رد: اشكالات احتاج منكم ترجمتها حول افضلية مناسك الحج على بعضها عند الائمة الاربعة وماارجح الاقوال في ذلك؟
اعلموا -رحمكم الله- أن هذا السؤال على النحو الذي ذكرتموه يمكن أن يكون كتاباً مفرداً
ولذكر أدلة من فضَّلوا الإفراد سأنقل بعض كلام العلامة الشنقيطي في "أضواء البيان":
اعْلَمْ أَنَّ مِمَّنْ قَالَ: إِنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ: مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ - فِي الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِهِ - وَأَصْحَابُهُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ، وَعَلَيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَعَائِشَةُ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِتَفْضِيلِ إِفْرَادِ الْحَجِّ عَلَى غَيْرِهِ بِأَدِلَّةٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
الْأَوَّلُ: أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ جَاءَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ أَفْرَدَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ. أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.
قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ. الْحَدِيثَ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ. وَلَا يَحْتَمِلُ لَفْظُ عَائِشَةَ هَذَا غَيْرَ إِفْرَادِ الْحَجِّ ; لِأَنَّهَا ذَكَرَتْ مَعَهُ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ، وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ تَمَتَّعَ وَبَعْضَهُمْ قَرَنَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَهُوَ الْحَجُّ الْمُفْرَدُ، وَلَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: «مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ» . قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجٍّ، وَأَهَلَّ بِهِ نَاسٌ مَعَهُ، وَأَهَلَّ نَاسٌ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، وَأَهَلَّ نَاسٌ بِعُمْرَةٍ، وَكُنْتُ فِي مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ» . هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ. وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْإِفْرَادِ بِحَالٍ ; لِأَنَّهَا ذَكَرَتِ الْقِرَانَ وَالتَّمَتُّعَ وَالْإِفْرَادَ، وَصَرَّحَتْ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُرِيدُ الْقِرَانَ وَلَا غَيْرَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: وَلَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ: وَلَا نَرَى إِلَّا أَنَّهُ الْحَجُّ. كُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَبَعْضُهَا فِي الْبُخَارِيِّ.
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَقَدْ رَوَى عَنْهُ عَطَاءٌ قَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، الْحَدِيثَ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَطَاءٍ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ، الْحَدِيثَ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ. وَفِي حَدِيثِهِ - أَعْنِي جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الطَّوِيلِ الْمَشْهُورِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ حَجَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلَ بَيَانٍ، وَسَاقَهَا أَحْسَنَ سِيَاقَةٍ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا. وَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَبْطِهِ لَهَا وَحِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ مَا نَصُّهُ: قَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَسْنَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ، لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ، الْحَدِيثَ. وَهُوَ تَصْرِيحٌ مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْإِفْرَادِ دُونَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ لِقَوْلِهِ: لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، الْحَدِيثَ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا قَالَ: أَهْلَلْنَا - أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَجِّ خَالِصًا وَحْدَهُ. وَكِلَا الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ بِلَفْظِ مُسْلِمٍ فِي الصَّحِيحِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْهُ: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ. الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: فَقَدْ قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنِ الْهِلَالِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى قَالَ: أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، وَحَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ بَكْرٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا: قَالَ بَكْرٌ: فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، فَلَقِيتُ أَنَسًا فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ أَنَسٌ: مَا تَعُدُّونَنَا إِلَّا صِبْيَانًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» وَحَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا - بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ - قَالَ: فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ؟ فَقَالَ: أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ. فَرَجَعْتُ إِلَى أَنَسٍ فَأَخْبَرْتُهُ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، فَقَالَ: كَأَنَّمَا كُنَّا صِبْيَانًا. انْتَهَى مِنْهُ.
وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ هَذَا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ إِفْرَادِ الْحَجِّ، فَلَا يَحْتَمِلُ الْقِرَانَ وَلَا التَّمَتُّعَ بِحَالٍ ; لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ بَكْرًا قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَنَسًا يَقُولُ: إِنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَرَدَّ ابْنُ عُمَرَ عَلَى أَنَسٍ دَعْوَاهُ الْقِرَانَ قَائِلًا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْإِفْرَادِ كَمَا تَرَى. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا. اهـ.
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: بِمَ أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَهَلَّ بِالْحَجِّ. فَانْصَرَفَ ثُمَّ أَتَاهُ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَقَالَ: بِمَ أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَلَمْ تَأْتِنِي عَامَ أَوَّلٍ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَرَنَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ وَهُنَّ مُنْكَشِفَاتُ الرُّءُوسِ، وَإِنِّي كُنْتُ تَحْتَ نَاقَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسُّنِي لُعَابُهَا أَسْمَعُهُ يُلَبِّي بِالْحَجِّ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: إِنَّ إِسْنَادَهُ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَهُوَ مَا رَوَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ، وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَأَ الدَّبَرْ، وَعَفَا الْأَثَرْ، وَانْسَلَخَ صَفَرْ، حَلَتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ. فَقَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ. الْحَدِيثَ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ، لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُهِلُّ بِالْحَجِّ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ. كُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالُوا: فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ مُفْرِدًا، وَرُوَاتُهَا مِنْ أَضْبَطِ الصَّحَابَةِ وَأَتْقَنِهِمْ، قَالُوا: فَمِنْهُمْ جَابِرٌ الَّذِي عُرِفَ ضَبْطُهُ وَحِفْظُهُ، وَخُصُوصًا ضَبْطُهُ لِحَجَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ الَّذِي رَدَّ عَلَى أَنَسٍ، وَذَكَرَ أَنَّ لُعَابَ نَاقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمَسُّهُ. وَمِنْهُمْ: عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَحِفْظُهَا وَضَبْطُهَا وَاطِّلَاعُهَا عَلَى أَحْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ. وَمِنْهُمْ: ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمَكَانَتُهُ فِي الْعِلْمِ وَالْحِفْظِ مَعْرُوفَةٌ.
الْأَمْرُ الثَّانِي مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْقَائِلُونَ بِأَفْضَلِيَّةِ الْإِفْرَادِ عَلَى التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ - هُوَ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُفْرِدَ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَلَمْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنَ النُّسُكِ، أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَانْتِفَاءُ الدَّمِ عَنْهُ مَعَ لُزُومِهِ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُمَا ; لِأَنَّ الْكَامِلَ بِنَفَسِهِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْجَبْرِ بِالدَّمِ أَفْضَلُ مِنَ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْجَبْرِ بِالدَّمِ.
وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ لَيْسَ دَمَ جَبْرٍ لِنَقْصٍ فِيهِمَا، وَإِنَّمَا هُوَ دَمُ نُسُكٍ مَحْضٍ لَزَمَ فِي ذَلِكَ النُّسُكِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ بِجَوَازِ أَكْلِ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ مِنْ دَمِ قِرَانِهِ وَتَمَتُّعِهِ، قَالُوا: لَوْ كَانَ جَبْرًا لَمَا جَازَ الْأَكْلُ مِنْهُ كَالْكَفَّارَاتِ، وَبِأَنَّ الْجَبْرَ فِي فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ، وَالتَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ جَائِزَانِ، فَلَا جَبْرَ فِي مُبَاحٍ.
وَرَدَّ هَذَا مَنْ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ قَائِلًا: إِنَّهُ دَمُ جَبْرٍ لَا دَمُ نُسُكٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّوْمَ يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ. قَالُوا: وَالنُّسُكُ الْمَحْضُ كَالْأَضَاحِي وَالْهَدَايَا لَا يَكُونُ الصَّوْمُ بَدَلًا مِنْهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ الصَّوْمُ بَدَلًا مِنْ دَمٍ إِلَّا إِذَا كَانَ دَمَ جَبْرٍ. قَالُوا: وَلَا مَانِعَ مِنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةٍ مَعَ مَا يَجْبُرُهَا وَيُكْمِلُهَا، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَرِدَ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ بَعْضِ دِمَاءِ الْجَبْرِ.
قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِ الْجَبْرِ فِي الْمُبَاحِ: لُزُومُ فِدْيَةِ الْأَذَى الْمَنْصُوصُ فِي آيَةِ: ((فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ)) الْآيَةَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ جَبْرٌ فِي فِعْلٍ مُبَاحٍ. وَكَذَلِكَ مَنْ لَبِسَ لِمَرَضٍ، أَوْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ شَدِيدَيْنِ، أَوْ أَكَلَ صَيْدًا لِلضَّرُورَةِ الْمُبِيحَةِ لِلْمَيْتَةِ، أَوِ احْتَاجَ لِلتَّدَاوِي بِطِيبٍ.
قَالُوا: وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ دَمُ جَبْرٍ لَا نُسُكٍ سُقُوطُهُ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: ((ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) ، فَلَوْ كَانَ دَمَ نُسُكٍ مَحْضٍ لَكَانَ عَلَى الْجَمِيعِ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِمْ لِاسْتِوَائِهِمْ جَمِيعًا فِي حُكْمِ النُّسُكِ الْمَحْضِ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: إِنَّ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ: «ذَلِكَ» رَاجِعَةٌ إِلَى لُزُومِ دَمِ التَّمَتُّعِ؛ أَيْ: وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ إِنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ. خِلَافًا لِابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ: ((ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) رَاجِعَةٌ إِلَى التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَمَتُّعَ لَهُمْ ; لِأَنَّهُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْآفَاقِيِّ، وَحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مُوجِبًا لِوُجُوبِ دَمِ التَّمَتُّعِ عَلَى الْأَوَّلِ وَسُقُوطِهِ عَنِ الثَّانِي، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ تَمَتَّعَ بِالتَّرَفُّهِ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ لِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إِنَّهُ إِنْ سَافَرَ بَعْدَ إِحْلَالِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ وَأَحْرَمَ لِلْحَجِّ فِي سَفَرٍ جَدِيدٍ، أَنَّهُ لَا دَمَ تَمَتُّعٍ عَلَيْهِ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ. مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي قَدْرِ السَّفَرِ الْمُسْقِطِ لِلدَّمِ الْمَذْكُورِ؛ فَبَعْضُهُمْ يَكْتَفِي بِسَفَرِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ وَإِسْحَاقَ وَالْمُغِيرَةِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي. وَبَعْضُهُمْ يَكْتَفِي بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمِيقَاتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبَعْضُهُمْ يَشْتَرِطُ الرُّجُوعَ إِلَى مَحِلِّهِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، وَعَزَاهُ فِي الْمُغْنِي لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَبَعْضُهُمْ يَشْتَرِطُ ذَلِكَ أَوْ سَفَرَ مَسَافَةٍ بِقَدْرِهِ، أَعْنِي قَدْرَ مَسَافَةِ الْمَحِلِّ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ دَمُ جَبْرٍ لِنَقْصِ السَّفَرِ الْمَذْكُورِ، بِدَلِيلِ أَنَّ السَّفَرَ إِنْ حَصَلَ عِنْدَهُمْ سَقَطَ الدَّمُ لِزَوَالِ عِلَّةِ وُجُوبِهِ.
الْأَمْرُ الثَّالِثُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْقَائِلُونَ بِأَفْضَلِيَّةِ الْإِفْرَادِ: بَعْضُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ، أَخْبَرَنِي أَبُو عِيسَى الْخُرَاسَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَشَهِدَ عِنْدَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ يَنْهَى عَنِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ فَوْرَكٍ، أَنْبَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي شَيْخٍ الْهُنَائِيِّ وَاسْمُهُ خَيْوَانُ بْنُ [خَلْدَةَ] أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صَفَفِ النُّمُورِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ، قَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إِلَّا مُقَطَّعًا؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ لَا، قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهَا لَمَعَهُنَّ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَالْأَشْعَثُ بْنُ بَزَّازٍ عَنْ قَتَادَةَ، وَقال: حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فِي حَدِيثِهِ: وَلَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ. وَرَوَاهُ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ، عَنْ أَبِي شَيْخٍ فِي مُتْعَةِ الْحَجِّ. انْتَهَى مِنَ الْبَيْهَقِيِّ.
وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ الْحَدِيثِينَ اللَّذَيْنِ سُقْنَاهُمَا عَنْهُ آنِفًا، ثُمَّ قَالَ فِي الْأَوَّلِ مِنْهُمَا: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي سَمَاعِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عُمْرَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَرْوِ هُنَا عَنْ عُمْرَ، بَلْ عَنْ صَحَابِيٍّ غَيْرِ مُسَمًّى، وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ.
ثُمَّ قَالَ فِي الثَّانِي مِنْهُمَا: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. انْتَهَى.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ، أَخْبَرَنِي أَبُو عِيسَى الْخُرَاسَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَشَهِدَ عِنْدَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ يَنْهَى عَنِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ.حَدَّثَنَا مُوسَى أَبُو سَلَمَةَ ثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي شَيْخٍ الْهُنَائِيِّ خَيْوَانَ بْنِ خَلْدَةَ مِمَّنْ قَرَأَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كَذَا وَكَذَا، وَعَنْ رُكُوبِ جُلُودِ النُّمُورِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؟ فَقَالُوا: أَمَّا هَذَا فَلَا، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهَا مَعَهُنَّ، وَلَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ. انْتَهَى مِنْهُ.
الْأَمْرُ الرَّابِعُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْقَائِلُونَ بِأَفْضَلِيَّةِ الْإِفْرَادِ عَلَى غَيْرِهِ، أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ يَفْعَلُونَهُ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ وَأَتْقَاهُمْ، وَأَشَدُّهُمُ اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَدْ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنَّاسِ مُفْرِدًا، وَحَجَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَشْرَ سِنِينَ بِالنَّاسِ مُفْرِدًا، وَحَجَّ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهِمْ مُدَّةَ خِلَافَتِهِ مُفْرِدًا. قَالُوا: فَمُدَّةُ هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الثَّلَاثَةِ حَوْلَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَهُمْ يَحُجُّونَ بِالنَّاسِ مُفْرِدِينَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْإِفْرَادُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ لَمَا وَاظَبُوا عَلَيْهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَشَرْحِ مُسْلِمٍ فِي أَدِلَّةِ مَنْ فَضَّلَ الْإِفْرَادَ: وَمِنْهَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدُوا الْحَجَّ، وَوَاظَبُوا عَلَيْهِ، كَذَلِكَ فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ. وَاخْتَلَفَ فِعْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَقَدْ حَجَّ عُمَرُ بِالنَّاسِ عَشْرَ حِجَجٍ مُدَّةَ خِلَافَتِهِ كُلِّهَا مُفْرِدًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الْأَفْضَلَ عِنْدَهُمْ، وَعَلِمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ مُفْرِدًا لَمْ يُوَاظِبُوا عَلَى الْإِفْرَادِ مَعَ أَنَّهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَعْلَامُ، وَقَادَةُ الْإِسْلَامِ، وَيُقْتَدَى بِهِمْ فِي عَصْرِهِمْ وَبَعْدَهُمْ، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِمُ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى خِلَافِ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ أَنَّهُمْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ جَمِيعِهِمْ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا الْخِلَافُ عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا فَعَلُوهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْهُمْ مَا يُوَضِّحُ هَذَا. انْتَهَى مِنْهُ.
الْأَمْرُ الْخَامِسُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْقَائِلُونَ بِأَفْضَلِيَّةِ الْإِفْرَادِ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ قَالَ: وَمِنْهَا أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى جَوَازِ الْإِفْرَادِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَكَرِهَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا التَّمَتُّعَ، وَبَعْضُهُمْ كَرِهَ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ، وَإِنْ كَانُوا يُجَوِّزُونَهُ عَلَى مَا سَبَقَ تَأْوِيلُهُ، فَكَانَ مَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ أَفْضَلَ. انْتَهَى مِنْهُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى: فَثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَازُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالْإِفْرَادِ، وَثَبَتَ بِمُضِيِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجٍّ مُفْرَدٍ، ثُمَّ بِاخْتِلَافِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فِي كَرَاهِيَةِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ دُونَ الْإِفْرَادِ، كَوْنُ إِفْرَادِ الْحَجِّ عَنِ الْعُمْرَةِ أَفْضَلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مِنْهُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى أَيْضًا: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الْفَقِيهُ قَالَا: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو هِشَامٍ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، ثَنَا أَبُو حُصَيْنٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَرَّدَ، وَمَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَرَّدَ، وَمَعَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَرَّدَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَشْرَانَ، أَنْبَأَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، ثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، ثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ، أَنْبَأَ نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: أَنْ تَفْصِلُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَتَجْعَلُوا الْعُمْرَةَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، أَتْمَمُ لِحَجِّ أَحَدِكُمْ وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِهِ. انْتَهَى مِنْهُ.
ثُمَّ سَاقَ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: يَا بُنَيَّ أَفْرِدِ الْحَجَّ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ. اهـ. وَسَاقَ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: جَرِّدُوا الْحَجَّ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ، أَنَّهُ أَمَرَ بِإِفْرَادِ الْحَجِّ قَالَ فَكَانَ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَعَثٌ وَسَفَرٌ. انْتَهَى مِنَ الْبَيْهَقِيِّ.
وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَارِيخِهِ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو هِشَامٍ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، ثَنَا أَبُو حُصَيْنٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَجَرَّدَ، وَمَعَ عُمَرَ فَجَرَّدَ، وَمَعَ عُثْمَانَ فَجَرَّدَ. تَابَعَهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، وَهَذَا إِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ هَا هَهُنَا ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: إِنَّمَا يَفْعَلُونَ هَذَا عَنْ تَوْقِيفٍ. وَالْمُرَادُ بِالتَّجْرِيدِ هَاهُنَا: الْإِفْرَادُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْقَاسِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَا: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْرَزَّازُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى الْحَجِّ فَأَفْرَدَ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَ أَبَا بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، ثُمَّ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ عَشْرٍ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، فَبَعَثَ عُمَرَ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْتُخْلِفَ عُمَرُ، فَبَعَثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ. ثُمَّ حَجَّ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ ثُمَّ حَجَّ عُمَرُ سِنِيَّهُ كُلَّهَا فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. لَكِنْ قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: لَهُ شَاهِدٌ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. انْتَهَى مِنَ الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ لِابْنِ كَثِيرٍ.
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْإُبُلِّيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالَ لَهُ: سَلْ لِي عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، عَنْ رَجُلٍ يُهِلُّ بِالْحَجِّ، فَإِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ أَيُحِلُّ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ لَكَ: لَا يُحِلُّ، فَقُلْ لَهُ: إِنَّ رَجُلًا يَقُولُ ذَلِكَ، قَالَ: فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: لَا يُحِلُّ مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ إِلَّا بِالْحَجِّ، قُلْتُ: فَإِنَّ رَجُلًا كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ. قَالَ: بِئْسَمَا قَالَ. فَتَصَدَّانِي الرَّجُلُ فَسَأَلَنِي فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ: فَقُلْ لَهُ فَإِنَّ رَجُلًا كَانَ يُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ وَمَا شَأْنُ أَسْمَاءَ وَالزُّبَيْرِ فَعَلَا ذَلِكَ؟ قَالَ: فَجِئْتُهُ، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي، قَالَ: فَمَا بَالُهُ لَا يَأْتِينِي بِنَفْسِهِ يَسْأَلُنِي، أَظُنُّهُ عِرَاقِيًّا؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي. قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ كَذَبَ، قَدْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ
أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، ثُمَّ عُمَرُ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ فَرَأَيْتُهُ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، ثُمَّ مُعَاوِيَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي - الزُّبَيْرِ بْنُ الْعَوَّامِ - فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأَيْتُ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا بِعُمْرَةٍ، وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ عِنْدَهُمْ أَفَلَا يَسْأَلُونَهُ؟ وَلَا أَحَدَ مِمَّنْ مَضَى كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حِينَ يَضَعُونَ أَقْدَامَهُمْ أَوَّلَ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَا يَحِلُّونَ، وَقَدْ رَأَيْتُ أُمِّي وَخَالَتِي حِينَ تَقْدَمَانِ لَا تَبْتَدِئَانِ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنَ الْبَيْتِ تَطُوفَانِ بِهِ ثُمَّ لَا تَحِلَّانِ، وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَقْبَلَتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ قَطُّ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا، وَقَدْ كَذَبَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ. انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ مِنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ كَانَتْ عَادَتُهُمْ أَنْ يَأْتُوا مُفْرِدِينَ بِالْحَجِّ، ثُمَّ يُتِمُّونَهُ كَمَا رَأَيْتَ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: وَقَوْلُهُ: «ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ» ، وَكَذَا قَالَ فِيمَا بَعْدَهُ: وَلَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ (غَيْرُهُ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْيَاءِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: كَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ، قَالَ: وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَصَوَابُهُ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً. بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمِيمِ، وَكَانَ السَّائِلُ لِعُرْوَةَ إِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ رَأَى ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ بِذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَعْلَمَهُ عُرْوَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَلَا مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ. هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ أَنَّ قَوْلَ (غَيْرُهُ) تَصْحِيفٌ، لَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ هُوَ صَحِيحٌ فِي الرِّوَايَةِ وَصَحِيحٌ فِي الْمَعْنَى ; لِأَنَّ قَوْلَهُ (غَيْرُهُ) يَتَنَاوَلُ الْعُمْرَةَ وَغَيْرَهَا.
وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ؛ أَيْ: لَمْ يُغَيِّرِ الْحَجَّ، وَلَمْ يَنْقُلْهُ وَيَفْسَخْهُ إِلَى غَيْرِهِ؛ لَا عُمْرَةٍ وَلَا قِرَانٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ، وَهُوَ صَوَابٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيِّ: أَنَّهُ سَأَلَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: قَدْ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَرَأَيْتُهُ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي - الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ - فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأَيْتُ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا عُمْرَةً، وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ عِنْدَهُمْ فَلَا يَسْأَلُونَهُ، وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ مَضَى مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَضَعُوا أَقْدَامَهُمْ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَا يُحِلُّونَ. وَقَدْ رَأَيْتُ أُمِّي وَخَالَتِي حِينَ تَقْدَمَانِ لَا تَبْتَدِئَانِ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مَنِ الْبَيْتَ تَطُوفَانِ بِهِ ثُمَّ لَا تُحِلَّانِ، وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّيِ أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا. انْتَهَى مِنْهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ذَكَرْتُ لِعُرْوَةَ قَالَ: فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلَهُ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي - الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ يَفْعَلُونَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا. انْتَهَى مِنْهُ.
قَالُوا: وَجَوَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ الْمَذْكُورِ لَا يَدْفَعُ احْتِجَاجَ عُرْوَةَ بِمَا ذَكَرَ، وَكَذَلِكَ جَوَابُ ابْنِ حَزْمٍ، وَقَدْ أَجَابَ عُرْوَةُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَأَسْكَتَهُ.
أَمَّا جَوَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرُوهُ، فَهُوَ مَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُرْوَةُ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنِ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَاكُمْ سَتَهْلَكُونَ، أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ، تُرَخِّصُ فِي الْمُتْعَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَلْ أُمَّكَ يَا عُرَيَّةَ، فَقَالَ عُرْوَةُ: أَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَلَمْ يَفْعَلَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكُمْ مُنْتَهِينَ حَتَّى يُعَذِّبَكُمُ اللَّهُ، أُحَدِّثُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَتُحَدِّثُونَنَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ عُرْوَةُ: لَهُمَا أَعْلَمُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَعُ لَهَا مِنْكَ. اهـ. قَالُوا: فَتَرَى عُرْوَةَ أَجَابَ ابْنَ عَبَّاسٍ بِجَوَابٍ أَسْكَتَهُ بِهِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَعَ لَهَا، لَا يُمْكِنُ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا جَوَابُ ابْنِ حَزْمٍ فَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَعْلَمُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ عُرْوَةَ، وَأَنَّهُ - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ - خَيْرٌ مِنْ عُرْوَةَ وَأَوْلَى مِنْهُ بِالنَّبِيِّ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، ثُمَّ سَاقَ آثَارًا مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَذْكُرُ فِيهَا التَّمَتُّعَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ نَهَى عَنْهُ مُعَاوِيَةُ، وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ كَلَامِ ابْنِ حَزْمٍ الْمَذْكُورِ رَدِّهِ عَلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَعْلَمُ مِنْ عُرْوَةَ وَأَفْضَلُ، فَلَا يَرُدُّ رِوَايَةَ عُرْوَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُفْرِدُونَ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يُعَارِضْ عُرْوَةَ بِأَنَّ فِعْلَهُمَا كَانَ مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرَهُ عُرْوَةُ مِنَ الْإِفْرَادِ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ بِأَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ مِنْ أَمْرِهِمَا، وَقَدْ أَجَابَهُ عُرْوَةُ بِأَنَّهُمَا مَا فَعَلَا إِلَّا مَا عَلِمَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَكْمَلُ وَأَتْبَعُ لِسُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الْآثَارُ الَّتِي رَوَاهَا مِنْ طَرِيقِ لَيْثٍ وَغَيْرِهِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهَا لَا تُعَدُّ شَيْئًا مَعَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُمْ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي لَا مَطْعَنَ فِيهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُفَضِّلُونَ الْإِفْرَادَ.
وَمَنْ فَهِمَ كَلَامَهُمْ حَقَّ الْفَهْمِ - أَعْنِي الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ - عَلِمَ أَنَّهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَعْلَمُونَ جَوَازَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ عِلْمًا لَا يُخَالِجُهُ شَكٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ أَتَمُّ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْمَعْنَى غَيْرُ خَافٍ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِمَنْ تَأْمَّلَ ذَلِكَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورِ مِنْ أَنَّ الْخُلَفَاءَ كَانُوا يُفْرِدُونَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ، عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمٍ بِالْيَمَنِ، فَجِئْتُ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: بِمَا أَهْلَلْتَ؟ قُلْتُ: أَهْلَلْتُ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ؟ قُلْتُ: لَا، فَأَمَرَنِي فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْلَلْتُ فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَّطَتْنِي - أَوْ: غَسَلَتْ رَأْسِي - فَقَدِمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالتَّمَامِ، قَالَ اللَّهُ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ [2 \ 196] وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ. انْتَهَى مِنْهُ، وَنَحْوُهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: مُحَصِّلُ جَوَابِ عُمَرَ فِي مَنْعِهِ النَّاسَ مِنَ التَّحَلُّلِ بِالْعُمْرَةِ، أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ دَالٌّ عَلَى مَنْعِ التَّحَلُّلِ لِأَمْرِهِ بِالْإِتْمَامِ، تَرْغِيَبًا فِي الْإِفْرَادِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ، لَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهَا وَتَحْرِيمَهَا. وَقَالَ عِيَاضٌ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْفَسْخِ، وَلِهَذَا كَانَ يَضْرِبُ النَّاسَ عَلَيْهِ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِنَاءً عَلَى مُعْتَقَدِهِ: أَنَّ الْفَسْخَ كَانَ خَاصًّا بِتِلْكَ السَّنَةِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي هِيَ الِاعْتِمَارُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ الْحَجُّ مِنْ عَامِهِ، وَهُوَ عَلَى التَّنْزِيهِ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْإِفْرَادِ، كَمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ، ثُمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ التَّمَتُّعِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَبَقِيَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَفْضَلِ. انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا كَانَ يَرَى إِلَّا تَفْضِيلَ الْإِفْرَادِ عَلَى غَيْرِهِ، وَشَاهِدٌ لِصِحَّةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَجَّ بِالنَّاسِ عَشْرَ حِجَجٍ مُفْرِدًا، وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَأْمُرُ بِالْمُتْعَةِ، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَنْهَى عَنْهَا، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: عَلَى يَدَيَّ دَارَ الْحَدِيثُ: تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ بِمَا شَاءَ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَزَلَ مَنَازِلَهُ، فَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ، وَأَبِتُّوا نِكَاحَ هَذِهِ النِّسَاءِ، فَإِنْ أُوتَى بِرَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً إِلَى أَجَلٍ إِلَّا رَجَمْتُهُ بِالْحِجَارَةِ. وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: فَافْصِلُوا حَجَّكُمْ مِنْ عُمْرَتِكُمْ، فَإِنَّهُ أَتَمُّ لِحَجِّكُمْ، وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِكُمْ. اهـ مِنْهُ.
وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرَى أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفَضَلُ، وَيَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ بِالنَّاسِ مُفْرِدًا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ
التَّصْرِيحُ بِأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَرَى أَفْضَلِيَّةَ الْإِفْرَادِ عَلَى غَيْرِهِ لِنَهْيِهِ عَنِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ كَمَا رَأَيْتَ.
وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ: كَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَكَانَ عَلَيٌّ يَأْمُرُ بِهَا، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِنَهْيِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ التَّمَتُّعِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كُلَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْإِفْرَادَ أَفْضَلَ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ كَمَا رَأَيْتَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ بِذَلِكَ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَمَا وَرَدَ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا رَأَيْتَ.
تَنْبِيهٌ
فَإِنْ قِيلَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَ الْإِفْرَادَ، كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِمَا، وَكَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَنْ ذَكَرْنَا سَابِقًا مِمَّنْ يَقُولُ بِأَفْضَلِيَّةِ الْإِفْرَادِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ النُّسُكِ بِأَيِّ جَوَابٍ يُجِيبُونَ عَنِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا، وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ بِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ بِأَنَّهُ أَمَرَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَسُقْ هَدْيًا مِنْ أَصْحَابِهِ، بِأَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِعُمْرَةٍ، فَالَّذِينَ أَحْرَمُوا بِالْإِفْرَادِ أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي عُمْرَةٍ، وَالتَّحَلُّلِ التَّامِّ مِنْ تِلْكَ الْعُمْرَةِ، وَتَأَسَّفَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّهُ سَاقَ الْهَدْيَ الَّذِي صَارَ سَبَبًا لِمَنْعِهِ مِنَ التَّحَلُّلِ بِعُمْرَةٍ، وَقَالَ «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَأَسَّفُ عَلَى فَوَاتِ الْعُمْرَةِ، إِلَّا وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا، وَالْقِرانُ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُ لَا يَكُونُ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَخْتَارُ لِنَبِيِّهِ فِي نُسُكِهِ إِلَّا مَا هُوَ الْأَفْضَلُ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ التَّمَتُّعَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مُفْرِدًا وَذَلِكَ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ، لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَفِي تِلْكَ السَّنَةِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَفْضَلِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ فِيمَا سِوَاهُ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّهُ دَلَّتْ أَدِلَّةٌ سَيَأْتِي قَرِيبًا تَفْصِيلُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، عَلَى أَنَّ تَحَتُّمَ فَسْخِ الْحَجِّ الْمَذْكُورِ فِي الْعُمْرَةِ وَأَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِهِ خَاصٌّ بِذَلِكَ الرَّكْبِ وَبِتِلْكَ السَّنَةِ، وَأَنَّهُ مَا أَمَرَ بِذَلِكَ لِأَفْضَلِيَّةِ ذَلِكَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، وَلَكِنْ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى خَارِجَةٍ عَنْ ذَاتِهِ؛ وَهِيَ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ جَائِزَةٌ، وَمَا فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَمَرَ بِهِ لِلْبَيَانِ وَالتَّشْرِيعِ،
فَهُوَ قُرْبَةٌ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا أَوْ مَفْضُولًا، فَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ مَفْضُولًا أَوْ مَكْرُوهًا، وَيَفْعَلُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَأْمُرُ بِهِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، فَيَصِيرُ قُرْبَةً فِي حَقِّهِ، وَأَفْضَلَ مِمَّا هُوَ دُونَهُ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَرُبَّمَا يَفْعَلُ لِلْمَكْرُوهِ ... مُبَيِّنًا أَنَّهُ لِلتَّنْزِيهِ
فَصَارَ فِي جَانِبِهِ مِنَ الْقُرَبِ ... كَالنَّهْيِ أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فَمِ الْقِرَبِ
وَقَالَ فِي نَشْرِ الْبُنُودِ فِي شَرْحِهِ لِلْبَيْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ: يَعْنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَفْعَلُ الْمَكْرُوهَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، مُبَيِّنًا بِذَلِكَ الْفِعْلِ أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، فَصَارَ ذَلِكَ الْفِعْلُ فِي حَقِّهِ قُرْبَةً يُثَابُ عَلَيْهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ، كَنَهْيِهِ عَنِ الشُّرْبِ مِنْ أَفْوَاهِ الْقِرَبِ، وَقَدْ شَرِبَ مِنْهَا. انْتَهَى مِنْهُ.
وَلَيْسَ قَصْدُنَا أَنَّ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ مَكْرُوهَانِ، بَلْ لَا كَرَاهَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقِينًا، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، يَكُونُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ. أهـ وينظر الباقي في أصل الكتاب