طالبة فقه
موقوف
- إنضم
- 7 ديسمبر 2010
- المشاركات
- 260
- التخصص
- .فقه
- المدينة
- فــي نــجــد
- المذهب الفقهي
- الحنبلي
الجنائز جمع جَنازة وجِنازة, بفتح الجيم وكسرها, واللفظان للميت, أو للسرير وعليه الميت, ومنهم من يجعل الأعلى للأعلى والأسفل للأسفل, جَنازة للميت وجِنازة للسرير, ويطردون هذا في بعض الألفاظ, فيقولون مثلاً دَجاجة بالفتح للذكر ودِجاجة بالكسر للأنثى, ويقولون الماتح بالتاء المثناة من فوق للذي يكون في أعلى البئر والمايح بالياء للذي يكون في أسفل البئر عند استقاء الماء من البئر. ولا يوجد في كتب المتقدمين تعريف مثل هذه الألفاظ المعروفة, وإنما احتاج إليها المتأخرون لاحتمال أن يوجد من لا يعرف المراد بهذه الألفاظ, لكثرة الاختلاط بين من يعرف هذه الاصطلاحات مع غيرهم. والترتيب العلمي في اصطلاح العلماء أن يُعرَّف الشيء ثم بعد ذلك تُذكَر الأحكام المتعلقة به, فهم يرون أن الأحكام المترتبة على اللفظ لا تكون إلا بعد تصوره.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ r {أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اَللَّذَّاتِ: اَلْمَوْتِ} رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ, وَالنَّسَائِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وصححه الحاكم وابن السكن وجمع من أهل العلم, وله طرق وشواهد تجعل لتصحيحهم وجهاً. وجاء في بعض الألفاظ (هادم) بالدال المهملة, وجاء في بعضها (هازم), والفرق بين هذه الألفاظ أن الهاذم هو القاطع, والهادم هو المزيل كالذي يهدم البناء, والهازم هو الغالب, وإذا نظرنا إلى الموت وجدنا فيه هذه المعاني كلها. فهو يقطع اللذات المحسوسة من متع هذه الحياة الدنيا ويحول بين المرء وبينها, وهذا بالنسبة لمستوى الناس كلهم الذي يشتركون فيه في متع هذه الحياة الدنيا, لكن من الناس من ينتقل إلى ما هو أشد متعةً ولذةً مما في الحياة الدنيا, ومنهم من ينتقل حالٍ سيئة نسأل الله السلامة والعافية. وهو أيضاً هادم ومزيل للنعم, مزيلٌ لها بحقيقته أو بذكره عند من أحيا الله قلبه. وهو أيضاً غالبٌ لهذه
اللذات. ولذا ينكر كثيرٌ من الناس على من يذكر الموت في أوقات الانبساط وفي الأعياد والأعراس, لكن أولى ما يُذكَر فيه الموت هذه المواطن, مع أنه ينبغي أن يكون على لسان المسلم امتثالاً لهذا الحديث, وللمصلحة المترتبة على ذكره لأنه لا يُذكَر في كثيرٍ إلا قلله ولا في قليلٍ إلا كثَّره, ولئلا يسترسل في اتباع شهواته وملذاته وينسى ما أمامه من أهوال, فإذا استحضر ذكر الموت ارتاح ضميره وعمل لما بعد الموت. وجاء في بعض ألفاظ هذا الحديث بعد الأمر بذكر الموت أن من أكثر ذكره أحيا الله قلبه, ومعناه صحيح, لأنك إذا تصورت ما أمامك عملت, وإذا نسيت ما أمامك أهملت وغفلت.
وَعَنْ أَنَسٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ r {لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ اَلْمَوْتَ لِضُرٍّ يَنْزِلُ بِهِ, فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اَللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ اَلْحَيَاةُ خَيْرًا لِي, وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ اَلْوَفَاةُ خَيْرًا لِي} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
على المسلم أن يكثر من ذكر الموت ليحدوه ذلك إلى العمل, لكن لا يتعجل الموت لما يقاسيه من آلام ومشاق, فكل ما طال عمر المسلم وحَسُن عمله كان خيراً له, والذي يتصور الهدف الحقيقي من وجوده في هذه الحياة ويتمنى أن تكون عاقبته حسنة لا يتمنى انقطاع وقت الزرع, ليزداد من حياته لموته, لأن الموت يقطع الزاد الموصل إلى مرضاة الله وإلى جناته إلا ما استثني. وقوله (لضر نزل به) أي لا يتمنى الموت لهذا السبب, وهو حصول الضر في أمور الدنيا في بدنه أو في ولده أو في ماله, وأما تمني الموت بسبب أمر من أمور الآخرة - بأن رأى أسباب الفتن قد انعقدت وغلب على ظنه أنه لا يثبت أمام هذه الفتن - فإنه لا بأس حينئذ في تمني الموت خشية أن يفتن في دينه. فالمؤمن يتمنى طول الحياة لا لذات الحياة وإنما ليغرس فيها ويعمل لآخرته, لكن إذا كان يغلب على ظنه أن يتضرر من هذه الحياة فلا مانع من أن يتمنى الموت. ومريم بنت عمران عليها السلام تمنت الموت, لأنها خشيت أن تفتن في دينها بتسلط الناس عليها حين يرون أنها أتت بولد من غير زوج. فإذا وجد مبرر شرعي ديني وخشي الإنسان على دينه لا على دنياه فإنه له أن يتمنى الموت. ومن ذلك تمني الشهادة, والشهادة موت, والنبي عليه الصلاة والسلام قال: والذي
نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل. وقوله (فإن كان لا بد متمنياً) يعني لم يحتمل المصيبة التي يعيشها (فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي, وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي) لأنه لا يعلم الغيب, فيكل الأمر إلى الله جل وعلا ويجعل الخيرة له سبحانه وتعالى يختار له ما يصلح له في دينه ودنياه.
يجوز أن يكون الإنسان سبباً في قتله إذا كانت المصلحة راجحة, مثل أن يقتحم صفاً, أو ينزل في بكرة من حصن على الكفار ويغلب على الظن أنه يقتل, أو يدل العدو على كيفية قتله كما في قصة الغلام التي هي في شرع من قبلنا لكنها سيقت مساق المدح في شرعنا. وأما أن يباشر قتل نفسه فلا أعلم في النصوص ما يدل على جوازه مهما كان المبرر, وفرقٌ بين التسبب والمباشرة, وعلى كل حال هناك من يفتى في هذه المسائل بأن الإنسان له أن يقتل نفسه إذا ترجحت المصلحة لا سيما المصلحة العامة, فلو خشي إفشاء الأسرار للكفار اتجه القول بجواز أن يباشر قتل نفسه عند بعض أهل العلم. ومثل ذلك العمليات التي يختلفون فيها, فمن أهل العلم من أجازها لأنه رأى أن فيها نكاية بالعدو وأنه لا وسيلة لتحصيل الحقوق إلا بها, وأما أنا فلا أعرف نصاً يبيح ذلك, والمسألة اجتهادية, لأنه وُجِد في النصوص ما يبيح التسبب مما يقرب من المباشرة كما في قصة الغلام, فإنه كان يقول لهم (خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني) وكانت المصلحة راجحة, ولم يباشر قتل نفسه, لكنه تسبب تسبباً قريباً من المباشرة.
جاء في الحديث الدعاء بقوله (وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) وهذا من الخوف على الدين, وجاء أيضاً قول يوسف عليه السلام (توفني مسلماً وألحقني بالصالحين) وهذا فيه طلب الوفاة لكن لا مطلقاً, وإنما طلب الوفاة على الإسلام, ولا يلزم من ذلك أن تكون الوفاة الآن أو قريباً من الآن, بل يطلب أن يكون مسلماً حال وفاته, فلا تعارض, وكلٌ يدعو ربه ويتمنى أن يموت على الإسلام ولو بعد حين.
ذم طول الأمل هل فيه مخالفة مع النهي عن تمني الموت؟ دعاء الإنسان لنفسه بطول العمر يقابل تمني الموت, فهل مفهوم النهي عن تمني الموت أن يدعو الإنسان بطول العمر؟ أو يترك الأمر لله جل وعلا ويعمل ما أُمِر به؟ ولذا جاء ذم طول الأمل, كما في قوله (يشب
ابن آدم ويشب منه خصلتان حب الدنيا وطول الأمل) بل جاء ما يدل على تقصير الأمل, وفرق بين أن يسعى في تقصير عمره وبين أن يعمل على مقتضى قصر عمره, فإن ما يقتضيه قصر العمر اغتنام الوقت, وما يقتضيه طول الأمل التفريط في الأوقات, فنظراً لما يقتضيه الأمران استُحِب هذا وذُمَّ هذا, ولذا جاء في الحديث الصحيح (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) لأن تصور الإنسان أنه غريب يحدوه إلى مضاعفة جهده في كسب الحسنات والابتعاد عن السيئات.
وَعَنْ بُرَيْدَةَ t عَنِ اَلنَّبِيِّ rقَالَ: {اَلْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ} رَوَاهُ اَلثَّلَاثَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
لم يخرِّج أبو داود هذا الحديث, وإنما خرَّجه الترمذي والنسائي وابن ماجه, وهذا يرد على اصطلاحه في الثلاثة. وللحديث شاهد من حديث ابن مسعود وغيره, وهو قابل للتصحيح بشاهده.
وقوله عليه الصلاة والسلام (المؤمن يموت بعرق الجبين) عبارةٌ عما يكابده المؤمن عند نزع روحه, وذلك لما له من عِظَم الأجر عند الله تعالى. قال ابن مسعود للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك توعك وعكاً شديداً, فقال عليه الصلاة والسلام: أجل, إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم, قال ابن مسعود: ذلك أن لك أجرين, قال: أجل. فكل ما زادت منزلة المرء عن الله جل وعلا زادت المشقة عليه أثناء النزع ليعظم أجره, والموت له سكرات. ومنهم من يرى أن تفسير الحديث أن المؤمن ينصب ويتعب في هذه الدنيا في طلب الحلال مع تعبه لدينه, وأمر الدنيا إذا اقترنت به النية الصالحة أُجِر عليه الإنسان وصار من أمر الآخرة. فالمؤمن يعرق جبينه في أمور دنياه وآخرته, وإذا جاءه النزع ضوعفت عليه الشدة ليزداد أجره بذلك. وكأن في الحديث الحث على متابعة السعي وعدم الكسل وأن يكون المسلم نافعاً لنفسه ولولده ولمن تحت يده ولأمته. قال الله تعالى (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) أي ليستمر عملك ونصبك وتعبك وعرقك إلى أن تموت وأنت على هذه الحال.
فائدة: يفهم من قوله تعالى (ولا تنس نصيبك من الدنيا) أن الأصل في المسلم أن يكون عمله محضاً للآخرة, ولذا وُجِّه إلى ألا ينسى الدنيا, ليستعين بها على تحقيق الهدف وهو العبودية.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ r{لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ, وَالْأَرْبَعَةُ.
هذا من أجل أن يكون آخر ما ينطق به المسلم (لا إله إلا الله) وقد جاء في الحديث الصحيح (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) فتلقين الشهادة مستحب. وقوله (موتاكم) يعني من قربت وفاته من المسلمين, والموتى جمع ميِّت وهو من سيموت, لا أنه يلقن الشهادة بعد وفاته, لأنه قال (من كان آخر كلامه من الدنيا) وقد انتقل من هذه الدنيا فلا تنفعه, والميت لا يقبل التلقين ولا يسمع ولا يرد الجواب, والمراد تلقين من يقبل التلقين ليقول (لا إله إلا الله) ويختم بها حياته.
المغمى عليه يلقن إذا ظهرت عليه علامات الموت, لأنه ما دامت روحه في جسده فهو في حكم من يسمع, ولعموم الحديث, ولأنه قد يسمع التلقين فيقولها حسب استطاعته, ولو بالطريقة التي يعلمها الله جل وعلا وإن لم يعلمها البشر. ويلقن أيضاً من قرر الأطباء أنه مات دماغياً, وكلام الأطباء يغلب على الظن ثبوته والواقع يشهد بذلك لكنه ليس بقطعي, بدليل قصة واقعة, وهي أن شخصاً قرر ثلاثة أطباء أنه مات دماغياً, وأُحضِر إخوته الأربعة من أجل أن يتبرعوا بأعضائه, فوافق ثلاثة وامتنع الرابع بحجة أن أخاه لم يوصِ وأنهم لا يملكون التصرف في أعضائه, ثم أفاق أخوهم بعد ذلك, فصارت العداوة بينه وبين إخوته الثلاثة, وصار أخوه الرابع أحب إليه حتى من نفسه وولده, وذكر أنه يسمع كل ما دار بينهم. فمثل هذا إذا وصل إلى هذا الحد فإنه يدخل في عموم الحديث ويلقن.
تنبيه: المتجه المنع من التبرع بالأعضاء, لا من الشخص نفسه ولا من غيره, لأنه لا يملك ذلك.
عيادة المريض سنة, ولو كان لا يحس بمن حوله, وقد ترجم البخاري رحمه الله بقوله (باب زيارة المغمى عليه) وزار النبي عليه الصلاة والسلام جابر بن عبد الله وهو مغمىً عليه, فللمسلم كامل الحقوق ما دامت روحه في جسده, ولا يجوز التعدي عليه بحال ما لم تفارق روحه بدنه.
لا يجوز رفع الأجهزة عن المريض الذي إذا رفعت عنه مات بحجة أنه يحجز السرير والأجهزة لمدة طويلة, لأنه مسلم له كامل الحقوق ما دامت روحه في بدنه. لكن قد ينظر في ذلك فيما لو حضر مريضٌ آخر بحاجة إلى هذه الأجهزة, وهو أرجى منه في الحياة, بحيث لو تُرِك مات ونسبة حياته ستين إلى خمسين بالمائة والآخر نسبة حياته واحد إلى عشرة بالمائة, فهذا محل نظر بين أن نرفع عنه الأجهزة أو نقول إنه سبق فهو أحق, لكن رفع الأجهزة دون حاجة لا يجوز. ومثل هؤلاء المرضى داخلون في عموم الحديث, فيلقنون.
والمخاطب بهذا الحديث المسلمون, وإن كان يتناول من بُعْد الميت القريب من المسلم وإن كان غير مسلم, والنبي عليه الصلاة والسلام عرض الشهادة على عمه أبي طالب, وعرضها على اليهودي الذي زاره, فلتُعرَض حتى على غير المسلم لعل الله ينفعه بها, لا سيما من ظهر نفعه في المسلمين, فلا مانع, بل الدليل يدل على أنه تعرض عليه الشهادة, وإن كان قوله (موتاكم) خاص بالمسلمين لأنه يخاطب المسلمين, والكافر ليس بميت للمسلم بل هو بعيد عنه والصلة منقطعة عنه تاماً.
ينبغي أن يكون التلقين برفق, ولا يكرر عليه إلا بقدر الحاجة بالأسلوب المناسب, لأن الإنسان في هذا الظرف يضيق خلقه فيُخشَى أن ينطق بكلمة تضاد الشهادة. ومما ذكره أهل العلم في هذا الباب أنه ينبغي أن تُذكَر أعماله الصالحة التي عُرِف بها ليحسن الظن بالله جل وعلا وينشرح صدره وتمنى لقاء الله, لأنه جاء في الحديث الصحيح (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) وقال الله جل وعلا في الحديث القدسي (أنا عند حسن ظن عبدي بي) وهذا بخلاف ما لو ذكرت عنده أعماله السيئة, اللهم إلا إذا كانت هناك فسحة في الأمر ليُذكَّر بها فيتوب عنها, وأما إذا ضاق الوقت بحيث لا يتمكن من التوبة وتخشى العواقب والآثار السيئة فإنه لا يُذكَّر بأعماله السيئة, وإنما يُذكَّر بسعة رحمة الله وجل وعلا وبأعماله الصالحة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ r {أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اَللَّذَّاتِ: اَلْمَوْتِ} رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ, وَالنَّسَائِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وصححه الحاكم وابن السكن وجمع من أهل العلم, وله طرق وشواهد تجعل لتصحيحهم وجهاً. وجاء في بعض الألفاظ (هادم) بالدال المهملة, وجاء في بعضها (هازم), والفرق بين هذه الألفاظ أن الهاذم هو القاطع, والهادم هو المزيل كالذي يهدم البناء, والهازم هو الغالب, وإذا نظرنا إلى الموت وجدنا فيه هذه المعاني كلها. فهو يقطع اللذات المحسوسة من متع هذه الحياة الدنيا ويحول بين المرء وبينها, وهذا بالنسبة لمستوى الناس كلهم الذي يشتركون فيه في متع هذه الحياة الدنيا, لكن من الناس من ينتقل إلى ما هو أشد متعةً ولذةً مما في الحياة الدنيا, ومنهم من ينتقل حالٍ سيئة نسأل الله السلامة والعافية. وهو أيضاً هادم ومزيل للنعم, مزيلٌ لها بحقيقته أو بذكره عند من أحيا الله قلبه. وهو أيضاً غالبٌ لهذه
اللذات. ولذا ينكر كثيرٌ من الناس على من يذكر الموت في أوقات الانبساط وفي الأعياد والأعراس, لكن أولى ما يُذكَر فيه الموت هذه المواطن, مع أنه ينبغي أن يكون على لسان المسلم امتثالاً لهذا الحديث, وللمصلحة المترتبة على ذكره لأنه لا يُذكَر في كثيرٍ إلا قلله ولا في قليلٍ إلا كثَّره, ولئلا يسترسل في اتباع شهواته وملذاته وينسى ما أمامه من أهوال, فإذا استحضر ذكر الموت ارتاح ضميره وعمل لما بعد الموت. وجاء في بعض ألفاظ هذا الحديث بعد الأمر بذكر الموت أن من أكثر ذكره أحيا الله قلبه, ومعناه صحيح, لأنك إذا تصورت ما أمامك عملت, وإذا نسيت ما أمامك أهملت وغفلت.
وَعَنْ أَنَسٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ r {لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ اَلْمَوْتَ لِضُرٍّ يَنْزِلُ بِهِ, فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اَللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ اَلْحَيَاةُ خَيْرًا لِي, وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ اَلْوَفَاةُ خَيْرًا لِي} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
على المسلم أن يكثر من ذكر الموت ليحدوه ذلك إلى العمل, لكن لا يتعجل الموت لما يقاسيه من آلام ومشاق, فكل ما طال عمر المسلم وحَسُن عمله كان خيراً له, والذي يتصور الهدف الحقيقي من وجوده في هذه الحياة ويتمنى أن تكون عاقبته حسنة لا يتمنى انقطاع وقت الزرع, ليزداد من حياته لموته, لأن الموت يقطع الزاد الموصل إلى مرضاة الله وإلى جناته إلا ما استثني. وقوله (لضر نزل به) أي لا يتمنى الموت لهذا السبب, وهو حصول الضر في أمور الدنيا في بدنه أو في ولده أو في ماله, وأما تمني الموت بسبب أمر من أمور الآخرة - بأن رأى أسباب الفتن قد انعقدت وغلب على ظنه أنه لا يثبت أمام هذه الفتن - فإنه لا بأس حينئذ في تمني الموت خشية أن يفتن في دينه. فالمؤمن يتمنى طول الحياة لا لذات الحياة وإنما ليغرس فيها ويعمل لآخرته, لكن إذا كان يغلب على ظنه أن يتضرر من هذه الحياة فلا مانع من أن يتمنى الموت. ومريم بنت عمران عليها السلام تمنت الموت, لأنها خشيت أن تفتن في دينها بتسلط الناس عليها حين يرون أنها أتت بولد من غير زوج. فإذا وجد مبرر شرعي ديني وخشي الإنسان على دينه لا على دنياه فإنه له أن يتمنى الموت. ومن ذلك تمني الشهادة, والشهادة موت, والنبي عليه الصلاة والسلام قال: والذي
نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل. وقوله (فإن كان لا بد متمنياً) يعني لم يحتمل المصيبة التي يعيشها (فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي, وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي) لأنه لا يعلم الغيب, فيكل الأمر إلى الله جل وعلا ويجعل الخيرة له سبحانه وتعالى يختار له ما يصلح له في دينه ودنياه.
يجوز أن يكون الإنسان سبباً في قتله إذا كانت المصلحة راجحة, مثل أن يقتحم صفاً, أو ينزل في بكرة من حصن على الكفار ويغلب على الظن أنه يقتل, أو يدل العدو على كيفية قتله كما في قصة الغلام التي هي في شرع من قبلنا لكنها سيقت مساق المدح في شرعنا. وأما أن يباشر قتل نفسه فلا أعلم في النصوص ما يدل على جوازه مهما كان المبرر, وفرقٌ بين التسبب والمباشرة, وعلى كل حال هناك من يفتى في هذه المسائل بأن الإنسان له أن يقتل نفسه إذا ترجحت المصلحة لا سيما المصلحة العامة, فلو خشي إفشاء الأسرار للكفار اتجه القول بجواز أن يباشر قتل نفسه عند بعض أهل العلم. ومثل ذلك العمليات التي يختلفون فيها, فمن أهل العلم من أجازها لأنه رأى أن فيها نكاية بالعدو وأنه لا وسيلة لتحصيل الحقوق إلا بها, وأما أنا فلا أعرف نصاً يبيح ذلك, والمسألة اجتهادية, لأنه وُجِد في النصوص ما يبيح التسبب مما يقرب من المباشرة كما في قصة الغلام, فإنه كان يقول لهم (خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني) وكانت المصلحة راجحة, ولم يباشر قتل نفسه, لكنه تسبب تسبباً قريباً من المباشرة.
جاء في الحديث الدعاء بقوله (وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) وهذا من الخوف على الدين, وجاء أيضاً قول يوسف عليه السلام (توفني مسلماً وألحقني بالصالحين) وهذا فيه طلب الوفاة لكن لا مطلقاً, وإنما طلب الوفاة على الإسلام, ولا يلزم من ذلك أن تكون الوفاة الآن أو قريباً من الآن, بل يطلب أن يكون مسلماً حال وفاته, فلا تعارض, وكلٌ يدعو ربه ويتمنى أن يموت على الإسلام ولو بعد حين.
ذم طول الأمل هل فيه مخالفة مع النهي عن تمني الموت؟ دعاء الإنسان لنفسه بطول العمر يقابل تمني الموت, فهل مفهوم النهي عن تمني الموت أن يدعو الإنسان بطول العمر؟ أو يترك الأمر لله جل وعلا ويعمل ما أُمِر به؟ ولذا جاء ذم طول الأمل, كما في قوله (يشب
ابن آدم ويشب منه خصلتان حب الدنيا وطول الأمل) بل جاء ما يدل على تقصير الأمل, وفرق بين أن يسعى في تقصير عمره وبين أن يعمل على مقتضى قصر عمره, فإن ما يقتضيه قصر العمر اغتنام الوقت, وما يقتضيه طول الأمل التفريط في الأوقات, فنظراً لما يقتضيه الأمران استُحِب هذا وذُمَّ هذا, ولذا جاء في الحديث الصحيح (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) لأن تصور الإنسان أنه غريب يحدوه إلى مضاعفة جهده في كسب الحسنات والابتعاد عن السيئات.
وَعَنْ بُرَيْدَةَ t عَنِ اَلنَّبِيِّ rقَالَ: {اَلْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ} رَوَاهُ اَلثَّلَاثَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
لم يخرِّج أبو داود هذا الحديث, وإنما خرَّجه الترمذي والنسائي وابن ماجه, وهذا يرد على اصطلاحه في الثلاثة. وللحديث شاهد من حديث ابن مسعود وغيره, وهو قابل للتصحيح بشاهده.
وقوله عليه الصلاة والسلام (المؤمن يموت بعرق الجبين) عبارةٌ عما يكابده المؤمن عند نزع روحه, وذلك لما له من عِظَم الأجر عند الله تعالى. قال ابن مسعود للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك توعك وعكاً شديداً, فقال عليه الصلاة والسلام: أجل, إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم, قال ابن مسعود: ذلك أن لك أجرين, قال: أجل. فكل ما زادت منزلة المرء عن الله جل وعلا زادت المشقة عليه أثناء النزع ليعظم أجره, والموت له سكرات. ومنهم من يرى أن تفسير الحديث أن المؤمن ينصب ويتعب في هذه الدنيا في طلب الحلال مع تعبه لدينه, وأمر الدنيا إذا اقترنت به النية الصالحة أُجِر عليه الإنسان وصار من أمر الآخرة. فالمؤمن يعرق جبينه في أمور دنياه وآخرته, وإذا جاءه النزع ضوعفت عليه الشدة ليزداد أجره بذلك. وكأن في الحديث الحث على متابعة السعي وعدم الكسل وأن يكون المسلم نافعاً لنفسه ولولده ولمن تحت يده ولأمته. قال الله تعالى (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) أي ليستمر عملك ونصبك وتعبك وعرقك إلى أن تموت وأنت على هذه الحال.
فائدة: يفهم من قوله تعالى (ولا تنس نصيبك من الدنيا) أن الأصل في المسلم أن يكون عمله محضاً للآخرة, ولذا وُجِّه إلى ألا ينسى الدنيا, ليستعين بها على تحقيق الهدف وهو العبودية.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ r{لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ, وَالْأَرْبَعَةُ.
هذا من أجل أن يكون آخر ما ينطق به المسلم (لا إله إلا الله) وقد جاء في الحديث الصحيح (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) فتلقين الشهادة مستحب. وقوله (موتاكم) يعني من قربت وفاته من المسلمين, والموتى جمع ميِّت وهو من سيموت, لا أنه يلقن الشهادة بعد وفاته, لأنه قال (من كان آخر كلامه من الدنيا) وقد انتقل من هذه الدنيا فلا تنفعه, والميت لا يقبل التلقين ولا يسمع ولا يرد الجواب, والمراد تلقين من يقبل التلقين ليقول (لا إله إلا الله) ويختم بها حياته.
المغمى عليه يلقن إذا ظهرت عليه علامات الموت, لأنه ما دامت روحه في جسده فهو في حكم من يسمع, ولعموم الحديث, ولأنه قد يسمع التلقين فيقولها حسب استطاعته, ولو بالطريقة التي يعلمها الله جل وعلا وإن لم يعلمها البشر. ويلقن أيضاً من قرر الأطباء أنه مات دماغياً, وكلام الأطباء يغلب على الظن ثبوته والواقع يشهد بذلك لكنه ليس بقطعي, بدليل قصة واقعة, وهي أن شخصاً قرر ثلاثة أطباء أنه مات دماغياً, وأُحضِر إخوته الأربعة من أجل أن يتبرعوا بأعضائه, فوافق ثلاثة وامتنع الرابع بحجة أن أخاه لم يوصِ وأنهم لا يملكون التصرف في أعضائه, ثم أفاق أخوهم بعد ذلك, فصارت العداوة بينه وبين إخوته الثلاثة, وصار أخوه الرابع أحب إليه حتى من نفسه وولده, وذكر أنه يسمع كل ما دار بينهم. فمثل هذا إذا وصل إلى هذا الحد فإنه يدخل في عموم الحديث ويلقن.
تنبيه: المتجه المنع من التبرع بالأعضاء, لا من الشخص نفسه ولا من غيره, لأنه لا يملك ذلك.
عيادة المريض سنة, ولو كان لا يحس بمن حوله, وقد ترجم البخاري رحمه الله بقوله (باب زيارة المغمى عليه) وزار النبي عليه الصلاة والسلام جابر بن عبد الله وهو مغمىً عليه, فللمسلم كامل الحقوق ما دامت روحه في جسده, ولا يجوز التعدي عليه بحال ما لم تفارق روحه بدنه.
لا يجوز رفع الأجهزة عن المريض الذي إذا رفعت عنه مات بحجة أنه يحجز السرير والأجهزة لمدة طويلة, لأنه مسلم له كامل الحقوق ما دامت روحه في بدنه. لكن قد ينظر في ذلك فيما لو حضر مريضٌ آخر بحاجة إلى هذه الأجهزة, وهو أرجى منه في الحياة, بحيث لو تُرِك مات ونسبة حياته ستين إلى خمسين بالمائة والآخر نسبة حياته واحد إلى عشرة بالمائة, فهذا محل نظر بين أن نرفع عنه الأجهزة أو نقول إنه سبق فهو أحق, لكن رفع الأجهزة دون حاجة لا يجوز. ومثل هؤلاء المرضى داخلون في عموم الحديث, فيلقنون.
والمخاطب بهذا الحديث المسلمون, وإن كان يتناول من بُعْد الميت القريب من المسلم وإن كان غير مسلم, والنبي عليه الصلاة والسلام عرض الشهادة على عمه أبي طالب, وعرضها على اليهودي الذي زاره, فلتُعرَض حتى على غير المسلم لعل الله ينفعه بها, لا سيما من ظهر نفعه في المسلمين, فلا مانع, بل الدليل يدل على أنه تعرض عليه الشهادة, وإن كان قوله (موتاكم) خاص بالمسلمين لأنه يخاطب المسلمين, والكافر ليس بميت للمسلم بل هو بعيد عنه والصلة منقطعة عنه تاماً.
ينبغي أن يكون التلقين برفق, ولا يكرر عليه إلا بقدر الحاجة بالأسلوب المناسب, لأن الإنسان في هذا الظرف يضيق خلقه فيُخشَى أن ينطق بكلمة تضاد الشهادة. ومما ذكره أهل العلم في هذا الباب أنه ينبغي أن تُذكَر أعماله الصالحة التي عُرِف بها ليحسن الظن بالله جل وعلا وينشرح صدره وتمنى لقاء الله, لأنه جاء في الحديث الصحيح (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) وقال الله جل وعلا في الحديث القدسي (أنا عند حسن ظن عبدي بي) وهذا بخلاف ما لو ذكرت عنده أعماله السيئة, اللهم إلا إذا كانت هناك فسحة في الأمر ليُذكَّر بها فيتوب عنها, وأما إذا ضاق الوقت بحيث لا يتمكن من التوبة وتخشى العواقب والآثار السيئة فإنه لا يُذكَّر بأعماله السيئة, وإنما يُذكَّر بسعة رحمة الله وجل وعلا وبأعماله الصالحة.