محمد بن حسين الأنصاري
:: متخصص ::
- إنضم
- 20 أبريل 2008
- المشاركات
- 122
- التخصص
- الشريعة..
- المدينة
- أم القرى
- المذهب الفقهي
- ............
مفهوم مدرسة الفقهاء والمتكلمين
بقلم/ محمد بن حسين الأنصاري
كنت قد كتبت ورقة في هذا الموضوع نحو سنة، خاصة ما يتعلق بمدرسة الفقهاء وسمتها: بـ"منهج المدارس الأصولية في استنباط القاعدة الأصولية" وكنت أعاود النظر فيها بين الفينة والأخرى مع بعض الأحبة إلى أن أتت مناسبة لطرحها؛ فاستخلصت منها ما يلي رجاء النفع والفائدة من مشاركات الأعضاء، ونقدهم البناء.
وبعد: فإن هذه المشاركة تتلخص في عدة نقاط:
النقطة الأولى: وجود منهجين في أصول الفقه.
أثبتت النصوص والتطبيقات الأصولية أن ثمة منهجين في دراسة القواعد الأصولية، وهذا القدر من البحث لا خلاف فيه فيما أحسب، وإنما حصل النزاع عند فئة من المتأخرين في حقيقة المنهجين، والمراد بهما، ومعناهما، وفي توجيه كلام ابن خلدون خاصة.
ولظهور هذه المسألة أكتفي بالإحالة عليها فقط، انظر على سبيل المثال ما يثبت وجود هاتين المدرستين:
- [التقريب والإرشاد (3/66و76و146)]
- و[أصول السرخسي (1/295)]
- و[إحكام الأحكام للآمدي (3/144)]
- و[التلخيص في أصول الفقه لإمام الحرمين (2/230)]
- و[المحصول (4/147)]
النقطة الثانية: حقيقة المنهجين:
(أي: مَن هم الفقهاء؟ ومن هم المتكلمون؟)
أولاً: من هم المتكلمون؟
أشير هنا فقط إلى ما لا بد منه حول هذه المدرسة، وأدع التفصيل لباحث آخر كتب فيها كتابة قيمة كما سيأتي.
هذه المدرسة ينتمي إليها كل من ألف في علم الأصول، وأسس بنيانه على علم الكلام، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
- نصوص العلماء في بيان مرادهم بالمتكلمين.
قال الباقلاني: (..وبه قال كثير من المتكلمين منهم الجبائي وابنه..)
[التقريب والإرشاد (3/66)]
وقال الجويني: (القول في منع القياس في الأسماء اللغوية: ما صار إليه معظم المحققين من الفقهاء والمتكلمين أن الأسماء في اللغات لا تثبت قياسا، ولا مجال للأقيسة في إثباتها، وإنما تثبت اللغات نقلا وتوقيفا، وذهب بعض الفقهاء، والمنتمين إلى الكلام إلى أن الأسماء قد تثبت قياسا). [التلخيص في أصول الفقه (1/194)]
قال الآمدي: (فذهب أكثر الفقهاء وجماعة من المتكلمين، كالقاضي أبي بكر والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وغيرهم، إلى أن ذلك يدل على نفي الحكم فيما بعد الغاية وخالف في ذلك أصحاب أبي حنيفة وجماعة من الفقهاء والمتكلمين وهو المختار).
[إحكام الأحكام للآمدي (3/92)] النصوص كثيرة جدا، أكتفي بهذا القدر فقط.
فهذه النصوص بينة في أن المراد بطريقة المتكلمين: هم المنتسبون إلى علم الكلام واتخذوه صناعة، وجعلوا أصوله طريقا للتأصيل والبناء.
وفي قول الجويني: (وذهب بعض الفقهاء، والمنتمين إلى الكلام) ما يدل على أنه قصد بذلك أصحاب علم الكلام، بدليل المقابلة.
ولعل هؤلاء هم الذين عناهم السمعاني بقوله: (وأما الذين يتكلمون في الجواهر والأعراض، وعرفوا بمحض الكلام، ولا يعرفون دلائل الفقه، فلا عبرة بقولهم في الإجماع، وهم بمنزلة العوام.
وأما المتفردون بأصول الفقه، فإن وافقوا الفقهاء في ترتيب الأصول، وطرق الأدلة، كان خلافهم مؤثرا يمنع من انعقاد الإجماع، وإن خالفوهم فيما يقتضيه استنباط المعاني، وعلل الأحكام، وغلبة الأشباه لم يؤثر خلافهم، وانعقد الإجماع بدونهم، والله أعلم).
[قواطع الأدلة في الأصول (1/480) ط: دار الكتب العلمية]
وقال أيضا في مقدمة القواطع في نقد طريقتهم: (ورأيت بعضهم قد أوغل، وحلل، وداخل. غير أنه حاد عن محجّة الفقهاء في كثير من المسائل، وسلك طريق المتكلمين الذين هم أجانب عن الفقه ومعانيه، بل لا قبيل لهم فيه ولا دبير، ولا نقير ولا قطمير، ومن تشبع بما لم يعط فقد لبس ثوبي زور).
بهذا يتضح معنى مدرسة المتكلمين، وهي لا تختص بمذهب دون غيره، فقد انتسب إلى طريقتهم ثلة من أصحاب أئمة المذاهب، كما تبين من خلال التطبيق والمقارنة، فمن وافقهم في طريقتهم فهو منهم وإن كان فقيها حنفيًّا، كما هو الحال في مجمل كتب الأصول المتأخرة.
[أشير هنا للفائدة: إلى بحث يتعلق بهذه المدرسة بعنوان: "أثر الأصول الكلامية في بناء القواعد الأصولية" للباحث/ سلطان العميري.
فقد خصص جزء منه لمفهوم هذه المدرسة، وضابط من ينتسب إليها، ومعالمها، ثم ختم البحث بأثر علم الكلام على الأصول].
ثانيًا: من هم الفقهاء؟
مَنْ هم أعيان تلك المدرسة؟ وما هي مناهجهم؟ وما هي مميزات وخصائص هذه المدرسة؟
وحرف مسألتنا هل الأحناف لهم اختصاص بمدرسة الفقهاء أم لا؟ وإن لم يكن، فهل يتميزون على من سواهم؟
أزعم هنا بأن ما شاع حول هذه المدرسة وتسميتها بمدرسة الأحناف فقط هو قول عارٍ عن الصحة والبرهان، ففقهاء الأحناف كغيرهم من فقهاء المذاهب ليس لهم اختصاص بهذه المدرسة دون من سواهم.
مدرسة الفقهاء: تشمل كل من استنبط القاعدة الأصولية من النص الشرعي، أو الفرع الفقهي، أو من نص إمام المذهب.
وقلة الفروع وكثرتها لا تصلح أن تكون معياراً لهذه المدرسة، لأنها لا تنضبط وتختلف من عالم لآخر، ومن مسألة إلى أخرى، وعليه فإن من قال: بأن مدرسة الفقهاء هم الأحناف فقط، أو قال: بأن لهم مزيد عناية، أو اختصاص، بناء على كثرة الفروع = نقول: الزيادة في ذكر الفروع غير مؤثرة هنا تماما، بل ينظر إلى الغرض الذي سيقت لأجله فحسب، فمن ذكر فرعا واحدا لاستنباط القاعدة، أو نصا واحدا لإمامه في ذلك لا فرق بينه وبين من سواه، إذا انطلقا من أصل واحد: استنباط القاعدة الكلية من النص الشرعي، أو من فروع المذهب، أو من نص إمامه.
إذا كان ذلك كذلك علم بأن مدرسة الفقهاء لا تختص بالأحناف ألبتة، وهذا ما أثبته لك من طريقين:
الأول: من جهة النص:
أي من جهة نصوص الأئمة، ومرادهم بهذا المصطلح.
والاعتماد على هذه الطريقة قليل جدا، بل قد لا يوجد، وذلك لخفاء النصوص، وقلة وجودها في غير مظانها، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى الاكتفاء بالسائد، وعدم البحث عن غيره، أو تقليب النظر فيه.
فقد نص عدد غير قليل من الأصوليين بأن الفقهاء هم كل من غاير طريقة المتكلمين في التأليف من أصحاب أئمة المذاهب.
وهذه المغايرة تتبين بأمرين:
قال ابن أمير الحاج: (واعلم أن نقل الحنفية عن الفقهاء والمتكلمين في الأصل..).
[التقرير والتحبير (2/208)]
فإذا كان الحنفية هم الفقهاء دون غيرهم، فكيف ينقلون عن أنفسهم؟!
قال ابن أمير الحاج: (وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة، وكثير من المتكلمين). [التقرير والتحبير (3/409)]
تنبه: إلى قوله: "أكثر الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة"، وليس الأحناف فقط، وقوله: "وكثير من المتكلمين" يزيد الأمر جلاء.
وقال أيضا: (أكثر الفقهاء ومنهم الحنفية و المحدثين لا يقبل الجرح إلا مبينا).
[التقرير والتحبير (2/344)]
وقال البخاري: (وأشار بقوله: ((على هذا أجمع الفقهاء)) إلى الدليل، وإلى خلاف غير الفقهاء، فإنه أراد بالفقهاء: مثل أبي حنيفة، والشافعي، ومالك، والأوزاعي، وأمثالهم من فقهاء الأمصار). [كشف الأسرار (3/178)]
فإذا كان أئمة الأحناف أنفسهم ينصون عند ذكر المدارس الأصولية على أن مصطلح الفقهاء لا يختص بهم دون غيرهم، من أين أتى اختصاصهم به؟!
وقد نص على ذلك أيضا عدد كثير من الأصوليين غير الأحناف، انظر على سبيل المثال:
قول الباقلاني: (وبه قال كثير من المتكلمين منهم الجبائي وابنه، وقاله كثير من الفقهاء من أصحاب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة وإليه ذهب عيسى بن أبان).
[التقريب والإرشاد (3/66)]
وقال أيضا: (اختلف الناس في هذا الباب: فقال الجمهور من أصحاب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة منهم الكرخي، وعيسى بن أبان، وجميع أهل الظاهر، وقوم من المتكلمين..)
[التقريب والإرشاد (2/339)]
فالباقلاني ينص بعد ذكر المتكلمين، بأن الفقهاء هم أتباع أئمة المذاهب الأربعة من الأصوليين، ليس للأحناف اختصاص بذلك، وهذه العبارة كثيرة جدا في كلام الباقلاني.
قال الجويني: (ومن عجيب المذاهب ما صار إليه بعض الفقهاء المنتمين إلى الأصول). [التلخيص في أصول الفقه (1/384-385]
وقال أيضًا: (فأما القائلون بالعموم، فقد افترقوا في ذلك، فذهب كثير من الفقهاء من أصحاب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة رحمهم الله، وطائفة من المتكلمين منهم الجبائي وابنه إلى أن الصيغة الموضوعة للعموم إذا خصصت صارت مجملة، لا يجوز الاستدلال بها في بقية المسميات، وإليه مال عيسى بن أبان، وذهب طائفة من الفقهاء منهم الكرخي وغيره...) [التلخيص في أصول الفقه (2/39-40)]
وقال أيضًا: (اعلم - وفقك الله - أن هذا مما اختلف فيه الفقهاء، والمتكلمون، فما ذهب إليه الجمهور من أصحاب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وأهل الظاهر، وطائفة من المتكلمين أن النهي عن الشيء يدل على فساده).
[التلخيص في أصول الفقه (1/480-481)]
قوله: "بعض الفقهاء المنتمين إلى الأصول" يبيّنه قوله: "فذهب كثير من الفقهاء من أصحاب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة رحمهم الله"
فالأحناف ليس لهم اختصاص بهذا اللقب دون غيرهم لا في الأصول ولا في الفروع.
وقال السمعاني: (اعلم أن الانعكاس ليس بشرط لصحة العلة في قول أكثر الأصحاب،
وهو قول جمهور من انتمى إلى الأصول من الفقهاء، وهو أيضا قول بعض المتكلمين).
[قواطع الأدلة في الأصول (2/162)]
هل الأحناف هم فقط جمهور من انتمى إلى الأصول؟!
فالسمعاني وغيره من أعيان علماء الأصول من أئمة المذاهب – المالكية، والشافعية، والحنابلة – ينتمون إلى هذه المدرسة، وهم ليسوا بأحناف.
قال السمعاني في مقدمة القواطع: (فاستخرت الله تعالى عند ذلك، وعمدت إلى مجموع مختصر في أصول الفقه، أسلك فيه محض طريقة الفقهاء من غير زيغ عنه ولا حيد، ولا ميل).
فكيف يُصنف السمعاني بعد هذا الكلام إلى مدرسة المتكلمين؟! ولا سيما بعدما شدد في النكير عليهم، وبالغ في لوم من تأثر بهم من الفقهاء، ثم صرح بعد ذلك بمخالفتهم فقال عن كتابه: "أسلك فيه محض طريقة الفقهاء من غير زيغ عنه ولا حيد، ولا ميل" فبعد كل هذا يقال: السمعاني كتب على طريقة المتكلمين!
الطريق الثاني: من جهة التطبيق:
وهذا بيّن لكل من نظر فيه بعين الاعتبار، فكتب الأصول المتقدمة ترد على كل من خصّ الأحناف دون غيرهم بمدرسة الفقهاء، وحتى لا أطيل عليك أضع بين يديك بعض النصوص من كتب الأصول لتتأمل فيها.
اقرأ على سبيل المثال في كتاب "العدة" لأبي يعلى، قوله رحمه الله:
(مسألة: الأمر المطلق يقتضي الوجوب، إذا ورد لفظ الأمر متعرياً عن القرائن اقتضى وجوب المأمور به.
وهذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله في مواضع:
فقال في رواية أبي الحارث: إذا ثبت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب وقال أيضاً رحمه في رواية مهنا – وقد ذكر قول مالك في الكلب يلغ في الإناء لا بأس به- فقال: ((ما أقبح هذا من قولة! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يغسل سؤر الكلب سبع مرات).
وكذلك نقل صالح عن رضي الله عنه فيمن صلى خلف الصف وحده: يعيد الصلاة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً صلى خلف الصف أن يعيد).
[العدة في أصول الفقه للقاضي أبو يعلى (1/224-226)].
وهذا النمط كثير جدا في كلام أبي يعلى، وهو مخالف تماما لطريقة المتكلمين، فكيف يكون منهم؟!
وعلى هذه الطريقة ألف بعض الأصوليين نسبوا إلى طريقة المتكلمين، وهم ليسوا كذلك، منهم على سبيل المثال:
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن طريقة الفقهاء ليست على وجه واحد، بل لها أنماط متعددة، فالشافعي له طريقة مستقلة في هذا الباب، فهو يعتمد كلياًّ على النص الشرعي، ولغة العرب مع ذكر الفروع كأمثلة، وقريب منه ابن حزم في اعتماد النص، كما أن الشيرازي والسمعاني طريقتهما في الاستدلال للقاعدة تختلف عن طريقة ابن القصار وأبي يعلى وأبي الخطاب.
[سأفصّل ذلك لا حقا بحول الله]
مثال آخر:
قال الشيرازي: (فأما فحوى الخطاب فهو التنبيه، ويجوز التخصيص به، كقوله تعالى: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} لأن هذا في قول الشافعي - رحمة الله عليه - يدل على الحكم بمعناه، إلا أنه معنى جلي، وعلى قوله يدل على الحكم بلفظه، فهو كالنص)
[اللمع (ص:84)]
قارن هذا المثال والذي قبله وهما يمثلان مدرسة الفقهاء بالمثال الآتي، وهو خاص بمدرسة المتكلمين لترى الفرق بين النصّين الأوليين والاستدلال عليهما، والنص التالي:
قال أبو الحسين البصري:
(باب في أن لفظة ((افعل)) تقتضي الوجوب.
اختلف الناس في ذلك. فذهب الفقهاء وجماعة من المتكلمين وأحد قوليّ أبي علي إلي أنها حقيقة في الوجوب.
وقال قوم: إنها حقيقة في النّدب.
وقال آخرون: إنها حقيقة في الإباحة.
وقال أبو هاشم: إنها تقتضي الإرادة. فإذا قال القائل لغيره: ((افعلْ))، أفاد ذلك أنه مريد منه الفعل. فإن كان القائل لغيره ((افعل)) حكيماً، وجب كون الفعل على صفة زائدة على حُسنه يستحق لأجلها المدح، إذا كان المقول له في دار التكليف. وجاز أن يكون واجباً، وجاز أن لا يكون واجباً، بل يكون ندباً. فإذا لم يدل الدلالة على وجوب الفعل، وجب نفيه والاقتصار على المحقق وهو كون الفعل ندباً يستحق فاعله المدح.
والدليل على أن لفظة ((افعل)) حقيقة في الوجوب أنها تقتضي أن يفعل المأمورُ الفعل لا محالة. وهذا هو معنى الوجوب. فإن قيل: لم زعمتم أولا أن قول القائل ((افعل)) يقتضي أن يفعل؟ وما أنكرتم أنه يقتضي الإرادة. قيل ليس يخلو من قال: ((إن يفيد الإرادة)) إمّا أن يريد بذلك أن يفعل المأمور الفعل، ومن حيث كان طلباً له وبعثاً عليه، يدلّ على الإرادة من حيث كان الحكيم لا يبعث على ما لا يريده بل يكرهه؛ وإما أن يريد أنه موضوع للإرادة، كما أن قول القائل لغيره: ((أريد منك أن تفعل)) موضوع للإرادة ابتداء. فإن قال بالأول، فهو قولنا. لأنه قد سلّم أنه موضوع لأن يفعل المأمور الفعل. وقال إنه يقتضي الإرادة تبعاً لذلك. وهذا مذهبنا).
[المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري، (1/57-58)]
أعتقد أن الفرق بيِّنٌ وظاهر بين هذه النصوص، ولا سيما بين النصّين الأوليين، والنص الأخير، وجميع من ذكر – أعني: صاحب "العدة" وصاحب "اللمع" وصاحب "المعتمد" – عند المتأخرين من مدرسة واحدة: هي مدرسة المتكلمين، وقد رأيت البون الشاسع في إثبات القاعدة بين القاضي أبي يعلى والشيرازي معاً، وبين أبو الحسين البصري، ولا تنسى أن البصري حنفي، فالأولى به على طريقتهم أن يكون على منهج الفقهاء، وهو أبعد ما يكون عن ذلك.. والله أعلم.
وبعد: فهذا ما سمح به الوقت، وجاد به الخاطر.. وقد بقي في البحث عناصر أخرى مهمة، لا سيما ما يتعلق بكلام ابن خلدون، ونقول متفرقة هنا وهناك، سنؤلف بينهما فيما بعد، بالإضافة إلى هذه الخلاصة في بحث موثق بحول الله.
بقلم/ محمد بن حسين الأنصاري
كنت قد كتبت ورقة في هذا الموضوع نحو سنة، خاصة ما يتعلق بمدرسة الفقهاء وسمتها: بـ"منهج المدارس الأصولية في استنباط القاعدة الأصولية" وكنت أعاود النظر فيها بين الفينة والأخرى مع بعض الأحبة إلى أن أتت مناسبة لطرحها؛ فاستخلصت منها ما يلي رجاء النفع والفائدة من مشاركات الأعضاء، ونقدهم البناء.
وبعد: فإن هذه المشاركة تتلخص في عدة نقاط:
النقطة الأولى: وجود منهجين في أصول الفقه.
أثبتت النصوص والتطبيقات الأصولية أن ثمة منهجين في دراسة القواعد الأصولية، وهذا القدر من البحث لا خلاف فيه فيما أحسب، وإنما حصل النزاع عند فئة من المتأخرين في حقيقة المنهجين، والمراد بهما، ومعناهما، وفي توجيه كلام ابن خلدون خاصة.
ولظهور هذه المسألة أكتفي بالإحالة عليها فقط، انظر على سبيل المثال ما يثبت وجود هاتين المدرستين:
- [التقريب والإرشاد (3/66و76و146)]
- و[أصول السرخسي (1/295)]
- و[إحكام الأحكام للآمدي (3/144)]
- و[التلخيص في أصول الفقه لإمام الحرمين (2/230)]
- و[المحصول (4/147)]
النقطة الثانية: حقيقة المنهجين:
(أي: مَن هم الفقهاء؟ ومن هم المتكلمون؟)
أولاً: من هم المتكلمون؟
أشير هنا فقط إلى ما لا بد منه حول هذه المدرسة، وأدع التفصيل لباحث آخر كتب فيها كتابة قيمة كما سيأتي.
هذه المدرسة ينتمي إليها كل من ألف في علم الأصول، وأسس بنيانه على علم الكلام، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
- نصوص العلماء في بيان مرادهم بالمتكلمين.
قال الباقلاني: (..وبه قال كثير من المتكلمين منهم الجبائي وابنه..)
[التقريب والإرشاد (3/66)]
وقال الجويني: (القول في منع القياس في الأسماء اللغوية: ما صار إليه معظم المحققين من الفقهاء والمتكلمين أن الأسماء في اللغات لا تثبت قياسا، ولا مجال للأقيسة في إثباتها، وإنما تثبت اللغات نقلا وتوقيفا، وذهب بعض الفقهاء، والمنتمين إلى الكلام إلى أن الأسماء قد تثبت قياسا). [التلخيص في أصول الفقه (1/194)]
قال الآمدي: (فذهب أكثر الفقهاء وجماعة من المتكلمين، كالقاضي أبي بكر والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وغيرهم، إلى أن ذلك يدل على نفي الحكم فيما بعد الغاية وخالف في ذلك أصحاب أبي حنيفة وجماعة من الفقهاء والمتكلمين وهو المختار).
[إحكام الأحكام للآمدي (3/92)] النصوص كثيرة جدا، أكتفي بهذا القدر فقط.
فهذه النصوص بينة في أن المراد بطريقة المتكلمين: هم المنتسبون إلى علم الكلام واتخذوه صناعة، وجعلوا أصوله طريقا للتأصيل والبناء.
وفي قول الجويني: (وذهب بعض الفقهاء، والمنتمين إلى الكلام) ما يدل على أنه قصد بذلك أصحاب علم الكلام، بدليل المقابلة.
ولعل هؤلاء هم الذين عناهم السمعاني بقوله: (وأما الذين يتكلمون في الجواهر والأعراض، وعرفوا بمحض الكلام، ولا يعرفون دلائل الفقه، فلا عبرة بقولهم في الإجماع، وهم بمنزلة العوام.
وأما المتفردون بأصول الفقه، فإن وافقوا الفقهاء في ترتيب الأصول، وطرق الأدلة، كان خلافهم مؤثرا يمنع من انعقاد الإجماع، وإن خالفوهم فيما يقتضيه استنباط المعاني، وعلل الأحكام، وغلبة الأشباه لم يؤثر خلافهم، وانعقد الإجماع بدونهم، والله أعلم).
[قواطع الأدلة في الأصول (1/480) ط: دار الكتب العلمية]
وقال أيضا في مقدمة القواطع في نقد طريقتهم: (ورأيت بعضهم قد أوغل، وحلل، وداخل. غير أنه حاد عن محجّة الفقهاء في كثير من المسائل، وسلك طريق المتكلمين الذين هم أجانب عن الفقه ومعانيه، بل لا قبيل لهم فيه ولا دبير، ولا نقير ولا قطمير، ومن تشبع بما لم يعط فقد لبس ثوبي زور).
بهذا يتضح معنى مدرسة المتكلمين، وهي لا تختص بمذهب دون غيره، فقد انتسب إلى طريقتهم ثلة من أصحاب أئمة المذاهب، كما تبين من خلال التطبيق والمقارنة، فمن وافقهم في طريقتهم فهو منهم وإن كان فقيها حنفيًّا، كما هو الحال في مجمل كتب الأصول المتأخرة.
[أشير هنا للفائدة: إلى بحث يتعلق بهذه المدرسة بعنوان: "أثر الأصول الكلامية في بناء القواعد الأصولية" للباحث/ سلطان العميري.
فقد خصص جزء منه لمفهوم هذه المدرسة، وضابط من ينتسب إليها، ومعالمها، ثم ختم البحث بأثر علم الكلام على الأصول].
ثانيًا: من هم الفقهاء؟
مَنْ هم أعيان تلك المدرسة؟ وما هي مناهجهم؟ وما هي مميزات وخصائص هذه المدرسة؟
وحرف مسألتنا هل الأحناف لهم اختصاص بمدرسة الفقهاء أم لا؟ وإن لم يكن، فهل يتميزون على من سواهم؟
أزعم هنا بأن ما شاع حول هذه المدرسة وتسميتها بمدرسة الأحناف فقط هو قول عارٍ عن الصحة والبرهان، ففقهاء الأحناف كغيرهم من فقهاء المذاهب ليس لهم اختصاص بهذه المدرسة دون من سواهم.
مدرسة الفقهاء: تشمل كل من استنبط القاعدة الأصولية من النص الشرعي، أو الفرع الفقهي، أو من نص إمام المذهب.
وقلة الفروع وكثرتها لا تصلح أن تكون معياراً لهذه المدرسة، لأنها لا تنضبط وتختلف من عالم لآخر، ومن مسألة إلى أخرى، وعليه فإن من قال: بأن مدرسة الفقهاء هم الأحناف فقط، أو قال: بأن لهم مزيد عناية، أو اختصاص، بناء على كثرة الفروع = نقول: الزيادة في ذكر الفروع غير مؤثرة هنا تماما، بل ينظر إلى الغرض الذي سيقت لأجله فحسب، فمن ذكر فرعا واحدا لاستنباط القاعدة، أو نصا واحدا لإمامه في ذلك لا فرق بينه وبين من سواه، إذا انطلقا من أصل واحد: استنباط القاعدة الكلية من النص الشرعي، أو من فروع المذهب، أو من نص إمامه.
إذا كان ذلك كذلك علم بأن مدرسة الفقهاء لا تختص بالأحناف ألبتة، وهذا ما أثبته لك من طريقين:
الأول: من جهة النص:
أي من جهة نصوص الأئمة، ومرادهم بهذا المصطلح.
والاعتماد على هذه الطريقة قليل جدا، بل قد لا يوجد، وذلك لخفاء النصوص، وقلة وجودها في غير مظانها، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى الاكتفاء بالسائد، وعدم البحث عن غيره، أو تقليب النظر فيه.
فقد نص عدد غير قليل من الأصوليين بأن الفقهاء هم كل من غاير طريقة المتكلمين في التأليف من أصحاب أئمة المذاهب.
وهذه المغايرة تتبين بأمرين:
- بالمقابلة، وهذا في غاية الكثرة، أي: ذكر الفقهاء مقابل المتكلمين، والمتكلمين مقابل الفقهاء.
- الأمر الثاني: بالتطبيق، وبيان الفروق بين المدرستين والطريقتين.
قال ابن أمير الحاج: (واعلم أن نقل الحنفية عن الفقهاء والمتكلمين في الأصل..).
[التقرير والتحبير (2/208)]
فإذا كان الحنفية هم الفقهاء دون غيرهم، فكيف ينقلون عن أنفسهم؟!
قال ابن أمير الحاج: (وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة، وكثير من المتكلمين). [التقرير والتحبير (3/409)]
تنبه: إلى قوله: "أكثر الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة"، وليس الأحناف فقط، وقوله: "وكثير من المتكلمين" يزيد الأمر جلاء.
وقال أيضا: (أكثر الفقهاء ومنهم الحنفية و المحدثين لا يقبل الجرح إلا مبينا).
[التقرير والتحبير (2/344)]
وقال البخاري: (وأشار بقوله: ((على هذا أجمع الفقهاء)) إلى الدليل، وإلى خلاف غير الفقهاء، فإنه أراد بالفقهاء: مثل أبي حنيفة، والشافعي، ومالك، والأوزاعي، وأمثالهم من فقهاء الأمصار). [كشف الأسرار (3/178)]
فإذا كان أئمة الأحناف أنفسهم ينصون عند ذكر المدارس الأصولية على أن مصطلح الفقهاء لا يختص بهم دون غيرهم، من أين أتى اختصاصهم به؟!
وقد نص على ذلك أيضا عدد كثير من الأصوليين غير الأحناف، انظر على سبيل المثال:
قول الباقلاني: (وبه قال كثير من المتكلمين منهم الجبائي وابنه، وقاله كثير من الفقهاء من أصحاب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة وإليه ذهب عيسى بن أبان).
[التقريب والإرشاد (3/66)]
وقال أيضا: (اختلف الناس في هذا الباب: فقال الجمهور من أصحاب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة منهم الكرخي، وعيسى بن أبان، وجميع أهل الظاهر، وقوم من المتكلمين..)
[التقريب والإرشاد (2/339)]
فالباقلاني ينص بعد ذكر المتكلمين، بأن الفقهاء هم أتباع أئمة المذاهب الأربعة من الأصوليين، ليس للأحناف اختصاص بذلك، وهذه العبارة كثيرة جدا في كلام الباقلاني.
قال الجويني: (ومن عجيب المذاهب ما صار إليه بعض الفقهاء المنتمين إلى الأصول). [التلخيص في أصول الفقه (1/384-385]
وقال أيضًا: (فأما القائلون بالعموم، فقد افترقوا في ذلك، فذهب كثير من الفقهاء من أصحاب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة رحمهم الله، وطائفة من المتكلمين منهم الجبائي وابنه إلى أن الصيغة الموضوعة للعموم إذا خصصت صارت مجملة، لا يجوز الاستدلال بها في بقية المسميات، وإليه مال عيسى بن أبان، وذهب طائفة من الفقهاء منهم الكرخي وغيره...) [التلخيص في أصول الفقه (2/39-40)]
وقال أيضًا: (اعلم - وفقك الله - أن هذا مما اختلف فيه الفقهاء، والمتكلمون، فما ذهب إليه الجمهور من أصحاب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وأهل الظاهر، وطائفة من المتكلمين أن النهي عن الشيء يدل على فساده).
[التلخيص في أصول الفقه (1/480-481)]
قوله: "بعض الفقهاء المنتمين إلى الأصول" يبيّنه قوله: "فذهب كثير من الفقهاء من أصحاب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة رحمهم الله"
فالأحناف ليس لهم اختصاص بهذا اللقب دون غيرهم لا في الأصول ولا في الفروع.
وقال السمعاني: (اعلم أن الانعكاس ليس بشرط لصحة العلة في قول أكثر الأصحاب،
وهو قول جمهور من انتمى إلى الأصول من الفقهاء، وهو أيضا قول بعض المتكلمين).
[قواطع الأدلة في الأصول (2/162)]
هل الأحناف هم فقط جمهور من انتمى إلى الأصول؟!
فالسمعاني وغيره من أعيان علماء الأصول من أئمة المذاهب – المالكية، والشافعية، والحنابلة – ينتمون إلى هذه المدرسة، وهم ليسوا بأحناف.
قال السمعاني في مقدمة القواطع: (فاستخرت الله تعالى عند ذلك، وعمدت إلى مجموع مختصر في أصول الفقه، أسلك فيه محض طريقة الفقهاء من غير زيغ عنه ولا حيد، ولا ميل).
فكيف يُصنف السمعاني بعد هذا الكلام إلى مدرسة المتكلمين؟! ولا سيما بعدما شدد في النكير عليهم، وبالغ في لوم من تأثر بهم من الفقهاء، ثم صرح بعد ذلك بمخالفتهم فقال عن كتابه: "أسلك فيه محض طريقة الفقهاء من غير زيغ عنه ولا حيد، ولا ميل" فبعد كل هذا يقال: السمعاني كتب على طريقة المتكلمين!
الطريق الثاني: من جهة التطبيق:
وهذا بيّن لكل من نظر فيه بعين الاعتبار، فكتب الأصول المتقدمة ترد على كل من خصّ الأحناف دون غيرهم بمدرسة الفقهاء، وحتى لا أطيل عليك أضع بين يديك بعض النصوص من كتب الأصول لتتأمل فيها.
اقرأ على سبيل المثال في كتاب "العدة" لأبي يعلى، قوله رحمه الله:
(مسألة: الأمر المطلق يقتضي الوجوب، إذا ورد لفظ الأمر متعرياً عن القرائن اقتضى وجوب المأمور به.
وهذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله في مواضع:
فقال في رواية أبي الحارث: إذا ثبت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب وقال أيضاً رحمه في رواية مهنا – وقد ذكر قول مالك في الكلب يلغ في الإناء لا بأس به- فقال: ((ما أقبح هذا من قولة! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يغسل سؤر الكلب سبع مرات).
وكذلك نقل صالح عن رضي الله عنه فيمن صلى خلف الصف وحده: يعيد الصلاة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً صلى خلف الصف أن يعيد).
[العدة في أصول الفقه للقاضي أبو يعلى (1/224-226)].
وهذا النمط كثير جدا في كلام أبي يعلى، وهو مخالف تماما لطريقة المتكلمين، فكيف يكون منهم؟!
وعلى هذه الطريقة ألف بعض الأصوليين نسبوا إلى طريقة المتكلمين، وهم ليسوا كذلك، منهم على سبيل المثال:
- إمام هذا العلم: الشافعي – رحمه الله-.
- أبو الخطاب صاحب كتاب "التمهيد".
- الخطيب البغدادي صاحب كتاب "الفقيه والمتفقه".
- الشيرازي صاحب "التبصرة" و"اللمع" وشرحه.
- السمعاني صاحب كتاب "قواطع الأدلة".
- ابن القصار صاحب المقدمة الأصولية.
- ابن حزم الظاهري صاحب كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" و"النبذ" .
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن طريقة الفقهاء ليست على وجه واحد، بل لها أنماط متعددة، فالشافعي له طريقة مستقلة في هذا الباب، فهو يعتمد كلياًّ على النص الشرعي، ولغة العرب مع ذكر الفروع كأمثلة، وقريب منه ابن حزم في اعتماد النص، كما أن الشيرازي والسمعاني طريقتهما في الاستدلال للقاعدة تختلف عن طريقة ابن القصار وأبي يعلى وأبي الخطاب.
[سأفصّل ذلك لا حقا بحول الله]
مثال آخر:
قال الشيرازي: (فأما فحوى الخطاب فهو التنبيه، ويجوز التخصيص به، كقوله تعالى: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} لأن هذا في قول الشافعي - رحمة الله عليه - يدل على الحكم بمعناه، إلا أنه معنى جلي، وعلى قوله يدل على الحكم بلفظه، فهو كالنص)
[اللمع (ص:84)]
قارن هذا المثال والذي قبله وهما يمثلان مدرسة الفقهاء بالمثال الآتي، وهو خاص بمدرسة المتكلمين لترى الفرق بين النصّين الأوليين والاستدلال عليهما، والنص التالي:
قال أبو الحسين البصري:
(باب في أن لفظة ((افعل)) تقتضي الوجوب.
اختلف الناس في ذلك. فذهب الفقهاء وجماعة من المتكلمين وأحد قوليّ أبي علي إلي أنها حقيقة في الوجوب.
وقال قوم: إنها حقيقة في النّدب.
وقال آخرون: إنها حقيقة في الإباحة.
وقال أبو هاشم: إنها تقتضي الإرادة. فإذا قال القائل لغيره: ((افعلْ))، أفاد ذلك أنه مريد منه الفعل. فإن كان القائل لغيره ((افعل)) حكيماً، وجب كون الفعل على صفة زائدة على حُسنه يستحق لأجلها المدح، إذا كان المقول له في دار التكليف. وجاز أن يكون واجباً، وجاز أن لا يكون واجباً، بل يكون ندباً. فإذا لم يدل الدلالة على وجوب الفعل، وجب نفيه والاقتصار على المحقق وهو كون الفعل ندباً يستحق فاعله المدح.
والدليل على أن لفظة ((افعل)) حقيقة في الوجوب أنها تقتضي أن يفعل المأمورُ الفعل لا محالة. وهذا هو معنى الوجوب. فإن قيل: لم زعمتم أولا أن قول القائل ((افعل)) يقتضي أن يفعل؟ وما أنكرتم أنه يقتضي الإرادة. قيل ليس يخلو من قال: ((إن يفيد الإرادة)) إمّا أن يريد بذلك أن يفعل المأمور الفعل، ومن حيث كان طلباً له وبعثاً عليه، يدلّ على الإرادة من حيث كان الحكيم لا يبعث على ما لا يريده بل يكرهه؛ وإما أن يريد أنه موضوع للإرادة، كما أن قول القائل لغيره: ((أريد منك أن تفعل)) موضوع للإرادة ابتداء. فإن قال بالأول، فهو قولنا. لأنه قد سلّم أنه موضوع لأن يفعل المأمور الفعل. وقال إنه يقتضي الإرادة تبعاً لذلك. وهذا مذهبنا).
[المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري، (1/57-58)]
أعتقد أن الفرق بيِّنٌ وظاهر بين هذه النصوص، ولا سيما بين النصّين الأوليين، والنص الأخير، وجميع من ذكر – أعني: صاحب "العدة" وصاحب "اللمع" وصاحب "المعتمد" – عند المتأخرين من مدرسة واحدة: هي مدرسة المتكلمين، وقد رأيت البون الشاسع في إثبات القاعدة بين القاضي أبي يعلى والشيرازي معاً، وبين أبو الحسين البصري، ولا تنسى أن البصري حنفي، فالأولى به على طريقتهم أن يكون على منهج الفقهاء، وهو أبعد ما يكون عن ذلك.. والله أعلم.
وبعد: فهذا ما سمح به الوقت، وجاد به الخاطر.. وقد بقي في البحث عناصر أخرى مهمة، لا سيما ما يتعلق بكلام ابن خلدون، ونقول متفرقة هنا وهناك، سنؤلف بينهما فيما بعد، بالإضافة إلى هذه الخلاصة في بحث موثق بحول الله.