العادة) في النظام المعرفي الخلدوني. في ذلك النظام ليست العادة، متى نظرنا إليها من جهة المنطق، سوى البديل الضروري لمفهوم آخر متداول بالقدر ذاته الذي يكون به عاجزا عن حل الإشكال الناتج عن حصول التعارض بين (طبائع الأشياء) (أي اقتضاء اتصال سلسة الأسباب والمسببات، وقيام (العلة) في الشيء ذاته) من جهة، وبين إرادة الله (مسبب الأسباب والفاعل على الحقيقة، من جهة أخرى). الحق أن عبد الرحمن بن خلدون يستعيد، في مقام البحث في (العمران البشرى) وفي العماد الخفي الذي يتحقق بموجبه، ما سعى إلَى القيام به أبو حامد الغزالي في مجال المعرفة العقلية وتحققها، حيث يكون التمييز بين حصول الاحتراق عند ملاقاة القطن للنار، وليس حدوث الاحتراق بسبب ملاقاة القطن للنار. حصول الشيء (عنده) وليس حصوله (به) هو ما يقضي مبدأ السببية جانبا ويجعل الفهم والتعليل ممكنين عند المفكر الأشعري. الفهم يقتضي حضور العقل وقد كان مبدأ التجويز الآمر المطاع وذاك هو العقل الأشعري ومنطقه الذاتي، والتعليل يستدعي الآلية الأصولية التي تكسب ذلك العقل معنى ودلالة: أصول الدين من جانب أول وأصول الفقه من جانب ثان. تلك هي الدعامة المعرفية أَو لنقل، إن شئنا ذلك، تلك هي البنية الباطنة التي تحكم الخطاب الخلدوني وتوجهه.




---------------------

الحواشي
(*)باحث وأكاديمي من المغرب.
1- عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة، مطبوعات الحاج عبد السلام بن شقرون، القاهرة (د.ت), ص417.
2- انظر: الفصل الأول من كتابنا، الخطاب الأشعري، مساهمة في دراسة العقل العربي الإسلامي، دار المنتخب العربي، 1992م، بيروت, ص39-42.
3- ابن خلدون، المقدمة... المرجع السابق, ص2.
4- المرجع السابق، ص29.
5- المرجع السابق، ص347.
6- المرجع السابق، ص165.
7- المرجع السابق، ص7.
يقول ابن خلدون في تعليقه على شرط القرشية في الإمامة العظمى: (إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النسب القرشي ومقصـد الشارع منه لم يقتصر فيه على التبرك بوصلـة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما هو في المشهور وإن كانت تلك الوصلة موجودة والتبرك بها خاصة. لكن التبرك ليس من المقاصد الشرعية كما علمت، فلابد إذن من المصلحة في اشتراط النسب وهي المقصودة من مشروعيتها. وإذا سبرنا وقسمنا لم نجدها إلا اعتبار العصبية التي تكون لها الحماية والمطالبة ويرتفع الخلاف والفرقة), ص146.
8- المرجع السابق، ص22.
9- المرجع السابق، ص91.
10- المرجع السابق، ص342.
11- المرجع السابق، ص105.
12- المرجع السابق، ص118.
13- المرجع السابق، ص119-120.
المصدر
 
أعلى