العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

حصري النص ظني الدلالة يمثل قمة التميز الاجتهادي

إنضم
8 أبريل 2012
المشاركات
60
الكنية
كلية الامام الاعظم الجامعة
التخصص
أصول فقه
المدينة
سامراء
المذهب الفقهي
مالكي
هذه المسألة نقلتها من رسالتي للدكتوراه : معالم التجديد الأصولي عند العلامة عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه (حفظه الله تعالى لهذه الأمة المكلومة)
في المدونة الأصولية عموماً تمثل ظنية الدلالة في النص إحدى وسائل الاختلاف ، فهل بحق بأن ظنية الدلالة سبب الاختلاف والتباين في التأصيل والتفريع ؟ أم تمثل ظنية الدلالة نوعاً من أنواع التميز الابداعي لمخزون النصوص الشرعي ؟

قد يكون الاحتمال الأول يلقى أكثر قبولاً عند الكثير من المتخصصين في العلوم الشرعية ، وذلك لما لاحظوه من أسباب اختلاف في القواعد وبالتالي نقل إلى الفروع الجزئية ، فاتضحت صورة الاختلاف بسبب ظنية الدلالة ، وقد استنبط أهل العلم جملة من القواعد في التعامل مع ظني الدلالة ، وخاصة في باب التعارض والترجيح والنسخ والتخصيص ، اضافة إلى التفسير والتأويل في عملية "الحمل".
وبالتالي : فهل ظنية الدلالة على المعنى سبب ارباكاً للحام؟ ، أم هو نوع من الثراء المعرفي والابداع التركيبي والتوظيف السياقي المبدع ولمتميز للسان العربي؟ .
مما هو معلوم بأن الخطاب الشرعي باعتباره خطاباً لغوياً ، يلتزم بما كان اسلوباً من أساليب العرب في مجمل صيغ خطاباتها ، وبالتالي فهو يتصف بــ "الانفتاح الدلالي" ويكون ذلك إذا كان الخطاب منفتح على دائرة المحامل المتعددة ، بحيث يكون التعدد صفة جوهرية وميزة لا منقصة .
ويصف الجرجاني وجه التميز بالانفتاح الدلالي بقوله : (واعلمْ أنه إِذا كان بَيّناً في الشيء أنه لا يَحْتَمِلُ إِلاّ الوجهُ الذي هو عليه حتّى لا يُشكِلَ وحتى لا يُحْتَاجَ في العلم بأنَّ ذلك حقّه وأنه الصَّوابُ إِلى فِكْرٍ ورَوِيَّةٍ فلا مَزِيَّةَ . وإِنما تكونُ المزيةُ ويجبُ الفضلُ إِذا احتَمَل في ظاهِر الحالِ غيرَ الوجه الذي جاءَ عليه وجهاً آخرَ)[1].
فكلما فرض النص تعقيداً ، وأشار إلى معاني أخرى ، فإنه يفسح المجال للنظر والحمل ،إن انفتاح النص في الدلالة على المعنى يعطيه صفة التوسع ، لتتنوع المحامل ، وتتنوع محال التنزيل ، وبالتالي يكون المجتهد في فسحة في توظيف النص حسب الوقائع التي تعرض عليه .
فالمشرع ليس بعاجز عن وضع الألفاظ إزاء المعاني للدلالة على معنى واحد ، وإنما هي دليل على قدرته في وضع معاني متعددة في قالب لفظ واحد ، مما يعطي مساحة كبيرة للنظر والاستنباط والتنزيل.
فالمشترك اللفظي ليس صفة عجر لعدم وضوح المعنى ، وإنما هي دلالة على سعة اللسان العربي ، ليجعل المتكلم في فسحة في التعامل مع الألفاظ استعمالاً وحملاً ، وبالتالي سنكون نحن أمام جملة من المحامل التي تجعل المجتهد يقلب اللفظ ويوظف السياقات المقالية والمقامية ليصل إلى تحديد معنى يحتمله اللفظ ولا يخرج عنه .
يرى العلامة بن عاشور أن للحامل فسحة في النظر والحمل كما أن للمستعمل صفة التوسع في إرادة المعاني فيقول : (... إن معنى الحمل بيان مقدار ما أراده المستعمل من جميع المعاني أو بعضها ، فالحمل إذاً أخص من الاستعمال ، ولا يجوز أن تثبت صحة الاستعمال ويمنع الحمل ...)[2] .
ثم إن تعدد الحمل للألفاظ سيحدث ارباكاً في الحمل والتنزيل على الوقائع ، فهل يحمل على سبيل المثال المشترك على جميع معانيه ، أم على بعضها ، أم يعمل بجميعها لكن يحمل كل معنى على واقعة تناسبه ؟ كل هذه الاشكاليات يطرحها اللفظ ذو المعاني المتعددة .
إن تعدد محامل الألفاظ أمر مقصود للشارع ، ويشاطره الأمر الوضع اللغوي ، فتكون تلك المعاني مقصودة للشارع جميعها ، لكنها على سبيل البدل ، لا على سبيل التوارد على محل واحد في تنزيل على حالة معينة ، فحينئذ يضيق المحل بها ، فلا يجمع بين الأضداد ، وإنما تبرز المساحة في الاستعمال والحمل .
فالنصوص الشرعية تحمل المعاني بمستوى واحد في مرحلة النظر ، وهي مرحلة الحمل الأولى ، وعند النظر والتدقيق في مدى انطباقها على وقائعها نجد بأن الحمل يضيق ليوظف بعض المعاني في فرع ، وتوظف الأخرى في محال أخرى .
ويبين العلامة بن عاشور هذا المسألة المعقدة في عملية الحمل بقوله : (فاللفظ المشترك إما أن تكون معانيه : متداخلة ، أو متباينة ، أو متناقضة . فإن كان الأول حمل على المعنى الشامل لها للاحتياط ، فلذلك قال : في قول الرجل لزوجته أنت خلية وبرية وحبلك على غاربك ، أنه يحمل على الثلاث في المدخول بها ؛ لأن اللفظ لما دار بين الرجعي والبائن حمل على البينونة ، وهي لا تحصل في المدخول بها لامكان حصول البينونة بمطلق حصول البينونة فلم يبق الا احتمال الثلاث[3] . وإن كانت المعاني متباينة فالأمر سهل وهو الحمل على جميعها . وإن كانت متناقضة فهنا انقطع عنها سلك الحكاية عن الشافعي والقاضي ، غلا أن المصنف قال لا يجمعون بين المعاني عند امتناع الجمع فلنرجع بهما إلى قول مالك (رحمه الله) فإنه يحمله في كل مكان على ما يقتضي الاحتياط ، فإنه حمل الأقراء على الأطهار في الخروج من العدة والحل للتزوج ، وعلى الحيض في منع مراجعة الزوج الأول لها إلا بصداق وولي فدخولها في الحيضة الثالثة مانع من المراجعة ، والطهر الثالث هو الذي تحل به للأزواج )[4]
وهنا نلاحظ في القسم الأخير وذلك عند تناقض أوجه الحمل في تنزيلها على واقعة معينة ؛ لأنه قد ضاق بها المحل ، فنجد الإمام مالك نظر لواقع كل حالة فوظف لها النص لينسجم مع واقعها وتفعيلاً لأحد طاقات النص التي لا تنضب ، من خلال استثمار وجه من تلك الأوجه .
وبناء على هذا : فإننا عندما نتعامل مع النصوص ظنية الدلالة بهذه الصورة ، بفتح أوعية المعاني لكافة المحامل ، فإننا نجعل المجتهد في فسحة من النظر والتنزيل ، لكننا عند نضيق عليه أوجه الحمل ، باغلاق نوافذه ، فيضيق النص بالمعاني فيتكلف الحامل في توظيف محامله على الواقع .
وأخيراً : فلا ينهض دليل الظن في أدوات الدرس الأصولي ليكون سبباً في انفصال أحد مكونات ، وأهم مولداته ، بل لا بد من النظر إلى الظنية باعتبارها ميزة نوعية ، وقيمة فريدة ، لولوج عالم الاجتهاد ، ولبيان قدرة نصوص الشريعة على مسايرة جميع الصور ، مهما اختلفت صورها وتنوعت أسبابها فلا بد أن ترتد لوجه من أوجه مخزون ألفاظ الشريعة ، بتوظيف ما اندرس من معانيه في ركام التقليد ، وغلق أبواب التجديد .


[1] دلائل الإعجاز ، عبد القاهر بن عبدالرحمن بن محمد الجرجاني ، تحقيق : د.محمد التنجي ، ط (1) ، دار الكتاب العربي – بيروت (1995) ، (221) .

[2] حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح ، (1/130 ، 131) .

[3] ينظر : الثمر الدانى في تقريب المعاني شرح رسالة ابن أبى زيد القيروان ، (1/469)

[4] حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح ، (1/132) .
 
أعلى