العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

تجديد فقه السياسة الشرعية , بقلم : د . عبدالمجيد النجار .

أبو الحارث البقمي

:: مطـًـلع ::
إنضم
16 أبريل 2009
المشاركات
102
التخصص
السياسة الشرعية والقضاء
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
تبع الدليل
إنّ التراث الفقهي الإسلامي ظلّ على الدوام حاضرا في حياة المسلمين، مؤثّرا في توجيهها تأثيرا بالغا، ومهما يحدث من اجتهاد في الفقه وتجديد في الدين، فإنّ التراث تبقى له مكانته المرموقة في صياغة تديّن المسلمين في مختلف العصور، ومن بينها العصر الحاضر، بل كثيرا ما يتمّ الاجتهاد والتجديد في نطاقه، نظرا فيه بالتخيّر والترجيح حسبما تتطلّبه مقتضيات الظروف، أو تطويرا لبعض الاجتهادات فيه وفق ما تكشف عنه مستجدّات العلوم الكونية والإنسانية؛ ولذلك فإنّ المراجع الفقهية لكبار الأئمّة تكون دوما هي المنطلق الأساسي لكلّ نظر اجتهادي فقهي، فيكون التراث الفقهي إذن عاملا مؤثّر إن لم يكن الأكبر تأثيرا في توجيه حركة التديّن، وهو واقع الحال في الواقع الراهن للمسلمين.
وبالرغم من أنّ الفقه السياسي من بين التراث الفقهي هو الحلقة الأضعف فيه من حيث التوسّع والشرح والتفصيل لأسباب سنشرحها لاحقا، إلا أنّه هو أيضا ظلّ يؤثّر في العقلية السياسية الإسلامية عبر الأجيال إلى يومنا هذا، وربما كان بعض من هذا التأثير حاصلا بصفة تلقائية غير مقصودة، وذلك بطريق الترسّب الثقافي العامّ، وهكذا نجد على سبيل المثال كيف أنّ مؤسّسة الرئاسة تستولي على سلطات واسعة تعلو بها عن المحاسبة، سواء كانت متمثّلة في رئاسة الدولة أو في رئاسة المنظّمات والمؤسّسات، فذلك إنما نحسب أنه من تأثير ما منحه الفقه السياسي الإسلامي لهذه المؤسّسة من نفوذ واسع، وما جرى عليه الواقع بذلك عبر حقب متطاولة من الزمن.
لقد بقي الفقه السياسي الإسلامي أقلّ أبواب الفقه تطوّرا وتجديدا، فهو يكاد يكون قد حافظ على ما أنتجه فقهاء السياسة الشرعية في القرن الرابع للهجرة، إذ قد ظلّت المؤلّفات بعد ذلك تراوح ما ألّفه أولئك الفقهاء مع إضافات قليلة، والباحثون المحدثون في هذا الشأن لئن طوّروا أسلوب العرض وبعض المصطلحات في السياسة الشرعية، وراجعوا بعض الأحكام بنظر اجتهادي، فإنهم لم يتناولوا جوهر القضايا السياسية باجتهاد يبني هذا العلم بناء جديدا سوى محاولات قليلة في هذا الشأن، وإذن فإنّ تأثير التراث الفقهي السياسي في المسلمين اليوم كان تأثيرا بمفاهيم واجتهادات أُنتجت قبل ألف عام بما تحمله من خضوع سلبي للواقع السياسي الذي أُنتجت فيه، بل بما تحمله في بعض القضايا من مجافاة للأصول الدينية من قرآن وسنّة، فإذا هي تؤدّي في حالات كثيرة إلى مسالك سياسية بيّنة الخطل، سيّئة النتائج، بالرغم من أنّها مسالك يسلكها متديّنون يحملون راية التجديد في الدين، وذلك سواء كانوا حركات إسلامية أو كانوا حكومات تحكم باسم الدين.
والمسلمون في أوروبا بحكم تنامي حجمهم العددي وأيلولة أوضاعهم إلى حال المواطنة فإنهم أصبحوا ينزعون إلى المشاركة السياسية مثل سائر المواطنين، وبما أنّهم يحملون في وضعهم هذا شطرا مهمّا من المفاهيم والمبادئ المترسّبة من إرثهم الثقافي القائم على أساس فقهي فإنهم مرشّحون مثل سائر المسلمين لأن تكون تصوّراتهم السياسية موصولة هي أيضا بالموروث من فقه السياسة الشرعية بما يتخلّله من ضعف، وما بني عليه من أحكام تجاوزها الزمن فانتهت صلاحيتها، وحينئذ فإنّ هذه المشاركة السياسية في مجتمع قطع في الفقه السياسي الوضعي مراحل متقدّمة جدا في الكثير من القضايا الكبرى سوف تكون مشاركة تحمل في ذاتها بذور فشلها، فضلا عن أن تكون مشاركة حضارية تحمل أنموذجا يضيف جديدا نافعا وفق ما أصبح الوجود الإسلامي يطرحه من شعار له في المرحلة المقبلة.
ولهذا السبب فإنّ البحث في المشاركة السياسية للأقليات المسلمة في المجتمع الأوروبي ينبغي فيما نحسب أن يتأسّس على مراجعة للكثير من القضايا في الفقه السياسي الإسلامي مراجعة يقع فيها نخل تلك القضايا لتستبين فيها الحقيقة التي أسّستها نصوص الدين، وتتحرّر من الملابسات التي أحاطت بها تحت ضغوط الواقع زمن نشأة الفقه السياسي، ثم لتستفيد من الكسب الإنساني في هذا المجال حيث شهد علم السياسة تطوّرا كبيرا خلال القرن الماضي. وهذا ما نحاول التطرّق إليه في هذه الورقة، بدء بتقييم عامّ سريع للفقه السياسي الإسلامي، ومرورا بوضع أسس لمراجعة هذا الفقه، وانتهاء بنماذج لجملة من القضايا في هذا الفقه السياسي نقترح فيها طريقة للمراجعة. وسنعرض ذلك من خلال مبحثين، يتناول أولهما وصف الفقه السياسي، ويتناول الثاني نماذج من قضايا فقهية سياسية معروضة للمراجعة.
الفقه السياسي وضرورة المراجعة
ظلّت العلوم الإسلامية طيلة تاريخها تخضع للمراجعة من قِبل المتخصصين فيها من العلماء، وهي تلك المراجعة التي ينظر فيها اللاحق فيما أنتجه السابق، فيتناوله بالتمحيص، ويلائم بينه وبين مقتضيات ما استجدّ من أوضاع المسلمين، لينتهي إلى تعديل ما ينبغي تعديله، وإضافة ما ينبغي إضافته، وربّما إسقاط ما ينبغي إسقاطه، وبسبب ذلك نرى هذه العلوم تتطوّر باطّراد في كمّها وفي كيفها، ومهما يأتي عليها من زمن تخلد فيه إلى الركود، فإنها لا تلبث أن تنبعث فيها الحياة من جديد، وذلك بفعل هذه الفلسفة التي انبت عليها الثقافة الإسلامية في تطوّر العلوم، وهي فلسفة المراجعة المستمرّة من أجل التطوير والتنمية لمجابهة ابتلاءات الواقع.
ولذلك فإنّ الدعوة إلى مراجعة علم فقه السياسة الشرعية على النحو الذي نبيّنه في هذه الورقة هي دعوة تندرج ضمن السياق العامّ لفلسفة العلوم الإسلامية، إذ لما حفّت بهذا الفقه ظروف تاريخية حالت دون أن يندرج ضمن سياق المراجعة مثل سائر العلوم الأخرى، فإنّ الوضع السياسي للمسلمين بصفة عامّة، والوضع السياسي للأقليات المسلمة بصفة خاصّة يقتضي أن تأخذ تلك المراجعة مجراها ليصبح فقه السياسة الشرعية مسهما إسهاما حقيقيا في تطوير الحياة السياسية للمسلمين، ومرشّدا للأقلّيات المسلمة فيما هي مقبلة عليه من المشاركة السياسية في المجتمع الأوروبي.
واقع الفقه السياسي الإسلامي.
إنما المطلوب من الفقه عامّة والفقه السياسي ضمن ذلك هو أن يكون هذا الفقه مرشدا للحياة الواقعية للمسلمين كي تتوجّه بما تقتضيه الأحكام الدينية، وبما أنّ الحياة بصفة عامّة والحياة السياسية بصفة خاصّة متطوّرة أحوالها مستأنفة ابتلاءاتها، فإنّ الفقه السياسي مطلوب منه أن يكون مواكبا لتلك التطورات، مجيبا على تلك الابتلاءات، خاصّة وأنّ النصوص القطعية في هذا الشأن محدودة جدا، وهو ما يقتضي أن يكون مجال المتابعة الفقهية لمتجدّدات الأوضاع مجالا واسعا. ولكنّ الناظر في الفقه السياسي الإسلامي كما وصلتنا صورته التراثية، وكما هو معروض اليوم يجد أنّ هذا الفقه يستقرّ على واقع لا يقدر به على متابعة التطورات السياسية للمسلمين، والإجابة على ما تطرحه تلك التطورات من الأسئلة، وهو ما يقتضي نظرا تجديديا في هذا الفقه يعدّل وضعه ليكون فاعلا في مسايرة الحياة السياسية للمسلمين وتوجيهها نحو سمتها الديني الصحيح.
الفقه السياسي والواقع
إذا كان الفقه الإسلامي بصفة عامّة قد أصابه بعد فترة من ازدهاره حال من الجمود تعطّل فيه الاجتهاد وتوقّف التجديد لزمن غير قصير، فإنّ الفقه السياسي بصفة خاصّة قد أصابه من ذلك الحظّ الأوفر، سواء من حيث الفترة الزمنية التي استمرّ فيها الجمود، أو من حيث شدّة التجمّد وتعطّل الاجتهاد، حتى ليمكن القول إنّ هذا الفقه ما يزال إلى حدّ الآن في شطر كبير منه يرسف في قيود الماضي دون أن تناله حركة الاجتهاد بما يتّجه به إلى التجديد الفاعل سوى استثناءت قليلة، في حين حرّك الاجتهاد فروعا عديدة من فروع الفقه الأخرى ممّا أفضى إلى تجديد مثمر في تلك الفروع.
إنّ ما جاء في كتاب الأحكام السلطانية للماوردي من أحكام فقهية في السياسة الشرعية يُعتبر هو المؤسّس الأكبر للفقه السياسي الشرعي، وهو عين ما جاء ترديده في المؤلفات المتعلقة بهذا الشأن فيما عرف بالمؤلفات في فقه السياسة الشرعية مع اختلافات غير جوهرية تتعلق بهذه المسألة أو تلك من المسائل الفقهية السياسية، وقد ظلّ ذلك مستصحبا إلى عصرنا هذا وإذا كانت قد ظهرت منذ بعض الزمن بحوث ودراسات فقهية شرعية تنحو منحى تجديديا يسعى إلى أن يتصدّى للجواب على الأسئلة المطروحة اليوم على المسلمين في الشأن السياسي. إلاّ أن ذلك لم تصبح بعد منحى عامّا لفقه السياسة الشرعية، حتى ليمكن أن يقال إنّ هذا الفقه بصفة عامّة ما زال يعاني من القصور في أداء مهمّته، وفي معالجة المشاكل الواقعية، وذلك جرّاء انشداده إلى الماضي أكثر من تفاعله مع الواقع واستشرافه للمستقبل.
إن الواقع الراهن للفقه السياسي عدا بعض الاستثناءات التي أشرنا إليها يردّد نفس المقولات التي نشأت منذ أكثر من ألف عام، سواء من حيث المحتوى أو من حيث التعابير والمصطلحات، فإذا الهوّة بينه وبين الواقع السياسي الذي يجري عليه حال الأمّة تزداد اتّساعا، وإذا التأثير الذي من المفروض أن يكون هذا الفقه في ذلك الواقع يكاد يكون معدوما، وهو ما نشأ عنه خلل كبير في الحياة السياسية للأمّة يفوق في حجمه وسلبيته ما يصيب الجوانب الأخرى في حياتها من الإخلال.
إنّ الحياة السياسية للمسلمين تجري في عمومها منذ قيام الدولة الحديثة على نمط من المبادئ السياسية للثقافة الغربية، فقد شهدت هذه الثقافة تطورا كبيرا في العلوم السياسية، سواء من حيث المبادئ والقيم، أو من حيث الآليات والإجراءات. وإذا كانت هذه العلوم السياسية تشتمل على أفكار كثيرة لا تتعارض مع الفلسفة السياسية الإسلامية وخاصة فيما يتعلّق منها بالآليات، فإن أفكارا أخرى تطرح في العلوم لا تتلاءم مع هذه الفلسفة، ومع ذلك فقد فرضت نفسها على ما تجري به السياسة في الواقع.
لقد ظلّ التأليف في الفقه السياسي الإسلامي ينحو منحى التقرير النظري الذي لا يتفاعل مع مجريات الحياة السياسية الفعلية، إذ انفصل علم السياسة الشرعية عن السياسة الواقعية في الثقافة الإسلامية منذ وقت مبكّر، ونأى فقهاء السياسة عمّا يجري به واقع الحكم تهيّبا للسلطان خوفا أو تعفّفا، وذلك خلافا للفروع الفقهية الأخرى التي ظلّت متفاعلة مع الواقع، عاملة من أجل تسديده بحسب المقتضيات الدينية، فإذا التقريرات الفقهية السياسية تفقد حيويتها وتجدّدها بهذا الانفصال، وتسقط مبكّرا في الجمود وترسف فيه طويلا.
وقد ورث عصرنا الراهن هذا الوضع، الذي انحسرت فيه السياسة الشرعية من ساحة الفعل السياسي في حياة المسلمين، وبقيت حبيسة التراث، الذي بقي هو بدوره مستصحبا للمفاهيم التي نشأ عليها علم السياسة الشرعية، وحتى تلك الأحكام التي وقع فيها اجتهاد بقيت حبيسة النظر المجرد، ولم تتفاعل مع الواقع، إذ كان هذا الواقع خاضعا للمنظومة السياسية المستجلبة من الثقافة الغربية، وهكذا انتهى الأمر في علم السياسة الشرعية إلى كونه في مجمله علما تراثيا، لا يؤثر في الواقع، ولكنه يؤثّر في عقول كثير من الدارسين للعلوم الشرعية بصفة مباشرة، وفي عقول الكثير من عامّة المسلمين بصفة غير مباشرة عبر تأثير الثقافة الإسلامية المترسّبة في أذهان المسلمين، وهو ما يجعل أولئك وهؤلاء يطالبون بتوجيه العمل السياسي وفق ذلك التراث، أو يتصرفون في ممارساتهم السياسية وشبه السياسية وفق ذلك، والحال أنّ الواقع الذي تقدّم من أجله تلك المطالب وتمارس تلك التصرفات هو واقع لا تتناسب معه كثير من الأحكام التي يتضمّنها التراث الفقهي السياسي، وهو ما يستلزم مراجعة تلك الأحكام ليكون تنزيلها على الواقع الراهن محقّقا للمقاصد الشرعية منها.

الدكتور عبدالمجيد النجار


* المصدر: جريدة "الدستور" الأردنية
 
أعلى