الدليل الثالث : عموم قوله صلى الله عليه وسلّم : (نبدأ بما بدأ الله به) رواه الشيخان وأصحاب السنن, وفي رواية النسائي : (ابدؤوا بما بدأ الله به) .
قالوا : وهذا نصٌّ في مراعاة التدرّج في التشريع عند التطبيق . (سامي السويلم، فقه التدرج في الاقتصاد الإسلامي، ص11) .
وتطبيقات هذه القاعدة في فقه النبوة كثير، منه ما يأتي من أدلة .
الدليل الرابع : أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل لما بعثه لليمن: ”إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم. فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم. فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس“
[متفق عليه].
وواضح أن هذا كان بعد نزول الأحكام وفرض الفرائض، ومع ذلك تدرج النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة أهل الكتاب في اليمن رفقًا بهم وتثبيتًا للإيمان في نفوسهم.
قلت : وهذا دليل واضح وصريح في الدلالة على جواز التدرّج، من حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد بيّن لمعاذ أن لا ينتقل إلى الركن أو الفريضة التالية إلا بعد تقرير الفريضة السابقة للأولى، وهذا هو التدرّج الذي نحن بصدد الحديث عنه؛ أن يُبدأ بالأهم الذي ينبني عليه غيره؛ ثم يُنتقل بعده إلى المهم الذي تكتمل به الصورة، ويتكامل به التطبيق .
الدليل الخامس: التعامل مع المنافقين في المدينة، وعلى رأسهم عبد لله بن أبي بن سلول، وكان عظيمًا في قومه. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يداريهم ويترفق بهم ليتألفهم.
وحدث في غزوة بني المصطلق أن قال عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار عليه عمر رضي الله عنه بقتله. فجاءه ابنه :
عبد الله بن عبد الله بن أبي، فقال: ”يا رسول الله: بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه. فوالله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر فأدخل النار“ .
فقال عليه الصلاة والسلام: ”بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا“. فكان أصحاب عبد الله بن أبي بعد ذلك إذا أحدث الحدث هم الذين يعاتبونه ويعنفونه ويتوعدونه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأﻧﻬم: ”كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي لأُرعدت له آنفٌ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتَلته“. فقال عمر رضي الله عنه: ”قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركًة من أمري“".(البداية والنهاية 4/158 ، صحيح السيرة النبوية 339) .
قلت : وهذا دليل على ما سمّيناه بـ : "إرجاء التطبيق" ، فابن أبيّ كان يستحق القتل يوم استأذن عمر رضي الله عنه بقتله، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخّر تطبيق الحكم وأرجأه لما يترتب على ذلك من المصالح ولما يترتب على تطبيقه من المفاسد، كما ظهر من الحديث، وقد ورد في رواية البخاري ومسلم : " فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - « دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه »" .
الدليل السادس: ما رواه الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايع ثقيفًا على الإسلام اشترطوا عليه أن لا صدقة عليهم ولا جهاد، فقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعد أن بايعهم: ”سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا.“ [السلسلة الصحيحة، ١٨٨٨ ].
قالوا : فها هو صلى الله عليه وسلم يقبل شرط ثقيف ألا يتصدقوا ولا يجاهدوا، وذلك لعلمه عليه السلام أﻧﻬم إذا أسلموا وتمكن الإيمان من قلوم ستطيب أنفسهم بذلك. فهو صورة من صور التدرج في الدعوة وفي امتثال أحكام الشريعة الإسلامية.
ويلاحظ أن هذا التدرج وقع حال عز الإسلام وعلو كلمته وقوة سلطانه. فالحاجة إلى التدرج حال الاستضعاف من باب أولى.(فقه التدرج في الاقتصاد الإسلامي ص12) .
الدليل السابع : في صحيح البخاري عن أم عطية رضي الله عنها قالت: ”بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا: ﴿أن لا يشركن بالله شيئًا﴾، وﻧﻬانا عن النياحة. فقبضت امرأة يدها فقالت:
"أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها". فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا. فانطَلَقت ورجعت، فبايعها“. وفي رواية عند الإمام أحمد: ”فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وافقها على ذلك، فذهبت فأسعدت ثم رجعت فبايعت النبي صلى الله عليه وسلم.“ والإسعاد هو نياحة المرأة مع أخرى .[٦٣٨-٦٣٧/ تساعدها عليه [فتح الباري، ٨
فقد تجاوز النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي أخرت المبايعة لحين مكافأة تلك التي أسعدتها .
ولا ريب أن النياحة محرمة، وأن المبادرة للبيعة واجبة، مع ذلك تغاضى النبي صلى الله عليه وسلم عن تأخير هذا الواجب وارتكاب ذلك المحرم لمصلحة تأليف قلب هذه المرأة وقلب المرأة
الأخرى أيضًا. والأهم من ذلك أن هذا أدعى أن تثبت هذه المرأة على بيعتها ولا تستجيب فيما بعد لما قد يدعوها لنقضها لأي سبب من الأسباب، وهذه هي حكمة التدرج، كما سبق. ولذلك كانت هذه المرأة ممن ثبت على البيعة ووّفى .
قالت أم عطية: ”فما وّفى منا غير تلك، وغير أم سليم بنت ملحان“ (نظر: مراعاة أحوال المخاطبين، ص97- 98) .