- إنضم
- 11 أكتوبر 2008
- المشاركات
- 7,490
- الجنس
- أنثى
- الكنية
- أم طارق
- التخصص
- دراسات إسلامية
- الدولة
- السعودية
- المدينة
- الرياض
- المذهب الفقهي
- سني
العدد 145 / 146
تمهيد:
لا خلاف بين معظم علماء الفقه والأصول أنّ أحكام الشريعة الإسلامية معلّلة، وقد اتفقوا على أنّ أحكامها تهدف إلى تحقيق مصلحة العباد في العاجل والآجل قال الحكيم الترمذي (318هـ) : (تيقّن أنّ الله تعالى لم ينه عن شيء ولا أمر بشيء إلاّ بالحكمة)، وقال الشاطبي (ت 790هـ): (والمعتمد أنّا استقرينا من الشريعة أنّها وضعت لمصالح
العباد)[SUP](1)[/SUP]، والنّصوص التي تدل على التعليل كثيرة جدًا منها قوله تعالى في بعثة الرسل: (رسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّـهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)[SUP](2)[/SUP]، وفي بعثته: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[SUP](3)[/SUP]، وفي الصلاة: (إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)[SUP](4)[/SUP]، وفي الصيام قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[SUP](5)[/SUP]، وفي الزكاة قال: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[SUP](6)[/SUP]، وفي الحج: (لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)[SUP](7)[/SUP]، وفي موضع آخر قال تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[SUP](8)[/SUP]، وقال: (يُرِيدُ اللَّـهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا)[SUP](9)[/SUP]، وقال: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[SUP](10)[/SUP]، وقال: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى? عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّـهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ)[SUP](11)[/SUP].
فالشريعة تهدف إلى تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل والمقصود بالآجل مستقبل حياتهم في الدنيا.
وقد قسّم العلماء المصالح المعتبرة شرعا وصنفوها ورتبوها بغية اللجوء إليها عند الاختلاف.
وقد اهتم الصحابة بالمقاصد وبنوا عليها الكثير من فتاويهم، ومن أشهرهم في ذلك عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، ومن أمثلة ذلك جمع القرآن الكريم في المصحف في عهد أبي بكر وتضمين الصناع... إلخ.
قال ابن القيم: "وقد كانت الصحابة أفهم الأمّة لمراد نبيه وأَتبع له. وإنما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده"[SUP](12)[/SUP].
كما اهتم التابعون والعلماء بدراسة المقاصد منذ القرون الأولى ومنهم الأئمة الأربعة.
وأوّل من استعمل لفظ المقاصد إمام الحرمين الجوّيني (ت 478 هـ) في البرهان[SUP](13)[/SUP]، ولعل أوّل من صنف في مجال المقاصد الحكيم الترمذي (ت318هـ) في كتبه (الصلاة ومقاصدها) و(الحج وأسراره) و(علل الشريعة)، وكذلك القفال الشاشي (ت365هـ) في كتابه (محاسن الشريعة)، وأبوبكر الأبهري (ت375هـ) في كتابه (الجواب والدلائل والعلل)، وإمام الحرمين الجوّيني في كتابيه البرهان في أصول الفقه وغياث الأمم، كما تابعه وسار على نهجه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) في المستصفى وفي شفاء الغليل.
وتتابع التأليف في مجال المقاصد، فكتب العز بن عبد السلام (ت585 هـ) "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" و"الفوائد في اختصار المقاصد"، ثمّ أفرد الشاطبي (ت790هـ) قسما من كتابه الموافقات للمقاصد سماه كتاب المقاصد، وجعل العلم بمقاصد الشريعة أحد شرطي الاجتهاد.
وألّف المعاصرون مؤلفاتٍ جيدةً في المقاصد وكلّهم يهدف إلى الوصول إلى قواعد تكون الفيصل والمرجع عند الاختلاف[SUP](14)[/SUP].
ولم يعرِّف العلماء المتقدّمون مصطلح المقاصد تعريفا دقيقا رغم استعماله، وعرّفه حجة الإسلام الغزالي في قوله: (لكننا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع)[SUP](15)[/SUP]، أما المعاصرون فكانوا أكثر دقّة فعرفها الطاهر بن عاشور (ت1379هـ) بقوله: (هي المعاني والحِكَم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها)[SUP](16)[/SUP]، وعرّفها الدكتور أحمد الريسوني بقوله: (إن مقاصد الشريعة هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد)[SUP](17)[/SUP].
إنّ المقاصد التي جاءت الشريعة الإسلامية لتحقيقها، أو المصالح والغايات التي تهدف إليها من خلال أوامر الشارع ونواهيه ليست علي درجة واحدة من حيث اعتبار الشرع لها ومن حيث أهميتها للناس وحاجتهم إليها، إذ منها المقاصد الضرورية ومنها المقاصد الحاجّية ومنها المقاصد التحسينية، ولعل أوّل من أشار إلى ذلك الجويني في برهانه[SUP](18)[/SUP]، فقسمها خمسة أقسام وهي تعود إلى الثلاثة المذكورة، وتابعه الغزالي والعلماء بعد ذلك، واعتبر هذا التقسيم من أسس علم المقاصد.
فأمّا المصالح الضرورية: ما يُعتبر ضروريا بالنّسبة لهم، بحيث لو اختل أو لم يكن موجودا لحدث الخلل في حياتهم واضطربت أحوالهم، وعمّ الفساد وانتشرت الفوضى فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدّين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين[SUP](19)[/SUP].
والمصالح الحاجّية وهي أدني من ذلك وتمثل حاجة بالنّسبة للناس، وبدونه تصبح الحياة شاقة، واختلالها أو انعدامها يوقعهم في الحرج، وهي مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج[SUP](20)[/SUP].
أمّا التّحسينيات فهي ما لا يعتبر أمراً ضروريا أو حاجيا بالنّسبة للناس، ولا يترتب على عدمها مشقة لهم أو وقوع في الحرج، لأنّ ما تحقّقه لهم لا يعدو من أن يكون مصلحة تكميلية تحسينية وتدخل ضمن الأخذ بمحاسن العادات ومكارم الأخلاق[SUP](21)[/SUP].
المقاصد الشرعية مترابطة وتكمل بعضها بعضا وتعتبر المقاصد الضرورية أساس كل مباحث المقاصد في مجال أصول الفقه. فالمصالح الحاجية خادمة للضرورية، والتحسينية خادمة للحاجية فهي خادمة بالواسطة للمصالح الضرورية. فالضروريات هي أساس كل التشريع وهي المقصودة بالاعتبار والحفظ بالدرجة الأولى، وبقية المصالح خادمة لها. فالمصالح الضرورية هي أصل المصالح الحاجية والتحسينية.
قال الشاطبي: (فلو فرض اختلال الضروري بإطلاق لاختلا[SUP](*)[/SUP] باختلاله بإطلاق، ولا يلزم من اختلالهما اختلال الضروري بإطلاق، نعم قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق اختلال الحاجي بوجه ما، وقد يلزم من اختلال الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما... فإن الضروري هو المطلوب)[SUP](22)[/SUP].
كما قسمت المقاصد من حيث الوضع إلى مقاصد الشارع ومقاصد المكلف.
ومن حيث العموم والخصوص إلى مقاصد عامة ومقاصد كليّة ومقاصد خاصة ومقاصد جزئية.
ومن حيث اعتبار حظ المكلف وعدمه إلى مقاصد أصلية ومقاصد تابعة.
ومن حيث القطع والظن إلى مقاصد قطعية ومقاصد ظنية ومقاصد وهمية.
ومن حيث الحاجة والأهمية إلى مقاصد ضرورية وحاجية وتحسينية.
ودراستنا تنصب على المقاصد الضرورية خاصة باعتبارها أصل المقاصد الشرعية.
وجدير بالذكر هنا استعمال مصطلحات المصالح الضرورية والضروريات والمقاصد الضرورية عند العلماء لنفس المعنى.
فما هي مذاهب العلماء في تقسيم وترتيب المقاصد الضرورية؟ وهل حقق العلماء هدفهم في التقليل من الخلاف الفقهي باستنجادهم بمقاصد الشريعة؟
يمكن أن نصنّف ترتيب الضروريات إلى منهجين منهج المتقدّمين ومنهج المتأخرين، ذلك أنّ طريقة كلّ واحد تختلف عن الأخرى، فالمتقدّمون حصروها في خمسة ولم يتوسعوا فيها إلاّ قليلا أما المعاصرون فلهم اجتهادات أخرى.
إذن سنتناول دراسة الموضوع حسب الترتيب الزمني فنبدأ بطريقة المتقدّمين ثمّ نتناول طريقة المتأخرين والمعاصرين، محاولين المقارنة بين الطريقتين والاستفادة من ذلك.
وقسّمنا الدراسة إلى مطلبين رئيسيين:
الأوّل فيه ذكر الضروريات عند المتقدّمين وترتيبها.
والثاني فيه نظرة المعاصرين إلى حصر الضروريات وتوسّعهم فيها.
ثمّ ختمنا بأهم النتائج المتوصل إليها.
واعتمدنا على مناهج الوصف والتحليل والمقارنة ومناهج أهل الحديث في التخريج وتوخينا الإيجاز والتبسيط قدر الإمكان.