العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

لعيايدة هاجر

محبة لكتب أصول الفقه .
الكنية
أم أيمن
التخصص
أصول الفقه
الوظيفة
أستاذة التعليم الثانوي (العلوم الإسلامية )
المدينة
سطيف
المذهب الفقهي
المذهب المالكي
موضوع رسالة الماجستير
حركة التقنين الفقهي وأثرها على الفقه الإسلامي
ملخص رسالة الماجستير
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد كان الفقه الإسلامي في أوائل القرن التاسع عشر يمر بمرجلة الركود والجمود، وزامن هذا ضعف الدولة الإسلامية، وبدء تبعيتها للدول الغربية، فقامت السلطة الرسمية في مركز الخلافة العثمانية باستيراد القوانين الفرنسية الوضعية، ثم تداركت الأمر؛ بوضع أول تقنين مدني من الفقه الإسلامي، تمثل في إصدار مجلة الأحكام العدلية، للعمل بها في البلاد الخاضعة للسلطة العثمانية.
وكانت المجلة نقطة تحول في تاريخ الفقه الإسلامي، حيث نقلته نقلة واحد من دور الحواشي والتقريرات، إلى دور النهضة الفقهية. وتأتي هذه الدراسة لبيان مظاهر نهضة الفقه، والآثار التي خلفتها حركة التقنين الفقهي، بدءا من كونه أحد ألوان الكتابة الفقهية، وانتهاء بما خلفته الحركة من آثار على الفقه، وبعض المباحث المتصلة به. وجاءت الدراسة في ثلاثة فصول:
اشتمل الفصل الأول على تعريف حركة التقنين الفقهي، وأنها "مجموعة الجهود المبذولة لصياغة قواعد تنظيمية، ملزمة، من الفقه الإسلامي، وفق منهجية مخصوصة". وقبل ذلك، اُستُخلِص مفهوم التقنين الفقهي، وهو: "قيام هيئة رسمية مختصة، بصياغة الأحكام الشرعية للمناكحات، والمعاملات، والجنايات، في مواد موجزة، مرقمة، ملزمة".
وبُيِّنت عناصر التقنين الأساسية، فإحداها العنصر الشكلي، المتمثل في ترقيم متسلسل، وفق تبويب محكم للمواد المقننة. والآخر العنصر الموضوعي، المتمثل في إلزام القاضي والمتقاضي بهذه المواد.
ثم عُرِّج على بعض الألفاظ ذات الصلة بالتقنين الفقهي، وعلاقتها به، مثل لفظ: "التدوين"، و"التجميع"، و"التشريع"، و"التقنين الوضعي".
ثم ذكرت فائدة وأهمية التقنين بالنسبة لعدة أطراف هي: الحاكم، المحكوم، القضاء، الأقليات المسلمة.
فأما أهميته بالنسبة للحاكم، فتتمثل في تسهيل تطبيق النظام الذي يفرضه على الرعيّة، وبالتقنين؛ يُسْتَبعَد التدخل الأجنبي، كما أنه أحد وسائل إصلاح شؤون الدولة الداخلية.
وأما أهميته بالنسبة للقضاء، فالتقنين يسهل عمل القاضي، ويعينه في أداء مهمته. ويسهّل الفصل في الخصومات، خاصة في خضمّ تزايد المستجدات والنوازل الفقهية، التي لم يتناولها الفقهاء المتقدمون. كما يقوم التقنين بتوحيد القضاء في البلد الواحد، فيستقر بذلك النظام القضائي.
وأما أهميته بالنسبة للمحكوم، فهو يرغم الناس على توظيف الشرع في حياتهم اليومية، فيعرفون مقدّما ما لهم من حقوق، وما عليهم من واجبات. فيحدّدون بذلك سلفا مسيرة معاملاتهم. وبما أن النظام القضائي يصير معلنا لهم، فهذا يترتب عليه ثقة الناس بالمحاكم، ويقلل استئنافهم للقضايا، وبالتالي تخف المنازعات.
كما يفيد التقنين المستثمرين وأصحاب الشركات الأجنبية بمعرفة نتيجة ما سَيَسيرون عليه في البل المقنِّن.
وعلى مستوى الأقليات المسلمة، فهي تعتمد في مرجعيتها الشرعية والقضائية على بعض المدونات التقنينية، في ظل التقنين الوضعي السائد في البلد غير المسلم.
كما تناول هذا الفصل، تاريخ حركة التقنين، فعرّج باختصار على تاريخ التقنين الوضعي في العصر الحديث، والذي بدأ بصفة رسمية بفرنسا، عند صدور مجموعة نابليون القانونية، بدءا من عام 1804م. وقد أثّر هذا الحد في باقي أرجاء العالم، فسارت الكثير من الدول على خطى نابليون، مثل النمسا، إيطاليا، سويسرا، ألمانيا، البرازيل، الاتحاد السوفياتي، الهند، الصين، والدولة العثمانية عند استيرادها قانون التجارة؛ وقانون الجزاء الفرنسيين. أما مصر، فقد عرّبت القوانين الفرنسية، وتبنتها برمّتها.
ثم فُصّل في تاريخ التقنين الفقهي، والذي درس من ناحيتين:
الناحية الأولى: وتضمنت أمارات التقنين الفقهي قبل عصر التنظيمات العثمانية، حيث ظهرت بوادره في عهد الخلافة العباسية، عندما أشار ابن المقفع على الخليفة أبي جعفر المنصور على حمل الناس على كتاب واحد. فعرض الخليفة على الإمام أن يحمِل الناس على الموطأ فرفض.
وبعد قيام الدولة العثمانية، التي تقيدت بالمذهب الحنفي كمذهب رسمي للقضاء والإفتاء، أصدرت الكثير من القوانين والتنظيمات، والتي بلغت أوجها في عهد السلطان سليمان القانوني، والتي جمعها شيخ الإسلام أبو السّعود في مجموعة عُرِفت بـ: "قانون نامه". كما كلّف الشيخ إبراهيم الحلبي بتأليف كتاب "ملتقى الأبحر"، الذي يحوي خلاصة ما في الفقه الحنفي.
وفي عصر الدولة المغولية، كلّف السلطان محمد أورنك زيب عالمكير بالهند مجموعة من العلماء، بتأليف كتاب عُرِف بـ "الفتاوى الهندية".
كما ظهرت قوانين إسلامية في الدولة المالاوية القديمة –ملاقا-، تخص الأحوال الشخصية، والمعاملات، والجنايات، وتطورت تدريجيا، معتمدة على مصادر من الفقه الشافعي.
والناحية الثانية: وتضمنت مشاريع ومدونات التقنين الفقهي بعد عصر التنظيمات العثمانية، وهي قسمان: تقنينات رسمية، وتقنينات غير رسمية.
فأما التقنينات الرسمية: فكانت في عدّة دول، فالسلطة العثمانية أصدرت عدّة قوانين مستمدة من الفقه، مثل: "قانون نامه الجزاء" سنة 1840م، و"قانون الأراضي" سنة 1958م، و"مجلة الأحكام العدلية" بين سنتي 1869 و1876م، اشتملت على طائفة من أحكام المعاملات المالية، والدعوى، والقضاء، وطرق الإثبات. ولم يصدر قانون ينظم أحكام الأسرة إلا عام 1917م، عندما أُصدِر "قرار حقوق العائلة".
وفي المملكة التونسية صدر "قانون مجالس الأحكام في الجنايات والأحكام العرفية" بين سنتي 1860 و1861م، متناولا أحكام الجنايات، وبعض أحكام الدعوى والمعاملات.
كما صدرت "مجلة الحقوق العينية"، و"مجلة الالتزامات والعقود" أواخر سنة 1906م، التي أخرجها بشكل أساسي المستشرق دافيد سانتلانا، والتي فاقت في صياغتها مجلة الأحكام العدلية.
كما قامت الحكومة الروسية عام 1909م، بإصدار قانون لمسلمي تركستان، يشمل مسائل الأسرة وأحكام الميراث.
وتتابعت القوانين الفقهية في الدول العربية، فمصر أصدرت عدّة قوانين بين سنتي 1920 و1952م، تخص الأسرة، والميراث، والوقف، والوصية. كما صدر عام 1952 "قانون الأحوال الشخصية السوري، وتلاه العراق عام 1959م، والأردن عام 1976، وقبله القانون المدني الأردني عام 1971م، وفي الأحوال الشخصية أيضا، أصدرت تونس قانونها عام 1957م، والمغرب عام 1957م، والجزائر عام 1984م.
كما أصدرت السودان واليمن والإمارات العربية المتحدة؛ عدّة قوانين فقهية في فروع القانون المختلفة.
أما محاولات التقنين غير الرسمية، فقد قام بها أفراد وجماعات، في الكثير من الدول، ففي مصر؛ ألف ابن العنابي الجزائري كتاب: "صيانة الرياسة في القضاء والسياسة"، نزولا عند طلب محمد علي باشا والي مصر. كما ألف محمد قدري باشا عند استيراد إسماعيل الخديوي والي مصر للقوانين الفرنسية. وأخرج ثلاثة كتب هي: "مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان"، في المعاملات المالية. و"قانون العدل والإنصاف في حل مشكلات الأوقاف"، و"الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية".
كما قام مجمع البحوث الإسلامية المصري بإخراج أربعة مشاريع؛ لتقنين الشريعة على أربعة مذاهب: الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي.
وأيضا، شَكَّل الدكتور صوفي أبو طالب رئيس مجلس الشعب المصري عدّة لجان، أوكل إليها مهمة إخراج قوانين إسلامية، في فروع القانون المختلفة.
وفي تونس، كانت هناك عدّة مشاريع منها: مشروع "مجلة الأحكام الشرعية"، التي حاول الوزير خير الدين إخراجها وإكمالها، كما ألّف الشيخ محمد العزيز جعيّط عدّة مدونات تقنينية هي: "مجلة الأحكام الشرعية"، في المناكحات والمعاملات، والدعوى والقضاء. و"الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية"، في الدعوى والحكم القضائي.
وفي الجزائر، وضعت الحكومة الفرنسية؛ مجلة الأحكام الشرعية الجزائرية بين سنتي 1907 و1913م. تضمنت أحكام الأحوال لشخصية، الوقف، العقارات والبيّنات.
وفي المملكة العربية السعودية، ألّف القاضي أحمد بن عبد الله القاري مجلة الأحكام الشرعية، وفق المذهب الحنبلي، محاكيا مجلة الأحكام العدلية.
وفي ليبيا، ألّف المحامي محمد محمد بن عامر الليبي كتابه: "ملخّص الأجكام الشرعية على المعتمد من مذهب المالكية".
والمدونات التقنينة غير الرسمية، لا يزال يكتب فيها بعض المعاصرين من ذوي الفقه إلى يومنا هذا.
وتناول الفصل الثاني حكم التقنين الفقهي، ومنهجيته، وضوابطه التي ينبغي ألا يخرج عنها.
فأما ما يخص حكم التقنين الفقهي، فالخلاف فيه يرجع إلى عنصره الموضوعي وهو الإلزام، حيث يقيّد سلطة القاضي. فكانت الدراسة في هذا الفصل تبحث في ثلاثة مسائل:
المسألة الأولى: حكم تولية القضاء للمقلد، حيث منعها المالكية، والشافعية، والحنابلة، وابن حزم من الظاهرية، ومحمد بن الحسن الشيباني من الحنفية. وأجازها الحنفية، وابن رشد من المالكية. ولكل فريق أدلّته، وانتهى الترجيح إلى اشتراط الاجتهاد في القاضي، إلا في حال انعدام وجود المجتهد، وكانت قد دعت الضرورة إلى تولية المقلد، فتجوز استثناء، لئلا تتعطّل مصالح الناس.
المسألة الثانية: حكم إلزام القاضي المجتهد، وتتفرع المسألة إلى شقّين:
الشق الأول: حكم إلزام القاضي المجتهد، حيث منعه المالكية، والشافعية، والحنابلة. وأجازه بعض الحنفية كابن قطلوبغا، كما قال به الحجوي الفاسي من المعاصرين، وهو خلاف الحق.
الشق الثاني: حكم إلزام القاضي المقلّد. حيث ورد بمنعه قول عند المالكية، وذهب إليه الشافعية والحنابلة. وأجازه الحنفية، وبعض المالكية، كما قال به ابن تيمية حال حصول مفسدة. وهذا القول الأخير الأقرب للصواب.
المسألة الثالثة: حكم إلزام القاضي بالقضاء على قول ورد في أحد المذاهب الفقهية، وهو عين التقنين، ووصل الخلاف فيه إلى خمسة أقوال:
القول الأول: الجواز، قال به عبد الوهاب خلاف، محمد رشيد رضا، الحجوي الفاسي، محمد المرير، أحمد محمد شاكر، علي الخفيف، مصطفى المراغي، أبو الأعلى المودودي، وأحمد فهمي أبو سنة.
القول الثاني: الوجوب، قال به أبو زهرة، حسنين مخلوف، ومصطفى الزرقا.
القول الثالث: التحريم، قال به محمد الأمين الشنقيطي، عبد الملك آل الشيخ، عبد الله البسام، بكر أبو زيد، ومحمد ناصر الدين الألباني.
القول الرابع: إذا كانت الدولة تتبع تعاليم الشريعة، فالتقنين ممنوع، أما إذا كان بها قانون وضعي فالتقنين جائز. قال بهذا ابن باز.
القول الخامس: التقنين الفقهي جائز باستثناء باب التعزيرات. ذهب إلى هذا عبد الوهاب الحافظ، وعبد الله بن منيع.
ولكل فريق أدلّة قوية ووجيهة، ومع سَوْق الأدلة ومناقشتها انتهى الترجيح إلى جواز التقنين استثناء.
كما اشتمل هذا الفصل منهجية التقنين، من بيان الجهة التي يُخوَّل لها مثل هذا الأمر، وأنها في الجملة لا تخرج عن السلطة العامة، المتمثلة في ولي الأمر، أو من ينوب عنه. وأمثل السُّبُل هو اتباع منهج تشكيل اللجان، التي توزع فيما بينها المهام، مثل لجنة وضع المشروع، ولجنة المراجعة، ولجنة المراقبة.
كما بُيِّن مصدر التقنين، والذي يجب أن يكون الفقهَ الإسلامي بمذاهبه وآرائه الزاخرة. كما ينبغي التنبيه إلى أنه يجب السير على الاتجاه الفقهي للتقنين، الذي يجعل الفقه المصدر الوحيد له. وطرح الاتجاه القانونين الذي ليس من شأنه سوى أسلمة القوانين الوضعية.
وكذلك حُدِّد نطاق التقنين، فهو لا يشمل كل الأحكام الفقهية، وإنما ما غلب عليه جانب المعاملات، والمناكحات، والعقوبات، أما جانب العبادات، فغير مقصود بالتقنين، إلا فيما يخص الأمور الإجرائية لبعض العبادات المالية كالزكاة والحج.
ثم بيان خطوات صياغة المواد المقننة، من تبويب، وصياغة للنظريات العامة، وإظهار الروح العامة للمواد المقننة في صورة علمية، مرنة، مستوحاة من الشريعة الإسلامية، وترك الفراغات التشريعية، واستعمال الأسلوب الخبري، المُيَسَّر، الموجَز، الخالي من التناقض. واستعمال اللغة الواضحة، والدقيقة. والإلتزام بالمصطلح الفقهي الواحد في كل أبواب التقنين.

كما تم سرد الضوابط التي لا يكون التقنين الفقهي شرعيا بدونها، وهي نوعان: ضوابط إجرائية، وأخرى موضوعية.
فأما الضوابط الإجرائية؛ فتتلخص في:
-أن يكون القائم على عملية التقنين من ذوي الاجتهاد.
-ضرورة إنشاء مجمع علمي متخصص، لاستنباط أحكام النوازل المستجدة.
-أن يكون التقنين محليا.
-ضرورة إرفاق مدونات التقنين بما يُسمّى المذكرات الإيضاحية.
-أن يكون التقنين محميا من التدخل الأجنبي أو الضغوطات السياسية.
-ألّا يُتَّخَذ التقنين طريقا لاستيراد القوانين الوضعية.
-الإلتزام بالمعايير الشكلية للمدوّنة القانونية، من ترتيب، وتبويب، وترقيم متسلسل.
-عدم التردّد في تعديل المدونة القانونية، كلما وجد داعٍ يقتضي العدول عن الحكم القانوني المدون.
وأما الضوابط الموضوعية فتتخلص-هي الأخرى-فيما يلي:
-وجوب التقيّد بالأحكام الشرعية.
-إلتزام الإجماع المتيقّن.
-إعمال القياس الصحيح.
-اعتبار المقاصد والمصالح، مع عدم مناقضتها لمصالح الجماعة.
-مراعاة أعراف الناس، ما لم يعارض دليلا شرعيا.
-تجنّب الأخذ بالآراء الشاذة، والأقوال الضعيفة، والمرجوحة.
-مراعاة القيمة العلمية، وتنوع المصدر.
-عدم الانسياق مع النظريات الأجنبية، التي دلّت التجارب الطويلة على عدم جدواها.
-عدم إغفال عناصر الزمان، والمكان، والأشخاص.
أما الفصل الثالث ففيه بيان لآثار حركة التقنين الفقهي، سواء على الاجتهاد، أو اتجاهات التـأليف، أو على تبويب الفقه، وقوعد، ومصطلحه.
فعلى مستوى الاجتهاد، ظهر ما يسمى بالاجتهاد الانتقائي، وهو اختيار قول مجتهد، ترجّح لدى المختار، بحسب معايير الترجيح العامة، للفتوى، أو القضاء به. لجأت إليه الكثير من المدونات التقنينية، وشبهها، وأوردت أمثلة توضيحية من قرار حقوق العائلة، ملخص الأحكام الشرعية، قانون الأسرة الجزائري، ومشروع قانون الحدود والجنايات الإماراتي.
كما ضُيِّق الاجتهاد القضائي بعد أن كان واسعا. فقديما؛ كانت مصادر التشريع متنوعة للقاضي، والآراء الفقهية متعددة. لكن في الحصر الحاضر، قننت كل تلك الآراء، واختصرت، في مواد ملزمة للقاضي، فانحصر اجتهاده في فهم النص، وتطبيقه على وقائع القضايا.
كما فُعِّل الاجتهاد الجماعي، فالتقنين شكل من أشكاله، وهو الباعث على نشوء المجامع الفقهية، التي يحتاجها لدراسة أحكام القضايا المستجدة، التي يُطلب تقنينها.
وعلى مستوى اتجاهات التأليف الجديدة، فظهرت الكتابة فيما يلي:
أولا: الكتابة في النظريات الفقهية، حيث إن منهجية التقنين، تقتضي صب أحكام الفقه الإسلامي في القوالب الرومانية، والتي تقوم على تقسيم الحق إلى عيني، وشخصي. وعن الأول تتفرع نظرية الملكية، وعن الثاني تتفرع نظرية الإلتزام.
ثانيا: تطوير الدراسات المقارنة، فظهر في العصر الحديث ما يسمى الفقه المقارن، وتوسعت الكتابة بشكل حيادي. وقُضي على التّعصّب على المذهبي. كما كُتب في المقارنات التشريعية، والتقنين الفقهي يوفّر الصرح الفقهي القاعدي، الذي تتم من خلاله عقد المقارنة بينه وبين القوانين الوضعية. كذلك، نجد الكثير من المقارنات التشريعية مبثوثة في كتب النظريات الفقهية.
ثالثا: الكتابة الموسوعية في المجال الفقهي، حيث اقتضى الاعتراف بالأهلية القانونية للفقه الإسلامي، إظهار تراثه بأيسر الطرق، في شكل الموسوعات. فأخرجت الموسوعة الفقهية المصرية، والموسوعة الفقهية الكويتية. كما صاحب هذا العمل ظهور المعاجم الفقهية، مثل معجم لغة الفقهاء.
أما على مستوى التبويب الفقهي، والقواعد الفقهية، والمصطلح الفقهي، فنجد ما يلي:
أولا: تغير التبويب الفقهي القديم، ويظهر ذلك في إدراج أبواب الحجر، والهبة والوصية، واللقيط، والفرائض ضمن قسم المناكحات. وتناول أحكام المعاملات ضمن القوالب الرومانية، وأدرجت لإخراج النظريات الفقهية. أو ترتيبها أبجديا كما هو حال الموسوعات الفقهية.
ثانيا: تطوير تطبيقات القواعد الفقهية في المجال القانوني، فنجد القواعد الفقهية تتصدر مواد مجلة الأحكام العدلية، وهي مبثوثة في العديد من المدونات التقنينية، وشبهها، مثل مجلة الإلتزامات والعقود التونسية، ملخص الأحكام الشرعية، مشاريع تقنين الشريعة، وكذلك بعض القوانين العربية الحديثة، مثل القانون المدني العراقي رقم40 لسنة 1951م، القانون المدني الأردني رقم 43 لسنة 1976م، قانون المعاملات المدنية السوداني لسنة 1984م، قانون المعاملات المدنية الإماراتي رقم 5 لسنة 1985م، المعدل بالقانون رقم 1/1987.
وحُصِر دور هذه القواعد في سدّ الفراغ التشريعي للقانون، تفسير العقود، بناء لأحكام القانونية، وتارة تكون القاعدة الفقهية بذاتها قاعدة قانونية.
ثالثا: انتقال مصطلحات القانون إلى الفقه الإسلامي، ويرجع السبب إلى الكتابة في المقارنات التشريعية، والنظريات الفقهية، ومنها ما يختلف دلالته في الفقه والقانون، لذا ينبغي دراسة الفروق بينهما، للحكم على توحد المصطلح من عدمه.
والحمد لله أولا وآخرا.

متابع

المتابِعون

أعلى