العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

بحث في نازلة منح خزينة الدولة مالا(نسبة معينة)لبنك عمومي نظير إقراضه قرضا لطالبه في مشروع استثماري

محمد رمضان سنيني

:: مطـًـلع ::
إنضم
3 نوفمبر 2012
المشاركات
117
الكنية
أبو عبد البر
التخصص
أصول الفقه
المدينة
الجزائر العاصمة
المذهب الفقهي
مالكي
بسم الله الرحمن الرحيم​

الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
إن نازلة منح خزينة الدولة مالا(نسبة معينة)لبنك عمومي نظير إقراضه قرضا لطالبه في مشروع استثماري دون أن يتحمل شيئا، ولا حتى عقوبة التأخر في سداد، وغاية ما عليه تقديم ملف يتضمن وثائق معينة من النوازل التي تحتاج إلى إعمال وتفعيل الثنائية: المقاصد وأصول الفقه، فضلا عن الاستنجاد بالقواعد الفقهية.
إن هاته النازلة أول ما يستحضر في النظر فيها قاعدة: الأصل في المعاملات الحل والإباحة، إلا ما ستثني، فذلك الأصل الثابت لا تقوى على رفعه الظنون ومجرد شبهات والاشتباه، وأقصى ما يلحق بالشبهة والاشتباه الكراهة، والجنوح إلى التورع، والكراهة تزول بالحاجة.
إن ذلك الأصل يجتهد في استمراريته ومصاحبته، ولا يروم ممتطيه أن يتصيد ما يخدش فيه، ويتحين الفرص للانقضاض عليه ، بل يعض عليه بالنواجذ، ويحافظ على بقائه، مدافعا ونافحا عنه، ردا لكل ما يحول حوله من شوائب وشبهات؛ هذا هو معترك الأصول لما تلج حلبة النوازل، وتواجه ما يظهر أنه يسعى لإبطالها؛ فما ثبت بقين لا يزول إلا بقين.
إذن لا بد من تحقق طرو مفاسد المعاملات المالية من ربا أو أكل أموال الناس بالباطل من غرر وغيره، بل إن بعض من تلك المفاسد قد يقع الإغضاء عنها إذا جرى فيها عرف الناس على وجه غير صحيح في مذهب مالك رحمه الله، كما أفنى بذلك ابن لب رحمه الله؛ الذي كان أهل غرناطة في عصره على فتاويه في الحلال والحرام؛ وذلك ترجيحا لمصلحة تقرير العقود[SUP]([1])[/SUP].
إن ذلك العرف الفاسد الجاري يقلب رأسا على عقب قاعدة: القول قول مدعي الأصل أو الصحة، فيصيرها: القول قول مدعى خلاف الأصل أو الفساد على حد قول ابن عاصم في تحفته:
الــــقـــــَوْلُ قــــَــوْلُ مـُـــــدَّعِ لِلأَصْـــــلِ أَوْ صِحْةٍ في كُـلِّ فـِعـْلٍ فـِعـْلِ
مَا لَمْ يَكُنْ في ذَاكَ عُرْفٌ جاري عَلَى خِلاَفِ ذَاكَ ذُو اسْتِقْرَارِ​

إن تلك النازلة تتشابك فيها عدة مسائل:
المسألة الأولى: وهي التي تتبادر أولا من النص النازلة؛ فقيام خزينة الدولة بتحمل تلك النسبة من القرض، وضخها في حساب البنك العمومي مع عدم تحمل المدين شيئا، ولو حمل قت، فهل نحن أمام ذمتين مستقلتين؟؛ فنُعمل قاعدة: كل سلف جر نفعا فهو ربا، أم أمام ذمتين إحداهما تابعة للأخرى؟؛ فنلجأ إلى تخريجها على قول من قال بعدم جربان الربا بين العبد وسيده أو تنزيلها على قاعدة عدم اعتبار الصور الخالية من المعنى، أم نحن أمام ذمة واحدة، ويد واحدة؟؛ فهي الدافعة والقابضة.
إن الاحتمال الأول لا يقوى على الصمود؛ فخزينة الدولة والبنك العمومي أو الوطني تسميتهما ووصفهما يعصفان به فضلا عن أنهما تابعان للدولة، ومن هياكلها ونظامها المالي؛ فهي المعينة لمن يقوم بتسييرهما، والمنهية لمهامهما، والدافعة لراتبهما، وحتى لو فرضنا الاستقلالية؛ فهي استقلالية في التسيير، وحتى هذه تخضع لقوانين والنظم التي أقرتها الدولة؛ فهذا التكييف يبعد تماما إعمال قاعدة: كل سلف جر نفعا فهو ربا، وإنما يصار إليها لو كان البنك بنكا خاصا.

أما الاحتمال الثاني حتى هو لا يمكن فرضه بما تقدم بيانه في الاحتمال الأول زيادة على أن الذين قالوا بعدم جريان الربا بين العبد وسيده فرضوا عدم الاستقلالية المالية، وأن العبد لا يملك.

إن مدار القول في إثبات الربا أو نفي وقوعه هو استقلال الذمة المالية؛ فإن كان محل خلاف ونقاش بالنسبة لعلاقة العبد مع
سيده؛ فإن ذلك ليس محل خلاف بالنسبة للولد مع والده والزوجة مع زوجها، وبطل قول من يقول بعدم جريان الربا بين المواطن ودولته والتي يمثلها البنك العمومي؛ وذلك لاستقلال الذمم[SUP]([2])[/SUP].
ولو سلمنا إلحاق هذه المسألة بمسألة: هل يجري الربا بين العبد وسيده أو لا؟، فإننا نختار الشق الأول، لعدم الاستقلالية، بل حتى لو قلنا أن العبد يملك على قول مالك رحمه الله؛ فإنه يقول بكراهة جريان الربا بين العبد وسيده مع تشدده في الربا؛ إذ من أصوله: أن توهم الربا كالعلم به[SUP]([3])[/SUP]؛ يقول ابن رشد موجها قول مالك:" كره مالك الربا بين العبد وسيده ، ولم يحرمه، فقال : لا أحب للسيد أن يكون بينه وبين عبده ربا ، وإن كان العبد يملك على مذهبه ما ملكه سيده أو ملكه غيره بوجه جائز؛ من أجل أن ملكه لماله غير مستقر؛ إذ لسيده أن ينزعه منه، فلما كان له أن ينتزع ماله بغير رضاه، لم يحرم عليه أن يأخذ منه ما أربى معه فيه إلا أنه كره ذلك؛ إذ لم يأخذه بوجه الانتزاع، وإنما أخذه باسم الربا......ومراعاة للخلاف في ملك العبد أيضاً إذ من أهل العلم من يقول : إنه لا يملك ، وإن ماله لسيده ، ويجب عليه زكاته، ولا يجوز للعبد أن يتصرف فيه....، وقول مالك أظهر؛ لأن الله تعالى يقول : ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم )، ولا يوصف بالفقر والغنى من لا يملك ، فربا السيد مع عبده من المشتبهات التي من تركها أجر ومن فعلها لم يأثم لقول النبي عليه السلام : "الحلال والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى المشتبهات استبرأ لدينه"[SUP]([4])[/SUP].

وبعد استبعاد الاحتمالين الأول والثاني لم يبق إلا الاحتمال الأخير؛ والذي يقوم على أن الذمة هي ذمة واحدة، وأن اليد هي يد واحدة، وهو الذي يترجح.

المسألة الثانية: وهي تثور لما يعرض إشكال مفاده: من أين يدفع البنك العمومي ذلك القرض؟ هل يدفعه من مخزونه المشترك مع دائنيه؟ وبالتالي تلك النسبة التي تتحملها الخزينة يستفيد بجزء منها أولئك الدائنين، أم أن البنك العمومي يستنجد بالبنك المركزي في تغطية طلبات قروض الاستثمار؟

إن فرضنا الاحتمال الأخير، فلا طرو للفساد، وهذا الاحتمال يتقوى بما يقوم به البنك يوميا في طلب مزيد من السيولة المالية من البنك المركزي في مواجهة طلبات زبائنه.

أما إن فرضنا الاحتمال الأول؛ وهو المسألة الثالثة: فعنده تتأتي شبهة الفساد، وتتقوى تلك الشبهة أكثر إذا ما رعينا غلبة حصة الدائنين وكونها تمثل نسبة مئوية تزيد على النصف وتقترب من الثلثين أو تزيد قليلا.

إن تلك الشبهة وإن قويت تترأى في الظاهر على أنها تدخل في قاعدة: كل سلف جر نفعا فهو ربا إلا أنها سرعان مما تتهاوى إذا ما جلبنا ما رجحناه في المسألة الأولى من كون تلك النسبة التي تتحملها الخزينة لا تخرج عن كونها عملية داخلية يقوم بها مالك البنك والخزينة نتيجة قوانين أملتها ظروف اقتصادية واجتماعية ليس إلا، وعليه تتكيف المسألة في صورة التعامل مع شركات أو بنوك تقوم بأعمال غير مشروعة؛ وذلك بحصولها على قروض ربوية، والتي تشكل جزءا معتبرا من ثروتها، مع استحضار أنه في بداية نشأتها قامت على رأس مال لا شبهة فيه؛ وهي مسألة خارجة عن باب البيوع وما شاكلها؛ ولهذا يؤخرها المالكية إلى كتاب الجامع من مصنفاتهم الفقهية، ويعنون لها بمسألة: معاملة أصحاب الحرام؛ وهي مسألة أفردها ابن رشد في أجوبته بمزيد من التفصيل وطول نفس[SUP]([5])[/SUP].

إن تلك المسألة؛ أعني معاملة من يكون الغالب على ماله الحرام، وإن كان فيها من ذهب إلى التحريم نظرا إلى أن الجزء الشائع لا يتميز، ولغلبة الحرام، فثمة من يقول بالصحة نظرا لتميز الجزء الشائع، وهناك من توسط لتعارض الأدلة فذهب إلى الكراهة، والذي توجبه قاعدة: تغليب جانب الصحة في عقود المسلمين القول بصحة التعامل مع تلك الشركات أو البنوك[SUP]([6])[/SUP]، وحتى لو توسطنا وقلنا بالكراهة، فالكراهة تزول بأدنى حاجة.

إن اعترض معترض وطعن في كل ما سيق، وجنح إلى التحريم، فإننا نفصل عن ذلك، بعد النظر إلى الملف الذي يقدمه طالبوا القروض الاستثمارية؛ والذي يضم وثائق تثبت عدم العمل، وعدم تقاضي منحة، وأن طالبيها بحاجة إلى ذلك القرض لرفع الضيق والحرج الذي يلازمهم، فطالبوا تلك القروض يضمهم اسم أو وصف مشترك مما يؤدي إلى تصنيفهم تحت"الحاجة الخاصة"، وبه يتم الانفصال عن القول بالتحريم بإعمال قاعدة: الحاجة إذا كانت عامة أو خاصة تنزل منزلة الضرورة.

هذا ما ظهر لي في هاته النازلة، وعلى الله سبحانه قصد السبيل، وهو حسبي ونعم الوكيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.








[SUP]([/SUP][1][SUP])[/SUP]- ينظر: مقاصد الشريعة لمحمد الطاهر بن عاشور: ص، 183.

[SUP] ([/SUP][2][SUP])[/SUP]- ينظر مع مزيد تفصيل: تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق مع الشريعة الإسلامية لسامي حسن حمود: ص199-204.

[SUP] ([/SUP][3][SUP])[/SUP]- قواعد المقري: القاعدة، 874.

[SUP] ([/SUP][4][SUP])[/SUP]- البيان والتحصيل: ج،17، ص290-291.

[SUP] ([/SUP][5][SUP])[/SUP]- ينظر فتاوى ابن رشد: ج1، ص631-649.

[SUP] ([/SUP][6][SUP])[/SUP]- ينظر مع مزيد تفصيل: مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات للشيخ بن بيه: ص212-218.
 
أعلى