أيمن محمد العمر
:: متخصص ::
- إنضم
- 28 أبريل 2010
- المشاركات
- 55
- الكنية
- أبو محمد
- التخصص
- الفقه وأصوله
- المدينة
- الكويت
- المذهب الفقهي
- الحنبلي
ترتيب «كتاب الجهاد» بين الموضوعات الفقهية
في مصنفات الحنابلة البهيّة
في مصنفات الحنابلة البهيّة
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن سار على نهجهم واستن بسنتهم إلى يوم الدين ، أما بعد :
فقد جرى نقاش حول ترتيب «كتاب الجهاد» بين الموضوعات الفقهية لدى السادة الحنابلة في مصنفاتهم الفقهية ، هل يذكر في «قسم العبادات» بعد «كتاب الحج ، أو أن حقَّه التأخير إلى ما بعد «كتاب الحدود» ؟!
فرأيت أن أعد ورقة أجلّي فيها ما ظهر لي بعد دراسة مصنفات الحنابلة الفقهية ، سائلاً المولى عز وجل أن يتضح بها الأمر ، وتتجلى بها الصورة ، فأقول :
يحتاج المحقق لمعرفة منهج فقهاء الحنابلة في ترتيب الموضوعات الفقهية أن ينظر في تلك المصنفات الوفيرة التي ورَّثها علماؤهم الأفذاذ بدءًا من كتب المتقدمين ، وعلى رأسهم كتاب الإمام عمر بن الحسين الخرقي المعروف بـ (مختصر الخرقي) باعتباره أول متن صنف في فقه السادة الحنابلة ، وانتهاء بكتب المتأخرين .
وبنظرة فاحصة نرى أن أول هذه المتون الفقهية وهو (مختصر الخرقي) قد جرى فيه مصنفه على جعل «كتاب الجهاد» بعد «كتاب الحدود» جرياً على طريقة الشافعية في ترتيبهم للموضوعات الفقهية .
يقول الشيخ بكر أبو زيد : «فإن الخرقي – رحمه الله تعالى – وهو أول الماتنين في المذهب، قد جرى على طريقة أصحاب الإمام الشافعي ، فحذا في ترتيب مختصره حذو المزني في ترتيب مختصره ؛ إذ جعل الجهاد بعد الحدود ، وختم مختصره بالعتق»(1) .
واستمر هذا الترتيب – أعني وضع «كتاب الجهاد» بعد «كتاب الحدود» – إلى طبقة المتوسطة من علماء الحنابلة ، وهم علماء القرن السابع والثامن تقريباً ، فساروا على منوال من قبلهم من المتقدمين في هذا الترتيب .
ولعل السبب في ذكر «كتاب الجهاد» بعد «كتاب الحدود» راجع إلى أن الفقهاء رحمهم الله نظروا إلى كل ما فيه تعدٍّ لحدود الله تعالى وتجاوز لمحارمه وبينوا أحكامه، فابتدءوا بذكر الاعتداء على الأموال والأعراض والأنفس وما يتعلق بذلك من حدود وقصاص، ثم بعد ذلك انتقلوا لبيان ما هو أعظم من ذلك وهو الاعتداء على الدين المتمثل بأحكام المرتدين ، فذكروه بعد الحدود والقصاص ، ثم تدرجوا إلى ما هو أكبر خطراً وهم الكفار الأصليون وما يتعلق بأحكام جهادهم وقتالهم على اختلاف أصنافهم (2).
وبنظرة فاحصة لمصنفات المتقدمين والمتوسطين من علماء المذهب ، ندرك أن منهجية ترتيب «كتاب الجهاد» بعد «كتاب الحدود» هي المنهجية التي كان معمولاً بها في تلك الحقبة الزمنية لدى علماء الحنابلة . وإليك سرداً لبعض تلك المصنفات(3) :
1) «مختصر الخرقي» ؛ لعمر بن الحسين (ت334هـ) .
2) «الجامع الصغير» ؛ للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين (ت458هـ) ؛ حيث ذكره ضمن «كتاب السير» بعد «كتاب الحدود».
3) «رؤوس المسائل الخلافية» ؛ لأبي جعفر الهاشمي (ت470هـ) ؛ وهذا الكتاب وإن لم تكتمل أجزاؤه ، إلا أن الناظر في الأجزاء المطبوعة يدرك أن عدم ذكره لـ «كتاب الجهاد» بعد «كتاب الحج» يدل دلالة واضحة على أن مصنفه جرى على عدم ذكره ضمن «قسم العبادات» .
4) «كتاب التمام لما صح من الروايتين والثلاث والأربع عن الإمام» ؛ للقاضي محمد بن محمد بن الحسين الفراء الحنبلي (ت526هـ) .
5) «الكافي في فقه الإمام أحمد» ؛ لأبي عبد الله الموفق ابن قدامة (ت620هـ) .
6) «عمدة الفقه» ؛ لأبي عبد الله الموفق ابن قدامة (ت620هـ) .
7) «زوائد الكافي والمحرر على المقنع» ؛ لعبد الرحمن بن عبيدان الدمشقي (ت630هـ) .
8) «المحرر في الفقه» ؛ لمجدالدين أبي البركات ابن تيمية (ت652هـ) .
9) «الفروع» ؛ لأبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي (ت763هـ) .
10) «التسهيل في الفقه» ؛ لمحمد بن علي اسباسلار البعلي الحنبلي (ت778هـ) .
إلا أن الملاحظ أن الموفق ابن قدامة - رحمه الله تعالى - لم يلتزم منهجية واحدة في جميع مصنفاته الفقهية، فأنت تراه هنا يوافق طبقة المتقدمين والمتوسطين في تأخير «كتاب الجهاد» إلى ما بعد «كتاب الحدود». في حين أنك تراه يخالف هذا الترتيب في كتابه «المقنع» ، و«الهادي» أو «عمدة الحازم في المسائل الزوائد عن مختصر أبي القاسم» ، وهو في هذا الأخير يخالف ترتيب أصله وهو «مختصر الخرقي» بالرغم من أنه زوائد عليه(4) .
ووافق ابنَ قدامةَ في تقديم «كتاب الجهاد» وجعله ضمن «باب العبادات» وبعد «كتاب الحج»: أبو طالب الضرير (ت694هـ) في كتابه «الحاوي الصغير على مذهب الإمام أحمد بن حنبل» .
ووافقه أيضاً أبو النجا موسى بن أحمد المقدسي الحنبلي (ت690هـ) في كتابه «زاد المستقنع» لأنه اختصر فيه كتاب «المقنع» لابن قدامة رحمة الله على الجميع .
ولما كان الموفق ابن قدامة من أكثر من خدم مذهب الإمام أحمد - في طبقته - تصنيفاً وتحقيقاً ، حتى عدَّه البعض «ابن حنبل الثاني» ، اعتنى من بَعدَه من العلماء بكتبه وتصانيفه وخصوصاً «المقنع» ؛ فتناولوه بالشرح والتعليق ، الأمر الذي آل إلى تغير منهج الترتيب لدى طبقة المتأخرين – أي بعد القرن الثامن – فألفت المتون ورتبت الموضوعات الفقهية على نسق ترتيب كتاب «المقنع» للموفق ابن قدامة ، بجعل «كتاب الجهاد» بعد «كتاب الحج» ضمن العبادات .
ويؤكد هذا الشيخ بكر أبو زيد – رحمه الله – حيث ذكر أنَّ كل من جاء بعد ابن قدامة من الماتنين إنما جروا على نسق ترتيب ابن قدامة للموضوعات الفقهية ؛ فيقول : «ولما جاء ابن حنبل الثاني : الموفق ابن قدامة ت سنة (620هـ) وألف المتون الثلاثة : العمدة ، والمقنع ، والكافي، صار الماتنون تبعاً له في الترتيب من طبقته المتوسطين، ثم طبقة المتأخرين إلى الآخر، واستقر أمر الناس على ذلك»(5).
والسبب في ذكر «كتاب الجهاد» ضمن «أبواب العبادات» هو نظرة علماء المذهب إلى الملاءمة الموضوعية بين الجهاد وموضوع العبادة ؛ حيث إنه من باب الدعوة إلى الله تعالى ونشر الإسلام الذي هو من أعظم القرب إلى الله تعالى(6).
ومما يؤيد استقرار منهجية ترتيب «كتاب الجهاد» بعد «كتاب الحج» استقراء كتب المتأخرين وترتيبهم للموضوعات الفقهية ؛ حيث جرى العمل عندهم على هذا مخالفين بذلك منهج المتقدمين والمتوسطين ، وإليك سرداً أسماء بعض مصنفات المتأخرين التي عملت بهذه المنهجية :
1) «التنقيح المشبع» ؛ لعلي بن سليمان المرداوي (ت885هـ) .
2) «مغني ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة في الأحكام» ؛ ليوسف بن الحسن بن عبدالهادي (ت909هـ) .
3) «التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح» ؛ لأحمد بن محمد الشويكي (ت 939هـ) .
4) «الإقناع» ؛ لموسى بن أحمد بن موسى أبو النجا الحجاوي (968هـ) .
5) «منتهى الإرادات» ؛ لابن النجار محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي (ت972هـ) .
6) «دليل الطالب لنيل المطالب» ؛ لمرعي بن يوسف الكرمي (ت1033هـ) .
7) «غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى»؛ لمرعي بن يوسف الكرمي (ت1033هـ).
8) «أخصر المختصرات» ؛ لمحمد بن بدر الدين بن بلبان (ت1083هـ) .
هذا ما تيسر بيانه ، ولله الحمد أولاً وآخراً ، فما كان فيه من حق فمن الله وحده ، وما كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان ، والله ورسوله منه بريئان .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
(1) المدخل المفصل في فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب (2/679) .
(2) انظر : ترتيب الموضوعات الفقهية ومناسباته في المذاهب الأربعة ؛ للدكتور عبدالوهاب أبو سليمان (ص66) .
(3) لم أذكر ضمن قائمة كتب المذهب «الشروح»؛ لأن المفترض في الشارح أنه يسير على وفق ترتيب المتن الذي يشرحه، فلا يمكن اعتبار ذلك منهجاً له في تقديم الموضوعات أو تأخيرها .
(4) قد يقال في هذا المقام : إن الفترة الزمنية التي عاشها ابن قدامة كان لها أثر في تبدل منهجية الترتيب بين الموضوعات الفقهية ، وتقديم كتاب الجهاد إلى أبواب العبادات؛ ذلك أن ابن قدامة رحمه الله تعالى كان ممن شارك في الحروب الصليبية؛ فكان لإيمانه بأهمية الجهاد في سبيل الله ، ورغبته في حث المسلمين على رد عدوان الكافرين عن ديار الإسلام أثر في تبدل هذه المنهجية. إلا أنه لا يمكن الجزم بهذه الفرضية لعدم العلم بزمن تأليف المصنفات التي وقع فيها التغيير. فلينظر .
(5) المدخل المفصل (2/680) .
(6) انظر : ترتيب الموضوعات الفقهية (ص74) .