رد: بما تنصحون: بـ "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي أو بـ : "نهاية المحتاج" لشمس الدين الرملي
مسألة قوة المدرك وأن الترجيح به فيها كلام طويل لا يحتمله هذا الموضع لكن أقول :
ترجيح المتأخرين منه ما هو بالمدرك ومنه ما هو بالنقل ، وابن حجر نفسه لا يرجح بقوة المدرك دائما بل يقدم النقل أحيانا على قوة المدرك
ولا أدل على ذلك من نزاع ابن حجر وابن زياد في مسألة التبرع والدين وهي فيمن تصدق تطوعا وعليه دين يغلب على ظنه أنه لن يحصله من جهة أخرى فهنا تحرم الصدقة ثم اختلفا فقال ابن زياد : حيث حرمت الصدقة لم يملكها المتصدق عليه وقال ابن حجر : يملكها المتصدق عليه
وتمسك ابن حجر بأن النقل عن إمام المذهب وأصحابه القدامى ينص على التملك
وتمسك ابن زياد بأن ذلك يؤدي إلى ضياع حقوق الدائن ولأن السنة لا تقدم على الفرض
فالحاصل أن ابن زياد هنا تمسك بالمدرك
وابن حجر تمسك بالنقل
وعندما قال ابن زياد :"وإياك والتهويل الذي ذكره الإسنوى والجمود عليه فتقع في تخطئة كثير من المحققين المعتمدين"
رد عليه ابن حجر قائلا :"لم نعتمد في التهويل إلا كلام إمام المذهب وأصحابه ومن بعدهم ، وتخطئة كثير من المحققين لأجل هذا متعينة على أنهم معذورون بعدم إطلاعهم على ما اطلعنا عليه وإلا لم يخالفوه بوجه كما هو الظن بالمقلدين وإنما ظنوا أن المسئلة في كلام المتأخرين لا غير فجروا على ما ظهر لهم من المدرك ونحن لا نمنع ظهور مدركهم فيها وأن صحة تبرع المدين يترتب عليها من الضرر ما لا يخفى لكن المذهب نقل يجب أن تتطوّق به أعناق المقلدين حتى لا يخرجوا عنه وإن اتضحت مدارك المخالفين"
والكلام واضح فابن حجر يرى قوة مدرك ابن زياد وغيره في هذه المسألة لكنه يخالفهم لوجود النقل بخلاف قولهم.
والمتتبع لذلك يرى أمثلة له
فالترجيح عند ابن حجر نفسه ساعة بالمدرك وساعة بالنقل
الظاهر من صنيع ابن حجر أن ترجيحه عادة بالمدرك إلا حيث يكون الترجيح به خروجاً عن المذهب ، فمثلاً إن كان في المسألة قولين أو وجهين أو طريقين أو أكثر من ذلك ، فإنه يرجح بالمدرك ، أما حيث لم يكن في المذهب سوى قول واحد أو وجه واحد وقال بعض المتأخرين من غير أصحاب الوجوه قلوا أو كثروا بخلافه أهمله ، إذ هو حينئذٍ خروج عن المذهب اجتهاداً ، والفرض أنهم مقلدين .
لذا لا يظهر لي صحة الاحتجاج بهذا المثال على أن ابن حجر يرجح بالنقل مع قوة مدرك المخالف.
أما إن استوت المدارك من حيث قوتها ، فلك أن ترجح هنا بالنقل.
والذي تميل إليه نفسي أن (التحفة) أفضل من (النهاية) باعتبار المدارك وذلك من بعض الجهات التي ذكرت هنا ككون الرملي يقلد أباه أحياناً بل ويقلد ابن حجر أحياناً أخرى كما يظهر من النقل.
أما الاعتذار بكون موافقته لأبيه هو من باب موافقة الاجتهاد الاجتهاد فهو مع إمكانه لا ينفي التقليد أيضاً ، وهذا كما قال ابن حجر في (الإيعاب) : "... وأيضاً فقد تكون الجماعة أتباع رجل واحد ، كأتباع الشيخ أبي حامد ، فيكون ذلك بمثابة الواحد ؛
فإنهم قلما يخالفون صاحب طريقتهم"
وفي هذا إهمال المخالفة القليلة وإعمال الكثيرة.
فكيف إذا كان شيخك وصاحب طريقتك أبيك! لا شك أنك تتأثر به أيما تأثير بحيث يقرب اجتهادك من تقليدك لكونك تنظر إلى المدارك نظرته وتخرجها على طريقته وترد ما خالفها بأجوبته ، وقد تظن في نفسك مع ذلك أنك منصف منزه نفسك عن تقليده ، وأن الأمر محض موافقة للاجتهاد.
ومما يدل على قوة مدرك ابن حجر أنه رد كثيراً من أقوال المحققين المخالفين للشيخين ، ثم تبعه عليها الرملي في (نهايته) ولا نشك أنه حين اطلع على مدارك ابن حجر استقواها ووافقه عليها ، لكنا نشك في كونه إن لم يطلع عليها لوصل إلى نفس النتيجة في جميعها ، والفرق ظاهر بين صاحب المدرك ومتابعه عليه كما هو بالنسبة للمجتهدين الذي تابعوا الشافعي من غير تقليد ، فلولا أنه أظهر مدارك الأحكام من النصوص لم ينتبهوا هم لها ، مع أن عملهم بها هو من أجل ذلك المدرك لا تقليداً.
ويشهد لقوة مدركه أيضاً أنك ترى في بعض المسائل التي خالف الرملي فيها ابن حجر ربما قلده تلاميذه فيها ولا يسعهم مع ذلك إلا الاعتراف بأن مدرك ابن حجر أقوى كما قالوه في الإستياك بكل خشن فقال قليوبي : " قَوْلُهُ: "(بِكُلِّ خَشِنٍ) أَيْ طَاهِرٍ خِلَافًا لِابْنِ حَجَرٍ
وَإِنْ كَانَ الْوَجْهُ الْوَجِيهُ مَعَهُ كَمَا مَرَّ"
هذا ما ساعد به الخاطر في التفاضل بين الكتابين.
والذي أعتقده هو ما ذكره شيخنا الكاف من أن جميع المتأخرين أقوالهم معتمدة ، وهذا في حكاية المذهب لا في اعتقاده والعمل به ، فإن اعتقادي أنه لا يصح إلا بدليله ، فمثلاً الذي اعتقده لنفسي وأجيب به إذا سؤلت جواز التسوك في كل وقت للصائم وغيره وعدم كراهة استقبال النيرين فضلاً عن استدبارهما وحرمة تنجيس الماء الراكد ولو أمكن تطهيره وغيره ذلك مما قوي دليله وظهر.
والله سبحانه أعلم