رد: البناء على الأقل أو على غلبة الظن
جزاكم الله خيرا
قضية التفريق بين الظن وغلبة الظن تحتاج تحرير,لأنه إذا عقد القلب على أحدهما وترك الآخر - كما في كلام الجرجاني وابن عابدين - ألا يكون هو اليقين أو قريب منه جدا؟ هل تطلق غلبة الظن على ما هو دون ذلك, فالظنون درجات وتتفاوت في قوتها, كيف تضبط هذه المسألة بشكل أوضح؟ يعني الآن المكلف يريد أن يبني في قضية ما على غلبة الظن, كيف يعرف أن ظنّه بترجح أحد الطرفين وصل لدرجة الغلبة أو لا زال في ما دونها؟
تحدث د سعد الشثري في كتابه (القطع والظن عند الأصوليين) عن علاقة الظن بغلبة الظن, وذكر أن غلبة الظن في الاصطلاح هي قوّته, ونقل عن الآمدي أنّ غلبة الظن ما فيه أصل الظن وزيادة. وأشار إلى إطلاق بعض الفقهاء غلبة الظن بمعنى الظن. كما أشار إلى أن غلبة الظن تعرف بتزايد الإمارات الموجبة له. ثم قال بعد ذلك: " إلاّ أنّ تحديد ما كان ظناً غالباً وما كان ظناً مجرداً يحتاج إلى ضبط, فمتى يصل الظن إلى درجة الغلبة؟ هذا ما لا نجد فيه معيار دقيقاً " ص118.
وقد ناقشت المسألة مع أحد الفقهاء المعاصرين فكان رأيه أنّ ما قرب من الظنون من اليقين فهو غلبة ظن, وما قرب من الشك فهو ظن, وما بين ذلك يتأمل فيه, فيلحق بأحد القسمين, ومالم يظهر لحوقه بأحدهما فهو بمنزلة المتشابه. انتهى كلامه بمعناه.
وقد يستعمل الاستصحاب في هذه المسألة, فيقال أن الغلبة وصف عارض والأصل فيه العدم, فيلحق المتشابه الذي ذكره هذا الشيخ باليقين - وهو الظن المجرد - ما لم يتضح لحوقه بالغلبة بتزايد قوته.
ومن المناقشات التي خرجت بها أيضا مع بعض المشابخ أنّه يحتمل ضبط المسألة بنصف ما بين الشك واليقين, فيكون ما هو أقلّ من 75% ظنا مجردا, وما زاد غلبة ظن. وقريب من ذلك ما ذكره د أيمن صالح - عضو هذا الملتقى - في بحثه (إشكالية القطع) حيث قال فيه:
علاقة الذهن بالشيء القابل للإدراك أو الشيء المدرَك على مراتب تتدرج من الأدنى إلى الأعلى على النحو التالي :
1. علاقة توصف بـ (( الجهل )) : وهو عدم إدراك الشيء ، أي أن نسبة الإدراك للشيء تساوي باللغة الرياضية 0% .
2. علاقة توصف بـ (( الوهم )) : وهو إدراك مرجوح للشيء ، أي أن نسبة الإدراك للشيء تتراوح ما بين 1% إلى 49% .
3. علاقة توصف بـ (( الشك )) : وهو تردد الاعتقاد بين طرفين لا مرجوحية لأحدهما على الآخر ، أي أن نسبة الإدراك لأحد الطرفين تساوي 50% .
4. علاقة توصف بـ (( الظن )) ، وهو إدراك راجح للشيء ، أي أن نسبة الإدراك للشيء تتراوح ما بين 51% و 99% .
ولا يفصِّل الأصوليون في مراتب الظن عادة ، والأصح في نظري أن يُفًصَّل في مراتب الظن على النحو الآتي :
أ. الظن الضعيف ، وتتراوح نسبة الإدراك فيه بين 51% و74% .
ب. الظن الغالب ، وتتراوح نسبة الإدراك فيه بين 75% و95% .
ج. الظن القوي ، وهو يكاد يقارب القطع ، وتتراوح نسبة الإدراك فيه بين 96% و99% .
ولهذا التفريق فوائد عملية في أكثر من مجال في أصول الفقه ، وستظهر واحدة منها في مجال بحثنا هذا كما سنرى لاحقا إن شاء الله تعالى .
5. علاقة توصف بـ (( العلم )) أو(( القطع )) : وهو إدراك كامل للشيء ، أي أن نسبة الإدراك للشيء تساوي 100% .
انتهى
وأما قوله - وفقه الله - أن عدم التفريق بين الظن وغلبة الظن عادة الأصوليين فيشكل عليه النقول التي ذكرها الشثري في كتابه, بل أورد انتقاد بعض الأصوليين لبعض الفقهاء الذين يظهر من بعض استعمالاتهم عدم التفريق بين غلبة الظن والظن المجرد.
والله أعلم