لقد قرأت هذا الموضوع لأخينا النابه/ فؤاد الهاشمي الآن .. وإذا بي أهم بالتعليق على ما قاله فرأيت برهان د/ أيمن صالح قد أثلج صدري
نعم, تعليق النابه الهاشمي يركز على أمر, وتعقيب أخينا الفاضل -النابه أيضاً- د/ أيمن صالح يركز على دائرة أخرى, لكن الأمر كما قال الأستاذ أيمن
لكني ألحظ في كلام الكثيرين في هذا المنتدى المبارك وغيره، نبرة عالية، ونغمة متكررة في تعظيم الأقدمين من أهل العلم وتبجيلهم، وفي الوقت نفسه جلد المعاصرين وذمهم، أو على الأقل التهوين من شأن ما يأتون به في مقابل المتقدمين [..] أجد جانبا من الآثار غير الحميدة لهذا الأسلوب، تتمثل في شيوع احتقار الذات، والتهوين من القدرات، والتغني بأمجاد الماضي، وكثرة الشكوى من انصرام العلوم، وعقم الفهوم في الوقت الحاضر
ومع قبولي وتقديري لوجهة النظر المخالفة، فإني أدعو إلى التعاطي مع التراث وما سطره الأقدمون بروح تحليلية نقدية، لا بروح تبجيلية إطرائية، فهم بشرٌ أصابوا وأخطأوا، وعلموا أشياء وغاب عنهم كثير [..] ينبغي أن نبث هذه الروح في نفوس المتعلمين، مع حثهم في الوقت نفسه على الموضوعية التامة واتباع المنهج العلمي الصحيح في التلقي، والبحث، والتحليل والنقد.
أما المتعالمون والمتسلقون وأنصاف المتعلمين، فهم سيتساقطون يوما بعد يوم، ولن يقيم التاريخ لهم وزنا، فضررهم إنما هو عليهم، وشررهم إنما يتطاير في دارهم [..] وإهمالهم ربما يكون في رأيي خيرا من التعرض لهم، وما أكثر من يصلح حاله منهم بعد حين
وأضيف قائلاً :
1- هناك أناسٌ صارت الشريعة عندهم هي أقوال الفقهاء (المتقدمين منهم خاصة) وأقوال الفقهاء هي الشريعة... فوقعت الأمة في شرٍ وبلاء, ودخلت جحر الضب الذي حذرها رسول الله (ص) منه؛ فخمدت الحركة العقلية, ووقف النشاط الفكري, وضاع الاستقلال العلمي .. فوقف الالفقهاء لا يستظهرون غير المتون, ولا يعرفون غير الحواشي, وما فيها من إيرادات واعتراضات وألغاز, وما كتب عليها من تقريرات.
ومن كان كذلك, فالبعد عنه مغنم !
فأصيب بذلك الفقه الإسلامى بالجمود, ومُنع الاجتهاد فى استنباط الأحكام وفهم النصوص, وصار عمل الفقيه لا يعدو عمل التابع داخل إطار المذهب المقلد له.
ولقد ساءنى - وما يزال- أن العالم المسلم لا يعلم عن دينه إلا القليل, وأن الفتاوى يصدرها, والآراء التي يبثها, التقليد فيها هو الطابع السائد والعملة المتداولة .. وهذه حال لا يجوز قبولها أو الغض من عقباها بأي حال من الأحوال؛ لأن (ضعف الرأي العلمي) كـ (فقر الدم): دليل ضعف وذبول, ونذير ضياع وهزيمة.
2- والواقع - كذلك- أن كلمة (مذهب) – والتى يجعلها البعض شرعاً مع الشرع, وأوامراً ونواهياً لا تجوز الحيد عنها – لا تعني إلا (وجهة نظر فقيه ما - تبعه عليها عدد من الفقهاء- في فهم النص السماوي). [ وهي وجهة نظر محترمة, صدرت من عالم مؤهل لإصدارها, وتبعه عليها - في كثير من الأحيان- فضلاء مشهود لهم بالأهلية العلمية .. فلا تظن بكلامي الظنون]
ووجهة النظر هذه لا عصمة لها ولا قداسة .. إنما هي تفكير بشرى في فهم الوحي الإلهي, ومحاولة استنباط ما يدل عليه ويرشد إليه. فالتعويل, كل التعويل, على الوحي (كما فعل أصحاب الآراء التي انبنت عليها المذاهب) .. والكرامة, كل الكرامة, في الانتماء إليه وحده (كما فعل أيضاً أصحاب الآراء التي انبنت عليها المذاهب)
3- وكذلك هي كلمة (الإجماع) - وما هو إلا إجماع خيالي مدعى- ؛ لا تعني إلا وجهة نظر ما لمجموعة من الفقهاء, أو حتى لمجموعة الفقهاء كلها - وهو ما لا يمكن إثباته عن أعيان جميعهم بالسند الصحيح إلى كل واحد منهم- في فهم النص السماوي. [ لاحظ أخي أني أفرق - كما تعلم- بين (الإجماع الذي تدعيه كتب الأصول) و(ما ثبت من الدين بالدليل القطعي ثبوتاً ودلالة) ]
ووجهة النظر هذه - أيضاً- لا عصمة لها ولا قداسة .. إنما هي تفكير بشرى في فهم الوحي الإلهي, ومحاولة استنباط ما يدل عليه ويرشد إليه. فالتعويل - كل التعويل- على الوحي, والكرامة - كل الكرامة- في الانتماء إليه وحده.
4- إن المشتغلين بالعلوم الشرعية - في مجملهم- نستطيع تصنيفهم إلى ثلاثة أصناف :
أ- (جامد) حجر ما وسع الله في شريعته .. فغلَّق الأبواب وجعل آراء المذاهب (أختاماً) و(أكلشيهات) صماء، لا يجوز الحيد عنها قيد شعرة.
جلف .. جسمه موجود في الحاضر وعقله يعيش في الماضي السحيق .. يجتر المنقضِ المنصرم .. لا يعايش العصر، ولا يحس بما تمور به بجور الحياة من أفكار، ولا بما يجري في العالم جولة من أحداث.
يصر على أن يعيش في التاريخ، أو في أحسن الأحوال في بطون كتبه، وهو يُشهرُ على كل من يدعو إلى الاجتهاد سيفاً مصنوعاً من حديد التقليد, ومصقولاً من معدن الآبائية، كُتِبَ عليه بالخط العريض (عندنا كل شيء ولا نحتاج شيئاً) لأن (الأوائل لم يتركوا شيئاً للأواخر)
انقلب التقليد عنده تعصباً مذهبياً .. فتقديساً للسابقين .. فَرِضاً بالعلم الجاهز -علم الأوائل- دون إعمال عقل لتنزيل الوحي على الواقع الذي يتغير من زمان إلى زمان, ومن مكان إلى مكان.
وهذا الصنف إن فكر وقدر (أي إن اجتهد وأفتى) فإنه ولا شك مقدم على مصيبة .. وبه وبأمثاله سوف يتدحرج المسلمون من العالم الثالث إلى عالم الفناء والتلاشي !!
ب- (متسيب) لا يريد أن يقيد بشئ، ولا أن تضبطه ضوابط, ولا أن تحكمه أصول وقواعد .. متعالٍ في مقاله، جريء على الكلام فيما لا يحسن، معجب برأيه، متجاوز للحدود في رد أمور الشرع ولـمز حملته، واتهامهم بما هم منه براء، واقع في أقبح مما عاب عليهم !
يدعو إلى الانسلاخ من الدين والهوية والتاريخ والخصوصيات الثقافية؛ لأنها نتاج وبضاعة (الأوائل) التي - إن كان فيها شيءٌ أصلاً- فإنه لا يناسب - بإطلاق لا يقبل الاستثناء، وعموم لا يحتمل التقييد- سوى زمانهم ومكانهم وواقعهم المعين !
خطفه بريق المدينة الغريبة ، وراعه ذلك الصنم الكبير، فتعبد له، وقدم إليه القرابين، ووقف أمامه خاشعاً بصره يرهقه ذلة. فأحدث في ثوب الإسلام رتقاً بتبريره وتأويله وتحريفه .. فأصبح الحلال فى نظره ما أحله الغرب, والحرام ما حرمه .. وتناسى قول الله عز وجل: "إن الحكم إلا لله" .. وتناسى أن كلمة الله هى العليا .. فهى تُتََّبَع ولا تَتَّبِـع .. تعلو ولا يُعلى عليها.
ج- (وسطى ربانى) يجتهد فى الجمع بين الحسنين: فقه الشرع وفقه الواقع.
يستلهم القِيَم وينتفع بالجديد .. يستهدى بالتراث ويستشرط المستقبل .. يتدبر الكليات ويلحق بها الجزئيات .. لا يغلو - فى قوله- ولا يقصر, ولايطغى - فى الميزان- ولايخسر .. ييسر ما وجد السبيل القويم إلى ذلك ولا يعسر .. يبشر ولا ينفر .. يدعو الى ائتلاف القلوب واجتماعها, وينهى عن تفرقها واختلافها
فتنجذب له القلوب, وتميل إليه النفوس, وتُذَلل له الصعاب؛ فينقلب له المتعصب منصفا, والمبتدع سنيا, ويرتدى أثواب الرواية (أقصد الصحيحة) من كان متجلببا بالرأي (أقصد المذموم), ويمشى فى رياض الاجتهاد من كان معتقلاً فى سجن التقليد، مكبلاً بالقيل والقال، مكتوفاً باراء الرجال
5- ما قلته في آراء الفقهاء ينطبق على مذاهب المحدثين وآرائهم في علم المصطلح وفي الجرح والتعديل