العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مسألة / الصيــغ الصــادرة مــن السكـــران..........

صلاح بن خميس الغامدي

قاضي بوزارة العدل السعودية
إنضم
27 أبريل 2008
المشاركات
103
الإقامة
الدمام - المنطقة الشرقية
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أحمد
التخصص
الفقه
الدولة
السعودية
المدينة
الدمام حرسها الله
المذهب الفقهي
الحنبلي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده وبعد ..

فهذا بحث في إحدى المسائل المهمة أحببت المشاركة بها عسى أن ينفع الله بذلك فأقول وبالله التوفيق .
إن البيع والشراء وغيرها من العقود حينما تصدر من شخص عاقل ومختار فهو ملزم بذلك ، فلو باع أو اشترى أو وقع منه قذف أو طلق أو أعتق أو نحو ذلك فهو ملزم بما يصدر عنه ومؤاخذٌ بذلك .
لكن إن وقعت هذه الصيغة ممن تناول مسكرا فهل هذه الصيغة صحيحة والعقد تام ويترتب عليه آثاره أم لا ؟
هذه مسألة اختلف فيها الفقهاء على عدة أقوال ، أحصرها في ثلاثة وهي كالآتي :

القول الأول : أن ما يصدر من السكران من صيغ سواء طلاق أو قذف أو بيع أو شراء ونحو ذلك أن هذه الصيغ صحيحة ونافذة ، وتترتب عليها آثارها .
وهذا الرأي هو المشهور عن الحنفية(1) ، والمذهب عند الشافعية(2) ورواية عند الحنابلة(3) .

نصوص الفقهاء في ذلك
جاء في فتح القدير (4)( وَطَلَاقُ السَّكْرَانِ وَاقِعٌ ) وَاخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ).
جاء في رد المحتار (5)((وَالسَّكْرَانُ كَالصَّاحِي فِيمَا فِيهِ حُقُوقُ الْعِبَادِ عُقُوبَةً لَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْآفَةَ عَلَى نَفْسِهِ ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالْقَذْفِ سَكْرَانُ حُبِسَ حَتَّى يَصْحُوَ فَيُحَدُّ لِلْقَذْفِ ثُمَّ يُحْبَسُ حَتَّى يَخِفَّ عَنْهُ الضَّرْبُ فَيُحَدُّ لِلسُّكْرِ )) .
جاء في المجموع شرح المهذب(6) (وأما السكران فالمذهب صحة بيعه وشرائه وسائر عقوده التي تضره والتي تنفعه ).
جاء في شرح منتهى الإرادات(7) ( وَيُؤَاخَذُ ) السَّكْرَانُ الَّذِي يَقَعُ طَلَاقُهُ ( بِسَائِرِ أَقْوَالِهِ وَ ) بِـ ( كُلِّ فِعْلٍ ) صَدَرَ مِنْهُ ( يُعْتَبَرُ لَهُ الْعَقْلُ كَإِقْرَارٍ ، وَقَذْفٍ ، وَظِهَارٍ ، وإيلاء ، وَقَتْلٍ ، وَسَرِقَةٍ ، وَزِنًا ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ) كَوَقْفٍ ، وَعَارِيَّةٍ ، وَغَصْبٍ ، وَتَسَلُّمِ مَبِيعٍ ، وَقَبْضِ أَمَانَةٍ ، وَغَيْرِهَا ).

أدلة هذا القول :
الدليل الأول
عُمُومُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } إلَى قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ السَّكْرَانِ وَغَيْرِهِ إلَّا مَنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ .
الدليل الثاني
قالوا وَلِأَنَّ عَقْلَهُ زَالَ بِسَبَبٍ ؛ هُوَ مَعْصِيَةٌ فَيُنَزَّلُ قَائِمًا عُقُوبَةً عَلَيْهِ وَزَجْرًا لَهُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ .
الجواب عن هذا الدليل
يجاب بأن الحد كاف لعقوبتيه ، ولا يعهد عن الشريعة العقوبة بتصحيح الصيغ وإنفاذها(8).
الدليل الثالث
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " فخاطبهم في حال السكر فدل على أن السكران مكلف(9) .
الجواب عن هذا الدليل
وَأُجِيبَ بِأَنَّ النَّهْيَ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ إنَّمَا هُوَ عَنْ أَصْلِ السُّكْرِ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْهُ قُرْبَانُ الصَّلَاةِ كَذَلِكَ وَقِيلَ : إنَّهُ نَهْيٌ لِلثَّمِلِ الَّذِي يَعْقِلُ الْخِطَابَ ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ : { حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّكْرَانَ يَقُولُ مَالَا يَعْلَمُ ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ مُكَلَّفًا وَهُوَ غَيْرُ فَاهِمٍ ، وَالْفَهْمُ شَرْطُ التَّكْلِيفِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ(10) .
الدليل الرابع
روى أن عمر رضي الله عنه استشار الصحابة رضي الله عنهم وقال إن الناس قد تباغوا في شرب الخمر واستحقروا حد العقوبة فيه، فما ترون ؟ فقال علي رضي الله عنه: انه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحده حد المفترى، فلو لا أن لكلامه حكما لما زيد في حده لاجل هذيانه فجعله الصحابة كالصاحي(11) .

الجواب عن هذا الدليل
من وجهين :
الأول : بِأَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ (12) .
الثاني : أن هذا القول عن علي قد ذكر ابن القيم أنه لا يصح البتة(13) ، كما أن الحديث ضعفه الألباني في الإرواء(14).
وجاء في المحلى لابن حزم(15)ما نصه ( هذا خبر مكذوب قد نزه الله عليا وعبد الرحمن بن عوف عنه ، لأنه لا يصح إسناده ).
الدليل الخامس
قالوا ولِأَنَّهُ فَرَّطَ بِإِزَالَةِ عَقْلِهِ فِيمَا يُدْخِلُ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى غَيْرِهِ فَأَلْزَمَ حُكْمُ تَفْرِيطِهِ عُقُوبَةً لَهُ(16).
ويجاب عنه بما أجيب به عن الدليل الثاني .

القول الثاني : عدم صحة ما يصدره السكران من صيغ .
وهو قول للحنفية(17) وقول للشافعية(18) ورواية عند الحنابلة(19) ، وهو رأي عدد من المحققين كابن تيمية وابن القيم(20) .

نصوص الفقهاء في ذلك
جاء في المجموع شرح المهذب(21) : وطلاقه أي السكران لا يقع واليه ذهب ربيعة والليث وداود وأبو ثور والمزني، لأنه زال عقله فأشبه المجنون.
وجاء في المغني(22): وَسَأَلَهُ ـ أي الإمام أحمد ـ ابْنُ مَنْصُورٍ : إذَا طَلَّقَ السَّكْرَانُ ، أَوْ سَرَقَ ، أَوْ زَنَى ، أَوْ افْتَرَى ، أَوْ اشْتَرَى ، أَوْ بَاعَ فَقَالَ : أَجْبُنُ عَنْهُ ، لَا يَصِحُّ مِنْ أَمْرِ السَّكْرَانِ .
وجاء في مجموع الفتاوى لابن تيمية(23): ( وَاَلَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَالْأُصُولُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ : أَنَّ أَقْوَالَهُ هَدَرٌ - كَالْمَجْنُونِ - لَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ وَلَا غَيْرُهُ ) .

أدلة هذا القول :
الدليل الأول
قالوا إن السكران غير عاقل ولا فاهم، فلا يكون إيقاع لفظ الطلاق منه سببا ، كما قالوا أَنَّهُ لَيْسَ بِعَاقِلٍ ، فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ كَالْمَجْنُونِ.(24)
الدليل الثاني
قالوا أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ماعزاً لما اقر أربع مرات بالزنا ،أشربت خمرا ؟
قالوا : وهذا يدل على أنه لو سكر لم يصح إقراره .
الدليل الثالث
أخرج البخاري في صحيحه معلقا بصيغة الجزم حديث عثمان ( ليس لمجنون ولا لسكران طلاق ) قال ابن المنذر(25) ( هذا ثابت عن عثمان ) وجاء في مجموع الفتاوى وهذا ثابت عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ) .
قال ابن تيمية في الفتاوى(26): (وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ حَالَ زَوَالِ عَقْلِهِ . وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ مُكَلَّفًا وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ لَا يَقَعُ وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ) .
الدليل الرابع
قالوا إن عبادات السكران لا تصح لكونه لا يعلم ما يقول كما جاء في الآية ( حتى تعلموا ما تقولون ) ، فكذا عقوده لا تصح(27) .

القول الثالث وهو رأي الإمام مالك وأصحابه فهم يرون صحتها لكنه غير لازم .

نصوص فقهاء المالكية في ذلك
جاء في مواهب الجليل(28) (تحصيل القول في السكران أن المشهور تلزمه الجنايات والعتق والطلاق والحدود ولا تلزمه الإقرارات والعقود قال: في البيان وهو قول مالك وعامة أصحابه وأظهر الأقوال )، وفي موضع آخر (قال ابن راشد: في المذهب إن بيع السكران المحقق السكر لا ينعقد على المشهور ) وقال(29) : ( لا يقال في بيع السكران أن مذهب مالك أنه غير منعقد، وإنما يقال إنه غير لازم ) ا هـ.
وجاء في حاشية الدسوقي : ( وَمَحَلُّ الْقَوْلِ فِي السَّكْرَانِ لُزُومُ الْجِنَايَاتِ وَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ لَهُ دُونَ الْإِقْرَارَاتِ وَالْعُقُودِ عَلَى الْمَشْهُورِ) وفي موضع آخر (وَأَمَّا السَّكْرَانُ الَّذِي عِنْدَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ فَبَيْعُهُ صَحِيحٌ قَطْعًا لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَسَائِرِ الْعُقُودِ وَالْإِقْرَارَاتِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْحُدُودِ وَالْجِنَايَاتِ فَتَلْزَمُهُ )(30) .
وقالوا في دليلهم على ذلك قياسه على السفيه بأن السكران بسكره يقصر تمييزه في معرفته بالمصالح عن السفيه ، والسفيه لا يلزمه العقد ، فهو من باب أولى(31).
وبعد عرض الأقوال والأدلة فالذي يظهر من هذه الأقوال والله تعالى أعلم هو القول بعدم صحة ما يصدره السكران من صيغ ؛ لقوة الأدلة وسلامتها من الاعتراضات ، كما أن ذلك متوافق مع شروط صحة العقود من توفر العقل والتمييز ، وهو رواية عند الحنابلة ورأي جماعة من المحققين ، والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

وكتبه الفقير إلى عفو ربه ومولاه
صلاح بن خميس الغامدي


---------------------------------------------
(1) انظر فتح القدير 7/498 ، بدائع الصنائع 50/7و258/8 ، رد المحتار 15/129
(2) انظر المجموع شرح المهذب 17/62 ، روضة الطالبين 6/ 236 ، مغني المحتاج 13/256، حاشيتا قليوبي وعميرة 13/70
(3) شرح المنتهى 9/201 ، الإنصاف 321 / 8 ، المغني 16/230
(4)انظر 7/498
(5) انظر 15/129
(6) انظر 9/155
(7) انظر 9/201
(8) زاد المعاد 5/213
(9) المجموع 17/62
(10) نيل الأوطار 266/10
(11) المجموع 17/62
(12) نيل الأوطار 10/ 266
(13) زاد المعاد 5/213
(14) انظر الإرواء 8/46
(15) المحلى 10/211
(16) المنتهى 9/201
(17) فتح القدير 7/498
(18) المجموع شرح المهذب 17/62
(19) المغني 16/231 ، الإنصاف 321/8
(20) الفتاوى 10/443 ، زاد المعاد 5/213
(21) انظر 17/62
(22) انظر 16/231
(23) انظر 10/443
(24) المغني13/200 ، الإنصاف 321/8
(25) انظر شرح الزركشي 5/384
(26) انظر 10/442
(27) انظر زاد المعاد 5/209
(28) انظر 308/5
(29) انظر 6/32
(30) انظر 9/59 وأيضا 444/10
(31) مواهب الجليل 4/242
 
التعديل الأخير:

د. عبدالحميد بن صالح الكراني

:: المشرف العام ::
طاقم الإدارة
إنضم
23 أكتوبر 2007
المشاركات
8,134
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أسامة
التخصص
فقـــه
الدولة
السعودية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
شكر الله لك هذا البحث الماتع ..
ورحم الله الإمام أحمد حين قال: كنت أقول يقع طلاق السكران حتى تبينت ...
كم لهذه الكلمة من دلالات ومعانٍ تربوية؛ غير الفقهية ...
فرحم الله علماءنا الأثبات


طلب:
حبذا أن تكتب في إيجاز عن الهيكل التنظيمي الجديد للمحاكم القضائية في المملكة؛ مع ذكر اختصاصاتها.
فلتخصنا بمثل هذا الموضوع الذي تدركونه عن كثب.
وفقك الله وأعانك.
 
أعلى