رد: مسائل في النكول ..
المبحث الثاني : ما يترتب على نكول المدعى عليه عن اليمين
إذا طلب القاضي من المدعى عليه اليمين فنكل فما الحكم حينئذ ؟
اختلف العلماء في ذلك على أقوال :
القول الأول : أنه يُقضى على المدعى عليه , ويُلزمه القاضي ما ادُعي عليه , وهذا هو قول الحنفية( ) , وهو المذهب عند الحنابلة( ) , وهو محكي عن جمع من الصحابة منهم عثمان وأبو موسى الأشعري وابن عباس وابن عمر( ) .
واستدلوا بما يلي :
1- قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) آل عمران 77
وجه الدلالة : أن ظاهر الآية تدل على أنه لا يستحق أحد بيمينه مالا هو في الظاهر لغيره وكل من في يده شيء يدعيه لنفسه فالظاهر أنه له حتى يستحقه غيره وقد منع ظاهر الآية والآثار التي ذكرنا أن يستحق بيمينه مالا هو لغيره في الظاهر ولو لا يمينه لم يستحقه لأنه معلوم أنه لم يرد به مالا هو له عند اللّه دون ما هو عندنا في الظاهر إذ كانت الأملاك لا تثبت عندنا إلا من طريق الظاهر دون الحقيقة وفي ذلك دليل على بطلان قول القائلين برد اليمين لأنه يستحق بيمينه ما كان ملكا لغيره في الظاهر .( )
ونوقش بأن معنى الآية أن لا يتعمد اليمين الكاذبة ليقطع بها مال غيره وهذه ليست كذلك ومجرد الإحتمال لا يمنع ولا يمنع المدعى عليه من اليمين الرابعة( ) لئلا
يأخذ بها مال غيره بل يحكم بالظاهر وهو الصدق( ) .
2- مارواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْه )( )
وجه الدلالة : أن مطلق التقسيم يقتضي انتفاء مشاركة كل واحد منهما عن قسم صاحبه فيدل على أن جنس الأيمان في جانب المدعى عليه ولا يمين في جانب المدعي إذ اللام في اليمين للاستغراق فمن جعل الأيمان حجة للمدعي فقد خالف النص .( )
ونوقش بأن هذا لا يلزم لان النبي صلى الله عليه و سلم هو الذي سن رد اليمين على المدعي في القسامة , واستعمال النصوص أولى من تأويل لم يتابع صاحبه عليه وهذا قياس صحيح وهو أصلهم جميعا في القول بالقياس( ) .
3- ما جاء في حديث وَائِلٍ بن حجر عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ الْحَضْرَمِىُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِى عَلَى أَرْضٍ لِى كَانَتْ لأَبِى. فَقَالَ الْكِنْدِىُّ هِىَ أَرْضِى فِى يَدِى أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلْحَضْرَمِىِّ « أَلَكَ بَيِّنَةٌ ». قَالَ لاَ. قَالَ « فَلَكَ يَمِينُهُ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لاَ يُبَالِى عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَىْءٍ. فَقَالَ « لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلاَّ ذَلِكَ » فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا أَدْبَرَ « أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ ».( )
وجه الدلالة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حصر حق المدعي في أحد أمرين بينته أو يمين خصمه ، فدل على أن لا حق له في يمين نفسه .( )
ونوقش : بأن الدليل هنا خارج عن محل النزاع إذِ الخصم باذل لليمين بخلاف ما ههنا فإن الخصم ناكل عنه .( )
4- ما رواه الامام أحمد من طريق يزيد بن هارون , وابن أبي شيبة من طريق عباد بن العوام , كلاهما عن يحيى بن سعيد الأنصاري أن سالم بن عبد الله أخبره أن عبد الله بن عمر باع غلاما بالبراءة بثمانمائة درهم ثم إن صاحب الغلام خاصم ابن عمر إلى عثمان فقال باعني وبه داء قد علمه لم يبينه لي فقال ابن عمر قد بعته بالبراءة فقال له عثمان تحلف بالله لقد بعته وما به داء علمته فأبى ابن عمر أن يحلف فرد العبد إليه .( )
وجه الدلالة : أن عثمان قضى بالنكول على ابن عمر لما أبى أن يحلف , ولم ينكر عليه ابن عمر بما قضى .
ونوقش من وجهين :
الأول : أن الاستدلال بالحديث المسند أولى من الاستدلال بالموقوف على الصحابة .( )
الثاني : أن مالكًا في موطئه قد روى الخبر عن يحيى بن سعيد الأنصاري وليس فيه أن عثمان قضى بالنكول على ابن عمر , وغاية ما فيه أن ابن عمر هو من ارتجع العبد دون قضاء من عثمان , قال مالك رحمه الله : عن يحيى بن سعيد عن سالم بن عبد الله :أن عبد الله بن عمر باع غلاما له بثمانمائة درهم وباعه بالبراءة فقال الذي ابتاعه لعبد الله بن عمر بالغلام داء لم تسمه لي فاختصما إلى عثمان بن عفان فقال الرجل باعني عبدا وبه داء لم يسمه وقال عبد الله بعته بالبراءة فقضى عثمان بن عفان على عبد الله بن عمر أن يحلف له لقد باعه العبد وما به داء يعلمه فأبى عبد الله أن يحلف وارتجع العبد فصح عنده فباعه عبد الله بعد ذلك بألف وخمسمائة درهم .( )
قال ابن حجر : وفي الشامل لابن الصباغ بغير إسناد وزاد أن بن عمر كان يقول تركت اليمين لله فعوضني الله عنها.( )
أي أن ابن عمر قد يكون ترك اليمين تورعا .
ونوقش : بأن هذا احتمال نادر لأن اليمين الصادقة مشروعة فالظاهر أن الإنسان لا يرضى بفوات حقه تحرزا عن مباشرة أمر مشروع ومثل هذا الاحتمال ساقط الاعتبار شرعا .( )
5- ما روي أن شريحًا قضى على رجل بالنكول فقال المدعى عليه أنا أحلف فقال شريح مضى قضائي وكان لا تخفى قضاياه على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر فيكون إجماعا منهم على جواز القضاء بالنكول .( )
ونوقش بأنه جاء الخلاف عن بعض الصحابة كما سيأتي , وعلى افتراض القول بعدم وجود الحلاف فإن غايته أن يكون إجماعًا سكوتيًا , وهو مختلف في حجيته .( )
6- أن الشهادة لما كانت لإثبات الدعوى واليمين لإبطالها وجب إن نكل عن اليمين أن تحقق عليه الدعوى .( )
القول الثاني : أن اليمين تُرد إلى المدعي فإن حلف قُضي له وإن امتنع سقطت دعواه , وهذا هو قول المالكية( ) والشافعية( ) ورواية عن أحمد( ) , وهو محكي أيضًا عن جمع من الصحابة منهم عمر بن الخطاب وعلي وزيد( ) .
واستدلوا بما يلي :
1- قال تعالى (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين ) المائدة 108
وجه الدلالة : أن الآية أفادت رد اليمين إلى من شُرعت في حقه أولًا وهما الشاهدان إلى غيرهما , وعليه فيجوز رد اليمين من المدعى عليه إلى غيره .
ونوقش بقول الشوكاني : وأما الاستدلال بيمين الرد بقوله سبحانه: {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} ، فغلظ ظاهر فإن معنى الآية غير هذا كما هو مبين في كتب التفسير ومع هذا فالجمهور على أنها منسوخة .( )
2- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق .( )
وهذا نص في محل النزاع .
ونوقش بأن الحديث لا يثبت .
قال ابن حجر : فيه محمد بن مسروق لا يُعرف , وإسحاق بن الفرات مختلف فيه .( )
3- عنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى الأَنْصَارِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَسَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ أَتَيَا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْلِ فَقُتِلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلٍ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَحُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمْ فَبَدَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ، وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَبِّرِ الْكُبْرَ- قَالَ يَحْيَى لِيَلِيَ الْكَلاَمَ الأَكْبَرُ - فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَتَسْتَحِقُّونَ قَتِيلَكُمْ ، أَوْ قَالَ صَاحِبَكُمْ - بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ أَمْرٌ لَمْ نَرَهُ قَالَ فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ فِي أَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ قَوْمٌ كُفَّارٌ فَوَدَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِبَلِهِ قَالَ سَهْلٌ فَأَدْرَكْتُ نَاقَةً مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ فَدَخَلَتْ مِرْبَدًا لَهُمْ فَرَكَضَتْنِي بِرِجْلِهَا.( )
وجه الدلالة : أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل اليمين فى جهة المدعى بقوله للأنصار : ( تحلفون وتستحقون دم صاحبكم ) فلما أبوا حولها إلى اليهود ليبرءوا بها ، فلما ثبت فى سنته صلى الله عليه وسلم أن المدعي قد تنقل إليه اليمين فى الدماء وحرمتها أعظم ؛ فلأن تجعل في ما هو دون ذلك من الحقوق من باب أولى .( )
ونوقش بأنه صلى الله عليه وسلم عرض اليمين على المدعين أولا ، واليمين المردودة : هي التي تطلب من المدعي ، بعد نكول المدعى عليه عنها .( )
وأجيب : بأنها جعلت من جانب المدعي لقوة جانبه باللوث ، فإذا تقوى جانبه بالنكول شرعت في حقه .( )
4- ما جاء عن الشعبي أن المقداد استقرض من عثمان بن عفان رضى الله عنه سبعة آلاف درهم فلما تقاضاه قال إنما هى أربعة آلاف فخاصمه إلى عمر رضى الله عنه فقال إنى قد أقرضت المقداد سبعة آلاف درهم فقال المقداد إنما هى أربعة آلاف فقال المقداد أحلفه أنها سبعة آلاف فقال عمر رضى الله عنه أنصفك فأبى أن يحلف فقال عمر خذ ما أعطاك .( )
ونوقش من وجهين :
الأول : أنه خبر منقطع , فالشعبي لم يدرك القصة قطعًا .
الثاني :لا حجة في الخبر لأن فيه ذكر الرد من غير نكول المدعى عليه وهو خارج عن محل النزاع ثم إن المقداد رضي الله عنه ادعى الإيفاء فأنكر عثمان رضي الله عنه فتوجهت اليمين عليه .( )
5- أن يمين المدعى عليه حجة له في النفي ، كما أن بينة المدعي حجة له في الإثبات ، فلما كان ترك المدعي لحجته موجبا للعدول إلى يمين المدعى عليه ، وجب أن يكون ترك المدعى عليه لحجته موجبا للعدول إلى يمين المدعي .( )
6- أن النكول من أقوى القرائن على صدق دعوى المدعي ولكن لما كان الحامل عليه قد يكون الترفع عن اليمين كما يفعله كثير من المتكبرين وقد يكون الحامل عليه مزيد الغباوة ممن توجهت عليه اليمين وعدم علمه بأن اليمين واجبه عليه وقد يكون الحامل عليه ما يعتقده كثير من العامة أن مجرد الحلف ولو على حق لا يجوز وأنه يأثم الفاعل له فلما كان الأمر هكذا لم يكن مجرد النكول سببا شرعيا للحكم .( )
القول الثالث : أن المدعى عليه يُحبس حتى يجيب بإقرار أو إنكار يحلف معه , وهذا مذهب الظاهرية .
واستدلوا بما يلي
1- أنه لا حق للمدعي على المدعى عليه في ظاهر الأمر، والحكم، إلا الغرامة إن أقر أو ثبت عليه ببينة، أو بيقين الحاكم، أو اليمين إن أنكر فقط، فلما لم يقر، ولا قامت عليه بينة، ولا تيقن الحاكم صدق المدعي: سقطت الغرامة، ولم يبق عليه إلا اليمين التي أوجب الله تعالى، فهو حقه قِبَل المطلوب ، فوجب أخذه به، ولا بد، لا بما سواه . ( )
2- إن نكول الناكل عن اليمين في كل موضع عليه ، يوجب أيضا عليه حكما ، وهو الأدب الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل من أتى منكرا يوجب تغييره باليد .( )
ونوقش بأن تورعه عن اليمين ليس بمنكر ، بل قد يكون واجبا أو مستحبا أو جائزا ، وقد يكون معصية .( )
القول الرابع : أن المدعي إذا انفرد وحده بالعلم بالشيء المدعى به فللقاضي رد اليمين عليه , وإان كان المدعى عليه هو العالم وحده بالشيء المدعى به فيُحكم عليه بالنكول ولا تُرد اليمين , وهذا قول ابن تيمية وابن القيم ( ).
واستدلوا بالجمع بين فتاوى الصحابة في هذه المسألة وقالوا بأن عثمان بن عفان قال لابن عمر : " أحلف بالله لقد بعت العبد وما به داء علمته " ، فأبى , فحكم عليه بالنكول ، ولم يرد اليمين في هذه الصورة على المدعي ، ويقول له : احلف أنت أنه كان عالما بالعيب ، لأن هذا مما لا يمكن أن يعلمه المدعي ، ويمكن المدعى عليه معرفته ، فإذا لم يحلف المدعى عليه لم يكلف المدعي اليمين .
فإن ابن عمر كان قد باعه بالبراءة من العيوب ، وهو إنما يبرأ إذا لم يعلم بالعيب ، فقال له : " احلف أنك بعته وما به عيب تعلمه " .
وهذا مما يمكن أن يحلف عليه دون المدعي ، فإنه قد تعذر عليه اليمين : أنه كان عالما بالعيب ، وأنه كتمه مع علمه به .
وأما أثر عمر بن الخطاب - وقول المقداد : " احلف أنها سبعة آلاف " ، فأبى أن يحلف ، فلم يحكم له بنكول عثمان - فوجهه : أن المقرض إن كان عالما بصدق نفسه وصحة دعواه ، حلف وأخذه ، وإن لم يعلم ذلك لم تحل له الدعوى بما لا يعلم صحته ، فإذا نكل عن اليمين لم يقض له بمجرد نكول خصمه , إذ خصمه قد لا يكون عالما بصحة دعواه ، فإذا قال للمدعي : إن كنت عالما بصحة دعواك فاحلف وخذ ، فقد أنصفه جد الإنصاف .( )
ونوقش بأن الصحيح عن عثمان أنه لم يقض بالنكول على ابن عمر كما مر , وخبر عمر والمقداد ضعيف , فلا يمكن الجمع .