العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

هام حكم ذكر ما يُرى من الميت الفاسق عند غسله؟

إنضم
26 نوفمبر 2010
المشاركات
21
الكنية
أبو أحمد
التخصص
الفقه المقارن
المدينة
المنصورة
المذهب الفقهي
شافعي
حكم ذكر ما يُرى من الميت الفاسق عند غسله؟

تمهيد: قد يطلع الطبيب على أسرار بعض المرضى فيتبين له أن المريض مصاب بمرض معدٍ؛ مثل مرض نقص المناعة المسمى بالإيدز ، وقد يتبين للطبيب أن المريض مجاهر بفسقه ومجونه، فهل يجوز لهذا الطبيب أن يفشي سر هذا المريض المجاهر بفسقه، وأن يخبر أهله وذويه بمرضه حتى يتجنبوا مرضه المعدي درأً لمفسدة انتقال المرض إليهم ، وكذلك المغسل قد يطلع من الميت على علامات أنه كان فاجراً وكان الميت حال حياته مجاهراً بفسقه وفجوره، وقد يدعى المُغَسِّل للإدلاء بشهادته حول القرائن التي رأها، إلى غير ذلك من أمور من الممكن أن تلح الضرورة على إفشاء مثل هذه الأمور.
والأصل عند الفقهاء أن الغاسل إن رأى من بدن الميت خيراً كاستنارة وجهه وطيب رائحته ذكره ندباً؛ ليكون أدعى إلى كثرة المصلين عليه والدعاء له، أو غيره كسواد وتغير رائحة وانقلاب صورة حرم ذكره; لأنه غيبة لمن لا يتأتى الاستحلال منه. ([1])

والأصل في ذلك قول النبي
: «من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة».([2])
إلا لمصلحة كأن كان الميت مبتدعاً مظهراً لبدعته فلا يجب ستره بل يجوز التحدث به لينـزجر الناس عنها، والخبر خرج مخرج الغالب، وينبغي كما قاله الأذرعي أن يتحدث بذلك عن المستتر ببدعته عند المطلعين عليها المائلين إليها لعلهم ينـزجرون.

والوجه أن يقال إذا رأى من المبتدع أمارة خير يكتمها ولا يندب له ذكرها، لئلا يغري ببدعته وضلالته، بل لا يبعد إيجاب الكتمان عند ظن الإغراء بها والوقوع فيها بذلك.([3])

قال ابن الحاج المالكي: وينبغي أن يكون الغاسل ومن يعينه من أهل الديانة، والأمانة؛ لأن المحل مضطر إلى ذلك؛ لأن الميت قد يتغير حاله، وهو الغالب فإذا رآه أحد فقد يخيل إليه أن ذلك من شقاوته، وينبغي له أنه إن رأى خيراً فإن شاء ذكره ، وإن شاء تركه ، وإن رأى غير ذلك سكت عنه ولا يبوح به لأحد. ([4])

قال العز بن عبد السلام:" الستر على الناس شيمة الأولياء، ويجوز إفشاء السر إذا تضمن مصلحة أو دفع ضرر، وقد كشف يوسف عليه السلام سر المرأة التي راودته فقال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾([5]) ليدفع عن نفسه ما قد يتعرض له من قتل أو عقوبة".([6])

وما استكتم عليه الإنسان أو دلت القرينة على طلب كتمانه، أو كان من شأنه أن يُكتم فهو سِرٌ إفشاؤه حرام.

وإفشاء السر لا يجوز ؛ لأنه من قبيل حفظ العهد، فهو كالوديعة التي يجب حفظها، قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.([7])

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي
قال: «إذا حَدّث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة». ([8])
قال ابن مفلح :"يحرم تحدثه - يعني غاسل الميت- وتحدّث طبيب وغيرهما بعيب". ([9])

ويستثنى من ذلك إذا كان الإفشاء للسر أوجب بأن يتضمّن درء مفسدة عامّة أو جلب مصلحة عامّة؛ أو يتضمن ضررًا يلحق بفرد ضررًا أكبر من ضرر صاحب السر.([10])

والنظر في الترجيح يكون بحسب الاجتهاد المصلحي.

وإذا كان عدم الإفشاء يتضمن ضرراً يلحق المجتمع، أو يضر بفرد منه ضرراً أكبر من ضرر صاحب السر، وطريق تقدير المفسدة والضرر هو الظن والاجتهاد، لأنه لا يمكن تحديد مقدارها بدقة.

قال العز بن عبد السلام:" أكثر المصالح والمفاسد لا وقوف على مقاديرها وتحديدها، وإنما تعرف تقريباً لعزة الوقوف على تحديدها". ([11])

وبناء على ما تقدم تتضح لنا الأمثلة الآتية:

أ-إذا كان أحد الزوجين مصاباً بمرض جنسي معد (ينتقل بالمباشرة) نتيجة لفسقه، فإنه يجب إبلاغ الطرف الآخر.

ب- إذا دعي للشهادة في المحكمة لقوله تعالى:﴿وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾.([12])

وضابط ما سبق أن الضرورة تقدر بقدرها. وكذلك تقدر بقدرها في الذي يخبر بسر الميت فلا يخبر إلا من لا يتم المطلوب بإخباره فقط.

إذ حفظ السر من الأمانة الواجب حفظها. والإخلال بها من علامات النفاق.

والمعروف بالفجور والمعتاد عليه الأولى الإبلاغ عنه.

قال القرطبي : "من اشتهر بالمعاصي ولم يبال بفعلها ولم ينته عما نهي عنه فواجب رفعه للإمام وتنكيله، وإشهاده للأنام ليرتدع بذلك أمثاله". ([13])

فلا يجوز للإنسان أن ينسب غيره إلى الزنا ونحوه إلا وقد شهد عليه أربعة، وإلا فإنه قاذف له مستحق للعقاب، قال تعالى:﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ﴾.([14])

ولكن له أن يخبر بما رآه أو دلت عليه قرائن الحال دون ذكر فعل الفاحشة فمثلاً تمزق البكارة ،والإصابات الشرجية ، وإصابات عضلات الإلية ونحوها يمكن تناولها ولا تعد قذفاً لاحتمال حصولها بغير ممارسة جنسية في ضوء السرية.

وإذا اطلع على أن طفلاً قد استغل فإن عليه إبلاغ وليه بحالته الإصابية؛ لأن سر الميت والمريض غير كامل الأهلية يتولاه وليه.

والأصل حظر إفشاء السر، وإفشاءه بدون مقتضٍ معتبر موجب للمؤاخذة شرعاً.

وقد يستثنى من وجوب كتمان السر حالات يؤدي فيها كتمانه إلى ضرر يفوق ضرر إفشائه بالنسبة لصاحبه، أو يكون في إفشائه مصلحة ترجح على مضرة كتمانه، وهذه الحالات على ضربين:

أ- حالات يجب فيها إفشاء السر بناء على قاعدة ارتكاب أهون الضررين لتفويت أشدهما، وقاعدة تحقيق المصلحة العامة التي تقضي بتحمل الضرر الخاص لدرء الضرر العام إذا تعين ذلك لدرئه، وهذه الحالات نوعان:

1- ما فيه درء مفسدة عن المجتمع.

2- وما فيه درء مفسدة عن الفرد.

ب- حالات يجوز فيها إفشاء السر لما فيه:

1- جلب مصلحة للمجتمع.

2- أو درء مفسدة عامة.

وهذه الحالات يجب الالتزام فيها بمقاصد الشريعة وأولوياتها من حيث حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.

أما ما يطلب الإنسان كتمانه مما يبلّغ به غيره، فإنه إذا كان إفشاء السر يتضمن ضرراً فإفشاء السر حرام باتفاق الفقهاء ([15])، والضرر عام في كل ما يؤذي الإنسان.

وأما إذا لم يتضمن ضرراً فالمختار عدم جواز إفشائه متى ما طلب منه الكتمان، أو دّل الحال على ذلك، أو كان مما يُكتم في العادة. ([16])

وكل هذا حال الحياة أما بعد موت صاحب السر فذهب بعض أهل العلم إلى جواز إفشائه إذا لم يتضمن غضاضة على الميت. ([17])

ذلك أن النظر إلى عورات الناس وإفشاء أسرارهم، يعتبر صورة من صور العدوان الذي نهانا عنها الله تعالى في قوله:﴿
وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾. ([18])
فقد سئل الإمام أحمد: عن الرجل يعلم منه الفجور، أيخبر به؟ فقال: بل يستر عليه، إلا أن يكون داعية.

فقول أحمد" إلا أن يكون داعية" يفيد أن من كان داعية إلى الفساد والفجور لا يجوز الستر عليه، بل يجب الإبلاغ عنه، وكشف أمره، وتحذير الناس منه.

قال ابن مفلح: "ويتوجَّهُ أن في معنى الداعية من اشتهر وعُرف بالشر والفساد، ينكر عليه وإن أسر المعصية".([19])

فاعتبر من اشتهر بفسقه وفساده نظير الداعية إلى فجوره، بجامع أن كلا منهما يدعو إلى الفساد، الأول منهما يدعو بلسان حاله والثاني بلسان مقاله. ([20])

فبناء على ما تقدم نخلص إلى أمرين:

1-السر: هو الذي يفضي به إنسان إلى غيره، أو يطلع عليه بحكم معاشرته أو مهنته ويستكتم عليه أو دلّت القرائن على طلب الكتمان، أو كان من شأنه في العادة أن يُكتم، أو تضمن ضرراً، أو عيباً يكره اطلاع الناس عليه، أو تضمن إفشاؤه الإفساد بينه وبين غيره.

2-إفشاء السر محرم في الأصل، ويزداد التحريم إن تضمن إفساداً أو ذكراً لعيب فيه.

وحفظ أسرار المريض من حفظ الأمانة وقد قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾.([21])

ولما ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله
:«من غسل ميتاً فأدى فيه الأمانة، ولم يُفش عليه ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه». ([22])
وأما المجهول الذي لا يذكر اسمه ولا وصف له يميزه عن غيره لا يكون الكلام عنه غيبة، فمن أخبر أنه رأى شخصاً ولم يعينه، فإنه لا يكون مفشياً لسر. لأن المجهول ليس له غيبة لعدم حصول الضرر عليه بالإخبار عنه. ([23])

وهذا يمهد لبيان أن واجب الستر فيما تقدم قد يترك لما هو أوجب منه، وذلك "لأن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجّح خير الخيرين، وتحصّل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما". ([24])

كما أن حق الإنسان في حفظ سره يجب أن لا يتضمن ضرراً على فرد آخر، فإن حفظ حق أحدهما ليس أولى من حفظ حق الآخر.

وكل هذا فرع عن تطبيق قاعدة المصالح والمفاسد.

فيفشى سره إذا تضمن درء مفسدة عامة، أو جلب مصلحة عامة.

ويقع الترجيح بحسب الاجتهاد المصلحي في مسألة درء المفسدة عن الفرد. ([25])
ــــــــــــــــــــــ
([1])راجع: حاشية ابن عابدين1/602،مواهب الجليل2/223، روضة الطالبين 2/109،المغني لابن قدامة 2/455.
([2])
متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب باب: لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه برقم(2442)
3/128، ومسلم في كتاب
في البر والصلة والآداب باب تحريم الظلم برقم(2580)4/1996.
([3])
راجع: حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 3/20، السراج الوهاج 1/113، مغني المحتاج1/358.
(
[4]) راجع: المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات لابن الحاج المالكي 3/383.
(
[5]) سورة يوسف جزء من الآية رقم (26).
(
[6]) راجع: شجرة المعارف والأحوال، ص389، باختصار.
(
[7]) سورة الأنفال الآية رقم(27).
(
[8]) صحيح: أخرجه الترمذي في أبواب البر والصلة باب ما جاء أن المجالس أمانة برقم(1959)4/331، وأبو داود في كتاب الأدب باب في نقل الحديث برقم(4868) 4/267، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1089) وصحيح الجامع برقم(486).
(
[9]) راجع: الفروع 2/217.
(
[10]) راجع: قرارات مجمع الفقه الإسلامي بجدة رقم (79) في 7/1/1414هـ .
(
[11]) راجع: القواعد الصغرى: ص100.
(
[12]) سورة البقرة جزء من الآية رقم (283).
(
[13]) راجع: المفهم 6/558.
(
[14]) سورة النور الآية رقم (4).
(
[15]) نقل الاتفاق ابن بطال، راجع: فتح الباري11/85، الإنصاف للمرداوي 21/420، غذاء الألباب1/115، إحياء علوم الدين 3/132.
(
[16]) وهو مذهب الإمام أحمد وغيره راجع : الإنصاف21/420، الآداب الشرعية لابن مفلح 2/257.
(
[17]) راجع: فتح الباري 11/85.
(
[18]) سورة المائدة الآية رقم(2).
(
[19]) راجع: الآداب الشرعية لابن مفلح 2/257، غذاء الألباب1/260.
(
[20]) راجع: ملحق قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن السر في المهن الطبية ، الرؤية الشرعية لقضايا سرية المرضى للدكتور هاني عبد الله الجبير ص6-12.
(
[21]) سورة المؤمنون الآية رقم(8).
(
[22]) ضعيف:أخرجه أحمد في مسنده 6/119، والحاكم في مستدركه 1/354، وقال صحيح على شرط مسلم، وله شواهد ، راجع: مجمع الزوائد 3/21، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم(1225).
(
[23]) راجع: الأذكار للنووي: ص 486.
(
[24]) راجع: مجموع فتاوى ابن تيمية20/48.
(
[25]) راجع: الرؤية الشرعية لقضايا سرية المرضى للدكتور هاني عبد الله الجبير ص10.
 
أعلى