العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

موقف الإمام ابن حزم من مقاصد الشريعة

إنضم
25 يونيو 2008
المشاركات
1,762
الإقامة
ألمانيا
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
ألمانيا
المدينة
مونستر
المذهب الفقهي
لا مذهب بعينه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته....

فهذا موضوع عن "موقف الإمام ابن حزم من المقاصد"

ويرجو صاحبه أن يخضع للمناقشة...

(من المرفقات)



 

المرفقات

  • المقاصد عند ابن حزم.doc
    120.5 KB · المشاهدات: 3
إنضم
25 يونيو 2008
المشاركات
1,762
الإقامة
ألمانيا
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
ألمانيا
المدينة
مونستر
المذهب الفقهي
لا مذهب بعينه
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ :
فإن الشائع اليوم هو أن الإمام ابن حزم من نفاة المقاصد الشرعية جملة وتفصيلا , ومن "الجامدين" على ظواهر النصوص جمودا كبيرا , والواقع أنه غير جامد على الظواهر , كما أنه غير ناف للمقاصد الشرعية بإطلاق .
وقد كنت في الجامعة أتعجب من بعض من درسني وهو يحتج للمقاصد على الظاهرية بقوله تعالى :
[FONT=arabswell_1]يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَوأقول لنفسي[/FONT]: وهل أبطل الظاهرية دلالة الآية؟
وهل الظاهرية يرون أن الشريعة ليست رحمة ؟!
وقد حاولت تسليط الضوء على الموضوع بما يفتح باب النقاش وتصحيح ما يمكن أن يصحح وتعديل ما يمكن أن يعدل.





مقدمة
في تعريف علم المقاصد


تعريف المقاصد باعتباره مركبا إضافيا:
كلمة مقاصد , من قصد يقصد قصدا ومقصدا , تدل على ثلاثة معاني من جهة اللغة(1), ما يهمنا منها هو : إتيان الشئ , قصد الشئ إذا أتاه وأمَّه. ويقول د. الربيعة في (علم مقاصد الشارع) في معناها الإصطلاحي : "ما يراد من تشريع الأحكام" .
أما الشريعة فتأتي في اللغة بمعنى المنهج والطريق(2). وفي الإصطلاح يقول الريسوني في كتابه (الفكر المقاصدي) : " الشريعة..جملة الأحكام العملية التي تضمنها الإسلام".


تعريف المقاصد باعتباره علما على الفن :
لم يهتم المتقدمون من أهل العلم- ممن اهتم بعلم المقاصد – بوضع حد لعلم المقاصد , على عنايتهم الشديدة بالحدود وكثرة خصوماتهم فيها , وبرر ذلك المعاصرون بتبريرات شتى لا أجد فائدة في الإشتغال بها وحصرها , وأشهر ما برروا به تصرف القدامى , أنهم كانوا يناقشون موضوعا واضح المعالم عندهم فلم يجدوا حاجة ملجئة إلى تكلف حد لهذا العلم ..يقول الشيخ أحمد الريسوني في (نظرية المقاصد) : "أما شيخ المقاصد أبو إسحاق الشاطبي , فإنه لم يحرص على إعطاء حد وتعريف للمقاصد الشرعية , ولعله اعتبر الأمر واضحا" .
وفي الحقيقة لا أجدني مرتاحا لهذا التعليل ألبتة , فإننا نجد أهل الأصول – وهم نفسهم المقاصديون- قد اشتهروا بين العالمين بالعناية بالحدود والتنازع في أمرها , ووصل الأمر بهم أن تنازعوا في حد الحد وما حزموا أمرهم فيه على رأي ! ..
أما أهل البحث من المعاصرين فقد عرفوا العلم بعدة تعريفات أشهرها وأكثرها قبولا ورواجا في الأوساط (المقاصدية) اثنان , أحدهما للعلامة الشيخ الإمام محمد الطاهر بن عاشور , وثانيهما للعلامة المجاهد بالسيف والقلم علال الفاسي , -والتعريفان بالإعتبار اللقبي للفن- :
-يقول محمد الطاهر رحمه الله تعالى : " مقاصد التشريع هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع".
- ويقول علال الفاسي رحمه الله : " المراد بمقاصد الشريعة , الغاية منها , والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها".
ولا تجد مُصنِّفا في علم المقاصد إلا أورد هذين التعريفين ثم اختار لنفسه تعريفا , ولم أجدا أحدا ارتضى تعريفا لغيره يؤدي المقصود ! ..وأحسنها عندي تعريف الريسوني في (نظرية المقاصد), ويليه تعريف عبد العزيز الربيعة في (علم مقاصد الشارع) :
- قال الريسوني : " مقاصد الشريعة هي الغايات التي وُضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد".
- قال الربيعة : " ما راعاه الشارع في التشريع عموما وخصوصا من مصالح للعباد , ومما يفضي إليها مما يجلب لهم نفعا أو يدفع عنهم ضررا".
أما نور الدين الخادمي فقد أبعد النجعة واختار لنفسه تعريفا طويلا , لا يتماشى ومهمة التعاريف وخصائصها فلا أذكره(3).


الفرق بين تعريف ابن عاشور والفاسي والريسوني :
قلنا سابقا أن ابن عاشور رحمه الله عرف المقاصد بقوله : " مقاصد التشريع هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع".
وهو يقصد رحمه الله تعالى المقاصد العامة بهذا التعريف , يوضح هذا المعنى تلك الأمثلة التي ساقها رحمه الله (حفظ النظام – إقامة المساواة- درأ المفاسد..).
ونعني بالمقاصد العامة , تلك التي تراعيها الشريعة في كل أبوابها أو أكثرها .
أما علال الفاسي رحمه الله فإنه قد عرف المقاصد –كما سبق إيراده- بقوله : " المراد بمقاصد الشريعة , الغاية منها , والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها".
وتعريفه رحمه الله يتكون من شقين , الشق الأول : (الغاية منها) , يتوافق وتعريف ابن عاشور في الإشارة إلى المقاصد العامة للتشريع ؛ أما الشق الثاني : (الأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها) , يشير إلى المقاصد الجزئية أو العلل (4).
أما تعريف الريسوني وهو : " مقاصد الشريعة هي الغايات التي وُضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد".
فهو تعريف عام تدخل فيه المقاصد العامة والخاصة والجزئية.


تعريف المقاصد عند الإمام ابن حزم :
لا يُعرف أن لابن حزم رحمه الله تعالى أي كتاب في فن المقاصد , وقد عاش رحمه الله تعالى في مرحلة لم ينضج فيها هذا العلم ولم يكن للأصوليين كبير اعتناء به , وإنما بدأت هذه المرحلة مع الجويني ثم الغزالي .., وأكاد أجزم أنه لو عاش إلى عصر الشاطبي لتكلم فيه ولنقض كتاب الشاطبي فصلا فصلا , جملة جملة.. لما له من صلة وثيقة بمسائل التعليل والقياس وقد عرف عن الإمام رضي الله عنه محاربته الشديدة لهذه القضايا الأصولية وسيأتي التفصيل ضمن هذا البحث .
وابن حزم رحمه الله لا ينكر أن لله تعالى أغراضا من تشريعاته وأسبابا لها, والدليل على ذلك أنه لما ناقش مثبتي التعليل , قال : " فإن قال قائل : أنتم تنكرون القول بالعلل وتقولون بالأساب فما الفرق بين الأمرين؟" ثم يبين –رحمه الله- الفرق بينهما حاصله أن العلة اسم لصفة توجب أمرا ما إيجابا ضروريا, أما السبب فهو فعل المختار فعلا لأجله ولو شاء لم يفعله (5) , لكنه يرى أن الشريعة ليست كلها لأسباب : بل منها ما هو لسبب وقد نص عليه , ومنها ما ليس لسبب وهو مالم ينص عليه , يقول رحمه الله :"ولسنا نقول أن الشرائع كلها لأسباب , بل نقول : ليس منها شئ لسبب إلا ما نص منها أنه لسبب , وما عدا ذلك فإنما هو شئ أراده الله تعالى الذي يفعل ما شاء"(6). فالشرط عنده في القول بالأساب أن يكون منصوصا عليه .
هذا فيما يخص الباعث على شرع الحكم "السبب" , وللإمام رحمه الله مصطلح ثالث شديد الصلة بمصطلح السبب , وهو : "الغرض" , يقول رحمه الله : " وأما الغرض فهو الأمر الذي يجري إليه الفاعل ويقصده ويفعله وهو بعد الفعل ضرورة"(7).
ويلاحظ أنه رحمه الله تعالى لم يشترط التنصيص في الأغراض كما صنع في الأسباب , وهذا أمر ينقص من حدة الخلاف مع أهل المقاصد في جزئية محددة وهي : أن كل التشريعات جاءت لأغراض ومصالح , ولا شك في أنه رحمه الله تعالى يستند إلى النصوص الدالة على إرادة الله تعالى اليسر ورفع الحرج والضرر على الأمة , كقوله تعالى :[FONT=arabswell_1]يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ[/FONT], [FONT=arabswell_1]وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ[/FONT]..
وهذا واضح في تصرفات الإمام وتطبيقاته الفقهية , ففي المسألة 124 من المحلى يرى رضي الله عنه أن تطهير أنواع الدم لا يكون إلا بالماء إلا ما يشق على المرء تطهيره , يقول : " مسألة: وتطهير دم الحيض أو أي دم كان سواء دم سمك كان أو غيره إذا كان في الثوب أو الجسد فلا يكون إلا بالماء, حاشا دم البراغيث ودم الجسد فلا يلزم تطهيرهما إلا ما لا حرج في غسله على الإنسان, فيطهر المرء ذلك حسب ما لا مشقة عليه فيه."
ثم يستدل رحمه الله في موضع آخر على رأيه هذا فيقول : قال الله تعالى: [FONT=arabswell_1]وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[/FONT]. وقال تعالى:[FONT=arabswell_1]لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا [/FONT]. وقال تعالى : [FONT=arabswell_1]يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ[/FONT], [FONT=arabswell_1]وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ[/FONT] وبالضرورة ندري أنه لا يمكن الانفكاك من دم البراغيث, ولا من دم الجسد, فإذ ذلك كذلك فلا يلزم من غسله إلا ما لا حرج فيه, ولا عسر مما هو في الوسع"(8) اهـ.
يمكن أن نستنتج من خلال ما سبق تعريفا للمقاصد أو الأغراض عند الإمام ابن حزم رحمه الله : "مقاصد الشريعة هي الغايات التي تحققها الشريعة لمصلحة العباد" , ويكون تعريفه رحمه الله منسجما مع الجزء الأول من تعريف علال الفاسي والريسوني.


الفرق بين تعريف المفترض عند ابن حزم وتعريف المقاصديين:
إذا أخذنا تعريف الريسوني باعتباره تعريفا شاملا للمقاصد الجزئية والعامة , وهو :" الغايات التي وُضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد". والتعريف المفترض عند ابن حزم , فإننا لا نلحظ أي اختلاف إطلاقا , وإنما الخلاف في ما يصنعه المقاصديون من القياس على العلل(=المقاصد) الجزئية والكلية , في حين نجد الإمام ابن حزم لا يقيس إطلاقا .


مسألة:
يأتي الغرض بمعنى المقصد فهما يدلان على معنى واحد , فكما يصح أن تقول مقصد الشرع يصح أن تقول غرض الشرع , ولذلك قال ابن حزم في تعريف الغرض : "وأما الغرض فهو الأمر الذي يجري إليه الفاعل ويقصده ويفعله"(9) , وقد استنكر ابن القيم هذا الإطلاق واعتبره من المحدثات والمبْتَدعات التي لا يجوز إطلاقها , وهو مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا , فيتعين حسب هذا الرأي المنع من إطلاق لفظ أغراض الشارع , ومقاصد الشارع إذ كانا يؤديان معنى واحدا 10..
كما أن لفظ الشارع التي يرد ذكرها كثيرا على لسان الأصوليين وأهل المقاصد مما لم يرد به نص, فيجب الإمتناع عن إطلاقها ..




الفصل الأول
أسس نظرية المقاصد
تُعتبر مباحث التعليل ,التحسين والتقبيح , من أهم الأسس التي انبنى عليها علم المقاصد -وفق التصور السائد اليوم- , يقول الدكتور عبد العزيز الربيعة في كتابه (علم مقاصد الشارع) : "الكلام في اعتبار مقاصد الشارع مبني على الكلام في تعليل أحكام الله تعالى وأفعاله . والكلام في تعليل أحكام الله تعالى وأفعاله مبني على الكلام في التحسين والتقبيح العقليين".
وكما قال الدكتور الربيعة فإن الموقف من علم المقاصد اعتبارا ورفضا رهينٌ بمسألة التحسين والتقبيح , ذلك أن التعليل فعل أو حركة عقلية تنظر في ما يمكن أن يكون مقصودا له تعالى في تشريعاته لأجل هدف محدد : وهو تعميم الحكم الشرعي الخاص بهذه المسألة على ما يشابهها من مسائل ..
المسألة الأولى
التحسين والتقبيح
إن جمهور الدارسين لعلم المقاصد –من المُحْدثين- يبدون امتعاضا وعدم تقبل للنظرية الأشعرية في مسألة التحسين والتقبيح العقليين ؛ والنظرة الأشعرية تقوم على أن الأشياء في ذاتها ليست حسنة ولا قبيحة , وإنما تكتسب أحد الحكمين بواسطة الشرع فقط , ووظيفة العقل أن يفهم هذا الخطاب الإلهي ويمتثله فقط(11) ..
وسبب هذا الإمتعاض : هو ما يلزم أنصار مذهب الأشاعرة من إبطال كون المصالح فروعا للدين , يقول الريسوني في معرض إنكاره على الشيخ البوطي المناصر لهذا المذهب : "وإذا لم نقل بهذا لزم –على رأي الدكتور البوطي- بطلان ما قرره من كون المصالح فرعا للدين , ثم يقول بعد ذلك[أي البوطي] (وأما أن أحكام الله متأخرة عن المصالح , فذلك باطل أنكره جمهور المسلمين , ويتناقض -لو قيل به – مع ما تقرر من عدم وجود حسن وقبح ذاتيين في الأفعال) .
والدكتور البوطي [الكلام للريسوني] في هذا يقرر أمرا في غاية الخطورة , وفي غاية المصادمة للبدهيات" اهـ(12).
ويتبنى الدكتور الريسوني ومعظم المقاصديين مذهب الماتريدية القائلين بأن الحسن والقبح ذاتيين عقليين ولكن لا يترتب على ذلك حكم شرعي حتى يرد السمع, وكذلك متأخرو الأشاعرة فهذا السبكي رحمه الله يقول : " والحسن والقبح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته وصفة الكمال والنقص عقلي , وبمعنى ترتب الذم عاجلا والعقاب آجلا شرعي"(13) وكذلك كثير من أهل السنة , يقول ابن القيم رحمه الله : "فأما المدح والذم فترتبه على النقصان والكمال والمتصف به وذمهم لمؤثر النقص والمتصف به أمر عقلي فطري وإنكاره يزاحم المكابرة , و أما العقاب فقد قررنا أن ترتبه على فعل القبيح مشروط بالسمع"(14).
وكما ترى فأكبر أدلة المثبتين للتحسين والتقبيح هو الدليل العقلي , وأن هذا الأمر يضطر إليه العقل اضطرارا لدرجة أن من أنكره فقد كابر عقله .
في حين نجد ابن حزم وألوفا من العقلاء يرون أن العقل "مميز بين صفات الأشياء الموجودات , وموقف للمستدل به على حقائق كيفيات الكائنات , وتمييز المحال منها"(15) , ويقولون ها نحن من العقلاء –قدمادت بنا الأرض- وننازعكم في أن الحسن والقبح ليسا عقليين وليس في الأشياء صفات ذاتية توجب لها أحكاما(16)! ..
على أن ابن حزم رحمه الله تعالى ينهي هذا الجدل بقوله : "وقال تعالى :[FONT=arabswell_1]أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًىوالسدي المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهى فصح بهذه الآية أن الناس لم يبقوا قط هملا دون ورود شرع فبطل قول من قال إن العقول تعرف وقتا من الدهر من شرع وإذ قد بطل هذا القول فقد بطل أن يكون الشيء في العقل قبل وورد الشرع له حكم في العقل بحظر أو إباحة فصار قولهم محالا ممتنعا مع كونه حراما أيضا لو كان ممكنا وقال تعالى [FONT=arabswell_1]إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ[/FONT] فبطل هذا أن تكون أمة وقتا من الدهر لم يتقدم فيهم نذير[/FONT]"(17).
وحسب الإمام ابن حزم : فإن الله تعالى لم يلجئنا إلى عقولنا في الدين ألبتة , إذ كان الشرع مذ أول الخليقة , وما من أمة إلا وقد جائتها الشرائع تنير لها الطريق , فبقي البحث في هذه المسألة ضرب من الترف والفضول لا معنى له.
وقد نُسب للسلف (من صحابة وتابعين وتابعيهم) القول بأن الحسن والقبح ذاتيين , لكن لا يترتب على ذلك أي حكم شرعي , قال صاحب (المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين) : " وليس هذا ولا ذاك [يقصد مسلكي المعتزلة والأشاعرة] مسلك أهل السنة من السلف والتابعين والصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين. فالحسن والقبح العقليين ثابتان للفعل نفسه وثابتان للأشياء قبل ورود الشرع وبعده , وليس مع من نفى الحسن القبح العقليين دليل واحد صحيح."(18)ثم استدل بكلام ابن حزم في الرد على من قال بأن الأشياء على الحظر أو الإباحة , كما استدل بعد ذلك بقول لابن تيمية في أن الحسن والقبح ثابت للأشياء!!! , ومثله صنع صاحب كتاب (الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى) فقد قال :"هناك فريق وسط بين الأشاعرة والمعتزلة وهم السلف (!!), وإليك توضيح الحسن والقبح عندهم : معنى كون الفعل حسنا لذاته , أو قبيحا لذاته أو لصفته : أنه في نفسه منشأ المصلحة والمفسدة , وترتيبهما عليه كترتب المسببات على أسبابها المقتضية لها , .. وليس معنى كون الفعل حسنا أوقبيحا لذاته أو لصفته أن الحسن والقبح يقومان به وهما لازمان له , لا ينفكان عنه , ..وإذا كان الأمر كما ذكرنا قد يترتب الثواب على الفعل في بعض الأوقات دون بعض , وقد يكون الفعل حسنا في مكان وقبيحا في مكان آخر .." وبعد صفحتين من كلام (حضرته) ساق ثمانية أسطر من كلام ابن القيم !!! (19) , ولم ينقل أي منهما كلاما لواحد من السلف بالإسناد الصحيح أو السقيم (20)!...
لكن العجب لا يستمر طويلا إذا علمت أن الدكتور محمد ربيع المدخلي وهو (صاحب كتاب الحكمة والتعليل في أفعال الله) يقصد بالسلف زمانا : أهل القرون المفضلة , ويقصد بالسلف منهجا : كل من اتبع الكتاب والسنة ووافقهما في كل (ضع خطا تحت كل) ما يجب اعتقاده , ثم أتبع كلامه هذا بقوله : ويرجع الفضل في تجديد مذهب السلف والذب عنه إلى أبي العباس ابن تيمية وابن القيم فقد ألفا الكتب العديدة والرسائل المفيدة(21) !! .. وبعد كل هذا الكلام تجده يستدل بالعلامة محمد عبده –رحمه الله-من رسالته الأشعرية (رسالة التوحيد) في مسألة عنون لها ب (أولا : الحكمة عند السلف) !!
وإن عجبي –تالله- لا ينقضي من هذه الرسالة (العلمية)لدرجة (الماجستير) !! ..


المسألة الثانية
التعليل
التعليل ..وما أدراك ما التعليل..
اختلف الإسلاميون في التعليل كاختلافهم في التحسين والتقبيح وغيرهما , يقول الشيخ العروسي –كالعادة- :" فأهل السنة التابعون للصحابة , يقرون بالقدر وبالشرع وبالحكمة والتعليل في خلق الله وأمره , ويقرون بما جعله سبحانه من الأسباب والمصالح التي جعلها رحمة للعباد. فكل ما خلقه الله سبحانه فله فيه حكمة"(22).
ويفهم من كلامه أن النافون ليسوا من أهل السنة!وهذا خلاف ما حكاه ابن النجار عن ابن تيمية رحمه الله من أن لأهل السنة في المسألة قولان والأكثرون على التعليل (23) ..
على أن ابن حزم رحمه الله تعالى قد نفى التعليل الموافق للمعنى الفلسفي ( اسم لكل صفة توجب أمرا ما إيجابا ضروريا) لكنه أثبت الأسباب (وهي كل أمر فعل المختار فعلا لأجله , لو شاء لم يفعله) وهذا هو معنى العلة عند المثبتين للعلل غير المعتزلة , فابن حزم ليس من نفاة التعليل كما هو عند الفلاسفة أو الأشاعرة , فالأشاعرة يقولون :"إنه سبحانه لا يفعل فعلا لغرض لأنه لو كان كذلك لكان مستكملا بذلك الغرض.."(24) , أما ابن حزم فأثبت الأغراض مع تنزيه مطلق لله تعالى من شبهة الأشعرية, وإن كان ابن القيم وابن تيمية وغيرهما يرون أن لفظة الغرض مشعرة بنقص فلا يجوز إطلاقها وأنها اصطلاح بدعي حادث(25)..
ثم إن هؤلاء الأشاعرة نفسهم عادوا وأثبتوا عللا أخرى (على سبيل التفضل) أو (مؤثرة بجعل الله) كالحال مع الغزالي , فناقضوا أنفسهم(26) ..يقول الشيخ العروسي : "وقد استشكل بعضهم إثبات تعليل الأحكام , لأنه يصادم الأصل المشهور بنفي التعليل كما حصل لابن الحاجب عند الكلام على دليل العمل بالسبر والتقسيم , فإنه نقل إجماع الفقهاء على أنه لا بد للحكم من علة , وهذا معارض للأصل المشهور وهو نفي العلل في الخلق والأمر.."(27)
فابن حزم رحمه الله تعالى من نفاة التعليل الفلسفي والتعليل الفقهي الناتج عن استنباط دون تنصيص وليس كما يُشاع ..وهذا ما أشار إليه الريسوني في إشارة واضحة بقوله : " وأبدأ أولا بأن هناك قدرا من الخلاف مع ابن حزم , يمكن أن تؤول إلى الوفاق , انطلاقا مما يسميه الأصوليون "تحرير محل النزاع" , ذلك أن كثيرا من الخلافات قد تكون راجعة إلى اختلاف لفظي أو اصطلاحي)(28) .. وقد جاءت عبارة العروسي مختلة في الإبانة عن مذهب ابن حزم فقال :" وأما ابن حزم ومن تبعه فإنهم لا يقولون بالتعليل أصلا , والنصوص التي وردت معللة يسمون العلة فيها سببا ولا يطردونها...وقبل هذا الكلام قال ابن حزم : واعلم أن العلل كلها منفية عن أفعال الله وعن جميع أحكامه البتة" (29)
كان عليه أن يقول : وابن حزم لا يقول بالتعليل الفلسفي , لكنه يقارب معنى التعليل الفقهي مع مخالفته لهم في استنباطها وطردها.

وقد ناقش الريسوني أقوى دليل لابن حزم في استنباط العلل وهو قوله تعالى : [FONT=arabswell_1]لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ فكان مجمل مناقشاته[/FONT](30) :
  1. أن معنى الآية ليس النهي عن مطلق السؤال كما "يغالط ابن حزم" , لأن سياق الآية (الأنبياء 19-20) هو سياق الوحدانية ونفي الشركاء , فهو تعالى غير مسؤول وهم أي الآلهة المزعومة من بشر وملائكة مسؤولون ..
  2. المعنى الصحيح للآية هو : لا يجوز توجيه سؤال معارضة ومحاسبة أما سؤال التعلم والإستفهام فهو واقع وصادر عن الأنبياء والصالحين.
هذا أهم ما أورده الريسوني , وكلامه لا يسلم من معارضة :
أما قوله أن السؤال المقصود هنا هو سؤال الإعتراض لا غيره , فكلام غير صحيح , حسب ابن حزم , ذلك أنه قد تقرر في علم الأصول أن "الواجب حمل كل لفظ على عمومه , وكل ما يقتضيه اسمه دون توقف أو نظر , لكن إن جاءنا دليل يوجب أن نخرج عن عمومه بعض ما يقتضيه لفظه صرنا إليه "(31) فلفظة السؤال هنا على عمومها عند أول قرائتنا للآية فيدخل سؤال الإستنباط وسؤال الطلب وكل سؤال .. ثم وجدنا نصوصا قد خصصت هذه الآية فصرنا إليها ..وهذه النصوص هي التي استثنت سؤال الدعاء , وسؤال العون , وسؤال التعلم , أما سؤال المتفقهين والمتكلمين عن الحكم المبثوثة في الأحكام الشرعية فلم نجد نصوصا يحث عليها , فبقيت من أفراد العموم الذي لم يخصص , أما إن استثنى مستثن سؤال الحكم الشرعية هذه فإنه يكلف الدليل , فإن لم يجده فهو مخطئ متحكم بغير دليل وكما يقول ابن حزم , فلا فرق بينه –آنذاك- وبين الرافضي-قبح الله سعيه- الذي يقول إن الشجرة الملعونة في القرآن هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بمحض التحكم والهوى.
وقد أخطأ البعض فقال إن سؤال المتكلمين والمتفقهين هو من باب التعلم , وهذا خلط ظاهر جدا , حسب منطق الإمام ابن حزم , لأن هدف هؤلاء المتفقهين هو الزيادة في دين الله ما لم ينص عليه لأنهم يريدون بسؤالهم عن العلل أن يضيفوا أحكاما شرعية أخرى لقضايا حكم عليها الله تعالى بالإباحة , ففي الحديث : "وما سكت عنه فهو عفو لكم" .
وقد ساق الريسوني للتدليل على مشروعية الأسئلة آيات تتعلق بأنبياء وصالحين من أمم أخرى لا علاقة لهم بشرعنا , فلا حجة له في ذلك , كسؤال زكريا عليه السلام : [FONT=arabswell_1]قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ[/FONT]..
كما استدل بما رواه أحمد-وصححه شعيب الأرناؤوط- من حديث أم سلمة قالت : (قلت للنبي صلى الله عليه و سلم ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال قالت فلم يرعنى منه يومئذ الا ونداؤه على المنبر قالت وأنا أسرح شعرى فلففت شعرى ثم خرجت إلى حجرة من حجر بيتي فجعلت سمعي عند الجريد فإذا هو يقول عند المنبر يا أيها الناس ان الله يقول في كتابه [FONT=arabswell_1]إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إلى آخر الآية [FONT=arabswell_1]أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[/FONT][/FONT]).
وهذا لا حجة له فيه إطلاقا كما هو واضح , فإن سؤال أم سلمة رضي الله عنها كان سؤال تعلم , إذ كانت تعرف أن المسلمين والمسلمات موعودون بالجنة جزاء أعمالهم الصالحة , لكنه قد اشتبه عليها تخصيص الرجال في القرآن بالذكر فاستفهمت من رسول الله استفهام المتعلم الباحث عن الإطمئنان لا الباحث عن علة ليقيس عليها غيرها فيخالف أمر ربه من المنع من القياس .. والفرق واضح بين السؤالين .
ويمضي ابن حزم رحمه الله في إثبات الحجة على أهل التعليل فيقول : " وأما القول بالعلل التي يقول بها حذاق القياسيين عند أنفسهم , ولا يرون القياس جائزا إلا عليها , فباليقين نعلم أنه لم يقل بها أحد من الصحابة بوجه من الوجوه , ولا أحد من التابعين , ولا أحد من تابعي التابعين "(32).
كما أن التعليل من باب الرأي الذي لا يسنده دليل من كتاب أو سنة , وقد ورد النهي عن الآراء التي لا تستند إلى دليل من الوحي , كما ورد ما لا يحصى من الآثار عن الصحابة والتابعين في ذم هذه الآراء , وقد قال تعالى ذاما لهذه الآراء : [FONT=arabswell_1]وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًاوكل مُعلٍّل فهو فاقد لليقين والعلم [/FONT], إذ يحتمل أن يكون تعليله حقا ويحتمل أن يكون باطلا , وما كان هكذا فهو باطل لأنه ظن وشك ,وقد قال تعالى : [FONT=arabswell_1]وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا[/FONT]..




الفصل الثاني
مناقشة أدلة حجية المقاصد


احتج أهل المقاصد بعدة أدلة من الكتاب والسنة , وهي أدلة في مجملها دالة على رعاية مصالح العباد , وإرادة الخير واليسر بهم , وإبعاد المشاق عنهم , وإرشادهم إلى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم ..
من ذلك قوله تعالى : [FONT=arabswell_1]يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[/FONT].
وقوله تعالى : [FONT=arabswell_1]وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[/FONT].
وقوله تعالى : [FONT=arabswell_1]لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[/FONT].
وقوله تعالى : [FONT=arabswell_1]وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ[/FONT].
وقوله تعالى :[FONT=arabswell_1]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ[/FONT].
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن هذا الدين يسرٌ ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" رواه النسائي والبيهقي وصححه الألباني رحمه الله.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم :"لا ضرر ولا ضرار" وفي الحديث مقال , وقد حسنه الأرناؤوط بطرقه وشواهده.
قلتُ : ودلالة هذه الايات مجمع عليها من طرف الإسلاميين جميعا , لا يخالف في ذلك أحد , فإن الشريعة وأحكامها رحمة , وجاءت لتحقيق العدل بدلالات النصوص السابقة , وهذا القدر من المقاصد الشرعية مجمع عليه كما قلتُ , ولذلك قال الشاطبي رحمه الله : " والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره" وأحسبه يقصد ابن حزم أو الظاهرية بقوله (أو غيره) وهم فعلا لا ينازعون في ذلك ألبتة .
وتجد هذا واضحا في تطبيقات الإمام الفقهية –كما أشرت من قبلُ- ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة :
المثال الأول:في المسألة 124 من المحلى يرى رضي الله عنه أن تطهير أنواع الدم لا يكون إلا بالماء إلا ما يشق على المرء تطهيره , يقول : " مسألة: وتطهير دم الحيض أو أي دم كان سواء دم سمك كان أو غيره إذا كان في الثوب أو الجسد فلا يكون إلا بالماء, حاشا دم البراغيث ودم الجسد فلا يلزم تطهيرهما إلا ما لا حرج في غسله على الإنسان, فيطهر المرء ذلك حسب ما لا مشقة عليه فيه."
ثم يستدل رحمه الله في موضع آخر على رأيه هذا فيقول : قال الله تعالى: [FONT=arabswell_1]وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[/FONT]. وقال تعالى:[FONT=arabswell_1]لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا [/FONT]. وقال تعالى : [FONT=arabswell_1]يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ[/FONT], [FONT=arabswell_1]وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ[/FONT] وبالضرورة ندري أنه لا يمكن الانفكاك من دم البراغيث, ولا من دم الجسد, فإذ ذلك كذلك فلا يلزم من غسله إلا ما لا حرج فيه, ولا عسر مما هو في الوسع"(33) اهـ.
المثالث الثاني: في المسألة 658 , يقول : وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَعُدَّ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ فِي الزَّكَاةِ مَا أَكَلَ هُوَ وَأَهْلُهُ , ثم ذكر مذهب ألي حنيفة ومالك في أن كل ذلك يعد عليه , فقال الإمام ابن حزم : هذا تكليف ما لا يطاق, وقد يسقط من السنبل ما لو بقي لاتم خمسة أوسق, وهذا لا يمكن ضبطه، ولا المنع منه أصلا. والله تعالى يقول :[FONT=arabswell_1]لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا [/FONT](34)
لكن الخلاف بين ابن حزم وبين أهل المقاصد يظهر جليا في الفصل التالي , وهو : بم تُعرف المقاصد ؟





الفصل الثالث
بم تعرف المقاصد ؟


نص أهل العلم بمقاصد التشريع أن الطرق التي تُعرف بها المقاصد تنحصر في خمس طرق(35) :
الطريق الأول : لسان العرب .
الطريق الثاني : الأوامر والنواهي.
الطريق الثالث : علل الأوامر والنواهي.
الطريق الرابع : سكوت الشرع.
الطريق الخامس : الإستقراء.


الطريق الأول : لسان العرب.
ومهمته ليست خاصة بقاصد التشريع بل هو مهم في فهم الشريعة كلها , والعلم باللسان العربي من شروط الإجتهاد ومن أهم الواجبات , وكما قال الشيخ النحوي المقرئ أ.د عبد العزيز الحربي الظاهري : "ومن لا معرفة له بعلم اللغة لا ثقة بعلمه , ولا نعرف في التاريخ مجتهدا لم يتضلع في علوم اللغة – وأولها النحو- منذ عصر التصنيف فيه . والأصوليون يجعلون م نشروط الإجتهاد معرفة آبات وأحاديث الأحكام , وهي معدودة , ومعرفة اللغة العربية , ولم يحدوا لها حدا , ومعرفة اصول الفقه"(36) .
وقال شيخ الإسلام الشوكاني : " اعلم أن ما كان من أصول الفقه راجعاً إلى لغة العرب رجوعاً ظاهراً مكشوفاً كبناء العام على الخاص. وحمل المطلق على المقيد ورد المجمل إلى المبيَّن. وما يقتضيه الأمر والنهي ونحو هذه الأمور. فالواجب على المجتهد أن يبحث عن مواقع الألفاظ العربية. وموارد كلام أهلها وما كانوا عليه في مثل ذلك. فما وافقه فهو الأحق بالقبول والأولى بالرجوع إليه. فإذا اختلف أهل الأصول في شيء من هذه المباحث كان الحق بيد من هو أسعد بلغة العرب."(37) .
ولا خلاف في هذا الطريق بين ابن حزم وأهل المقاصد .


الطريق الثاني : الأوامر والنواهي.
يقول عبد المجيد النجار : "فالأمر دال بذاته على أن المقصد وقوع المأمور به , والنهي دال بذاته على أن المقصد الإنتهاء عن المنهي عنه , وقد قال الشاطبي في التعقيب على هذا المسلك : أنه وجه ظاهر عام لمن اعتبر مجرد الأمر والنهي من غير نظر إلى علة , ولمن اعتبر العلل والمصالح".
وكما قال الشاطبي فهذا مسلك وطريق واضح متفق عليه بين ابن حزم وغيره .


الطريق الثالث : علل الأوامر والنواهي.
يقول د.عبد المجيد النجار : "المسلك الثاني : هو أن لا يقتصر على مجرد الأمر والنهي بل يتعدى ذلك إلى اعتبار العلل في الأمر والنهي , فيقع البحث عن هذه العلل لتعيينها بمسالك العلة المعلومة في أصول الفقه , فإذا ما عرفت عرف بها مقصد الشارع فيقع العمل بمقتضاها أينما وجدت."
وواضح أن هذا الطريق وثيق الصلة بمسألة التعليل , وتعتبر من أمات المسائل الخلافية بين ابن حزم والظاهرية ومن وافقهم من جهة , وبين باقي فرق الملة , وإذا استحضرنا أن ابن حزم –وهو مجدد النهج الظاهري في المغرب- يرفض فكرة التعليل , فإن هذا الطريق مرفوض عنده أيضا , وقد سبق تفصيل هذه المسألة .


الطريق الرابع : سكوت الشرع.
وهذا باب جبار من أبواب مقاومة البدع -لو سلم له- , فكل ما كان الداعي إليه قائما زمن النبي وسكت عنه الشارع , فهو دليل على أن الله تعالى قصد إلى عدم ايقاعه ؛ ويكون فعله بدعة في الدين لم يأذن بها الله .
وابن حزم رضي الله عنه يرى أن الدين قد كمل زمن النبي , فقولهم (ما كان الداعي إليه قائما ) (ومالم يكن قائما) إقرار للقياس , ويستدل رحمه الله تعالى بقوله تعالى : [FONT=arabswell_1]وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا على أن الشريعة كاملة [/FONT], وكل إستحداث لأمر في الشريعة والعبادات فهو باطل .


الطريق الخامس : الإستقراء.
يقول د.نور الدين الخادمي : " المقاصد الإستقرائية هي المقاصد الثابتة بطريقة الإستقراء , والإستقراء معناه النظر في الجزئيات للوصول إلى الكليات . وفي مجال مقاصد الشريعة الإسلامية يراد بالإستقراء النظر في الجزئيات المقاصدية للوصول إلى المقاصد الإستقرائية".
ويرى ابن حزم رحمه الله تعالى , أن الإستقراء حجة إذا استطعنا أن نحصر كل الجزئيات وليس أغلبها كما يقول معظم أهل الأصول والمقاصد , يقول رضي الله عنه في كتابه (التقريب لحد المنطق) : " ولعمري لو قدرنا على تقصي تلك الاشخاص أولها عن آخرها حتى نحيط علما بأنه لم يشذ عنا منها واحدة فوجدنا هذه الصفة عامة لجميعها لوجب أن نقتضي بعمومها لها، وكذلك لو وجدنا الاحكام منصوصة على كل شيء فيه تلك الصفة لقطعنا به أنها لازمة لكل ما فيه تلك الصفة، واما ونحن لا نقدر على استيعاب ذلك ولا نجده أيضاً في الحكم منصوصا على كل ما فيه تلك الصفة فهذا تكهن من المتحكم به".
أضف إلى ذلك أن الإستقراء المقاصدي يعتمد على تتبع الجزئيات المقاصدية المعتمدة على التعليل كأساس لمعرفتها , وأكثر النصوص لم يُنص على عللها فهي استنباطية , وابن حزم رحمه الله يرى أن هذه العلل قد تكون هي حقا وقد تكون باطلا , وإذا كان كذلك فهو قفو بغير علم لا يجوز, وسؤال لله تعالى بما لا ينبغي .

---------------

1- مقاييس اللغة , ابن فارس , مادة (قصد).

2- تهذيب اللغة , الأزهري , مادة (شرع) .

3- تجده في كتابه (الإجتهاد المقاصدي حجيته وضوابطه ج1) ص 52.

4- ينظر نظرية المقاصد للريسوني ص6.

5- الإحكام ص1167 ط.دار الحديث.

6 - السابق ص1169.

7 - السابق ص 1167.

8 - المحلى , 1/105. مسألة 125.

9 - الإحكام ص 1167 ط دار الحديث.

10- الحكمة والتعليل في أفعال الله ص 42.

11- المستصفى ص 75- جمع الجوامع 13.

12- نظرية المقاصد ص 245.

13- جمع الجوامع ص 13.

14- مفتاح دار السعادة 2/ 362.

15- الإحكام ص43.

16- المستصفى ص 77.

17- الإحكام ص74.

18- المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأول الدين ص 74.

19- مع أن الكتاب في أصله رسالة ماجستير يفترض أن كلام يجب أن يُصحب بدليله , راجع فضلا الكتاب ص 89-90.

20- ذكر صاحب كتاب (المسائل المشتركة) أن ابن همام نقل هذا الرأي عن أبي حنيفة..

21- انظر كلامه هذا فضلا ص 32 ,

22- المسائل المستركة ص 279.

23- شرح الكوكب المنير 1/ 312 بواسطة نظرية المقاصد للريسوني ص202.

24- مفاتيح الغيب بواسطة نظرية المقاصد ص210.

25- الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى ص 42.

26- لك أن تراجع كتاب المانع عند الأصوليين لعبد العزيز الربيعة حيث سرد عددا من التعريفات الأصولية الأشعرية للعلة , وللأشاعرة رأي في كتاباتهم الأصولية , وآخر مخالف له في كتبهم الكلامية , وثالث مختلف في كتبهم الفقهية , هذا ليس خاصا بالتعليل !!! ..

27- المسائل المشتركة ص 272.

28- نظرية المقاصد ص 218.

29- المسائل المشتركة ص 273.

30- نظرية المقاصد ص 225 وما بعدها.

31- الإحكام ص385.

32- الإحكام : الفصل 38 في إبطال القياس في الدين.

33 - المحلى , 1/105. مسألة 125.

34 - المحلى 5/ 259 , مسألة 658.

35- نظرية المقاصد ص 271 وما بعدها – مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة لعبد المجيد النجار : بحث ضمن مجلة العلوم الإسلامية العدد2 سنة 1987- المقاصد الإستقرائية :حجيتها وضوابطها لنورالدين الخادمي : بحث ضمن مجلة وزارة العدل السعودية العدد 33 سنة 1428.

36- الشرح الميسر على ألفية ابن مالك ص 10.

37- أدب الطلب ص 174.
 
إنضم
25 يونيو 2008
المشاركات
1,762
الإقامة
ألمانيا
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
ألمانيا
المدينة
مونستر
المذهب الفقهي
لا مذهب بعينه
خاتمة
من خلال ما سبق , تبين أن الإمام ابن حزم كممثل للفكر الظاهري :


1- يعتبر أن البحث في مسألة التحسين والتقبيح لا يجدي , لدلالة النص على أن الإنسان لم يترك قط سدى. وأن العقل لا يحسن ولا يقبح بل هو موقف لفهم طبائع الأشياء وحسن الفهم والتطبيق فقط
2- يرى رحمه الله أن التعليل الفلسفي باطل , واستعاض عن التعليل الفقهي المسمى عند الجمهور بالباعث أو المعرف , استعاض عنه بالسبب ومايز بينه وبين الغرض .
3- يرى رحمه الله أن الأغراض هي المقاصد وهي ما يقصده المختار بفعله ويرمي إليه .
4- يرى رحمه الله أن الشريعة وضعت لأغراض وأهداف.
5- يمنع رحمه الله من القياس على الأسباب والأغراض , لأن القياس باطل أصلا , كما يمنع استنباط أسباب لم يذكرها النص.
6- يتفق مع أهل القياس في معظم أدلة حجية المقاصد ويمنع من القياس عليها كما سبق.
7- طرق معرفة المقاصد التي يمكن ان تُعتبر عند الإمام هي : اللسان العربي –الأوامر والنواهي ؛ فقط في حين يضيف أهل المقاصد : علل الأوامر والنواهي والإستقراء.

 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
بارك لله فيك ويبدو من خلال استعراض سريع أن ثمة تغييرا جوهرياً عن الطرح القديم؛ أليس كذلك؟
 
إنضم
25 يونيو 2008
المشاركات
1,762
الإقامة
ألمانيا
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
ألمانيا
المدينة
مونستر
المذهب الفقهي
لا مذهب بعينه
صحيح يا أستاذنا الكريم ، وما رأيك فيما ذكرتُه عن قضية (الأغراض) ومسألة (التعريف المفترض) .

بلغة أخرى :

أين مكامن الخلل؟
 
أعلى