العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

ورقة للدراسة

إنضم
19 أغسطس 2008
المشاركات
15
التخصص
أصول الدين
المدينة
شرق فرنسا
المذهب الفقهي
مالكي
ورقة – توثيق الزواج –
أ. أحمد مارسو
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:

تتكون الورقة من:
1- التعريف بما يسمى"الزواج ب"الفاتحة" أو "الحلال" أو "أمام الله"
2- واقعياً كيف يمارس الزواج ب"الفاتحة"
3- النتائج السيئة التي تحصل نتيجة هذا الزواج!
4- الزواج ب"الفاتحة" أو العرفي بين بعض البلدان الإسلامية وواقع فرنسا
5- اهتمام الإسلام برابطة الزواج
6- العقد والوفاء بالعقود
7- العقود في العهد النبوي
8- الزواج وأركان عقد الزواج
9- الطريقة السليمة لعقد الزواج أمام السلطات في فرنسا
10- الاستئناس بما جاب في قرار المجلس الأوروبي

أولاً: لتعريف بما يسمى"الزواج ب"الفاتحة" أو "الحلال" أو "أمام الله"
المفهوم، "الفاتحة" أو "الحلال" أو "الزواج أمام الله" أو " الزواج الديني" أسماء تطلق على ما يعتقدون بأنه "الزواج الإسلامي" وكأنهم يرونه أنه عقد ديني بحت، وهم بالمقابل يرون أن العقد المدني الذي تجريه السلطات المدنية في أوروبا لا يصحّ شرعا لأنّه قانونا صادر من سلطة غير إسلامية! فإذا أضفنا إلى ذلك صعوبة الإجراءات الإدارية للزواج، أو الطلاق أمام السلطات، نجد هذا المفهوم لعقد الزواج- بأنه زواج ديني بحت- تميل إليه النفس التي لا تثق بالطرف الآخر، أو تريد أن تتهرب بسهولة من الواجبات والحقوق الملقاة على عاتقها، أو تريد أن تشبع رغباتها الفطرية باسم الدين، فانتشر ما يسمّى ب"الاتحاد الحر"، وهو أن يتّفق رجل وامرأة ليعيشا معا ويتعاملان كزوجين وقد ينجبان أولاداً، وبعد سنوات من العيش قد يتزوجان وقد يفترقان.. والمسلمون الذين ولدوا في أوروبا وجدوا في هذا المفهوم"للزواج" تقارباً مع ما هو سائد في المجتمع من حرية العلاقات الحرة بين رجل وامرأة، فأصبحوا يقولون و"بصراحة" إنّنا نريد أن نتزوّج "دينياً" ويجرّب كلّ طرف منّا الآخر، فإذا تأكّدنا أنّنا يمكن أن نعيش معا وأن نبني أسرة نذهب إلى السلطات ونعقد عقدا مدنيا، وكثيرا ما يحدث أن يذهب الرّجل مع زوجته وهي حامل وبلباسها الشرعي أو مع أولادها ويطلبان موعدا لإجراء العقد المدني، أو يذهب الأب مع أولاده وزوجته ليستلحق أولاده، فتتكون عند المراقب صورة سيئة عن الإسلام وكأنه يقرّ العلاقة بين الرجال والنساء خارج إطار الزواج!

ثانياً: كيف يتم العقد ب"الْفَاتَحْة"
1- يستدعى إمام مسجد ما إلى البيت بعد تنظيم حفل مع تجمع صغير من الأقارب أو الجيران فيجلس الإمام، وبعد حسن الاستقبال، وأكل وشرب، يٌقَدَّمٌ للإمام الشاب الذي سيتزوج، وكذلك ولي المرأة، وقد يسأل عن الصداق وقد لا يسأل، فيسال ولي المرأة عن الرضا في هذا الزواج وقد يسال بصفة العموم، فيجيب الحضور ب" نعم عن كل سؤال الإمام، فيدعو الإمام لهما بالزواج السعيد، وبهذا يكون قد تم الزواج.!
2- عندما رفض الأئمة هذا الزواج، بدأ الناس يذهبون إلى أماكن الصلاة الصغيرة التي يؤم الناس فيها عمال أو أشخاص لا معرفة لهم بأمور الدين أو القانون فيأتون بهم ليقوموا ب"الفاتحة"
3- انتشرت فتاوي على ألسنة كثير من الناس وخاصة بعض الشباب– الذين يحسبون أنفسهم أنهم على سنة السلف الصالح- بأن "الفاتحة يكفي فيها شاهدين ورجل يعرف شيء من الدين وكفى!! وبهذا فتحوا الباب لأنفسهم ليقوموا بالمهمة التي رفضها "الأئمة"
4- حدوث حيلة أخرى وهي أنهم يرمون ولي المرأة بالكفر لابتداعه، أو تعامله بالربا.. فيقنعون البنت بهذا ثم يقولون بأن الكافر لا يكون ولياً على البنت، فينصبون ولياً لها منهم ثم يزوجونها لواحد منهم، ويقنعون بعضهم بعضاً بأن الزواج أمام الكفار لا يجوز.
في كلا الأحوال لا يتم التأكد من أن هذا الزواج خالي من موانع النكاح في دين الإسلام، ولا التأكد من عدم وجود التغرير، كمرض معدي، أو عقم، أو اختلال في"الكفاءة" أو ارتباط بزواج أخر غير معروف وموثق، ولا يتم التأكد من أن الشخص الذي قُدم كولي هو الولي الشرعي للبنت،[1] ولا التأكد من أن البنت راضية بهذا الزواج، وبالتالي: الشهود، لا أحد يعرف عدالتهم وحالتهم الاجتماعية بل في غالب الأحيان، يكون الشاهدين لا دراية لهم بما يجري بالإضافة إلى جهلهم بأحكام الزواج، فإذا حصل خلاف بين الزوجين يرفض كل شهيد أن يشهد إن كان لا زال موجود وإلا فلن تجد له أثر فتضيع الحقوق وتحصل الفتن ويصبح الأمر فوضى فتنتهك الحقوق ظلماً وجهلاً والعياذ بالله.
ثالثاً: النتائج السيئة التي تحصل نتيجة هذا الزواج!
النتيجة أن الجميع يعلم المآسي التي تحصل بسبب الزواج ب"الفَاتْحَة" ففي ضواحي مدينة ميلوز وحدها والذي عرض علينا خاصة 38 حالة نكران في زمن قصير.. كما عرضت علينا حالة امرأة تعيش مع رجلين مع كل منهما لها عقد ب"الفاتحة"، ووجدنا بعض النساء اللائي طلبن الطلاق من القضاء ولم يصدر القرار بتطليقهن بعد، فأفتى لهن بعض من لا علم له أنّها ما دامت مفارقة لزوجها أكثر من ثلاث حيض فهي مطلّقة! بالإضافة إلى مفاسد كثيرة نذكر منها:
- عدم ضمان حقوق جميع الأطراف في الأسرة: الزوجة والزوج والأطفال،
- ضياع نسب الأطفال إذ ليس هناك ما يجبر الزوج على الاعتراف بأولاده ما دام ليس لديه عقدا مدنيا، وشكاوى النساء اللائي لم يعترف أزواجهن بأولادهن كثيرة،
- الزوجة إذا أرادت أن تطلّق لأيّ سبب من الأسباب المشروعة فهي لا تستطيع ذلك لأنّ زوجها يرفض طلاقها، وكم من امرأة ظُلمت ولم تجد وسيلة لرفع هذا الظلم وبقيت معلّقة لا يُتعامل معها كزوجة ولا هي مطلّقة لتعتدّ ثم لتتزوّج شخصا آخر،
- أحيانا يختفي الزوج ولا تعلم زوجته أين ذهب؟. فمن يطلّقها في مثل هذه الحالة؟،
- الزواج بهذه الطريقة أدّى إلى التلاعب والتعدّد غير المشروع وخاصّة عند الكثير من الذين لا يشعرون بأي مسؤولية ولا يريدون أن يتحمّلوها،
- الزواج ب"الفتاحة" غالبا ما يتبعه الدخول السري، ثم يقع الخلاف بين الزوجين ويتمّ الطلاق، فهل هذه المرأة المطلّقة تُعدّ مدخولا بها أو غير مدخول بها؟ ولكل لها حكم في ديننا.

رابعاً: الزواج ب"الفاتحة" أو العرفي بين بعض البلدان الإسلامية وواقع فرنسا
في كثير من البلدان الإسلامية إذا تم الزواج ب" الفاتحة" وجاء بعد ذلك المتزوجان مع الشهود إلى السلطات وقامت البينة، تم اعتماد شهادة الشهود وتوثيق العقد وضمان كل الحقوق، أما في فرنسا، قانون العقوبات يعاقب كلّ من يقوم بإجراء عقد ديني قبل العقد المدني بعقوبة سجن مدّتها 6 أشهر، وبغرامة مالية قدرها 7500 أورو. مما يعني أن مجريات العقد ب"الفاتحة" لا يعترف به ولا تضمن به الحقوق المرتبة من التحاق نسل أو ميراث أو سماع مظالم بالإضافة إلى العقوبة النازلة بالعاقد إن اعترف، وكل فعل تحققت مفسدته أو غلبت فحرام بين كما يقول العز بن عبد السلام[2]. ونجد شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله يعلل وجوب الإشهاد والتحقق من حالهم، ويبين دوافع التوثيق فيقول: وإذا كان الناس ممن يجهل بعضهم حال بعض، مثل الأماكن التي يكثر فيها الناس المجاهل، وجب الإشهاد ثم يقول: لم يكن الصحابة يكتبون (صداقات)- يعني: المهور- لأنهم لم يكونوا يتزوجون على مؤخر، بل يعجلون المهر، وإن أخّروه فهو معروف، فلما صار الناس يزوجون على المؤخر، والمدة تطول وينسى صاروا يكتبون المؤخر، وصار ذلك حجة في إثبات الصداق وفي أنها زوجة له[3]" وهكذا نجد أن توثيق الزواج مطلب شرعي بدأ بالإعلان ثم الإشهاد ثم الكتابة المعترف بهذا رسمياً حسب الحال وظروف الناس في كل زمان ومكان.
وجاء في بنك الفتوي بموقع "الإسلام أون لاين" بتاريخ 11/04/2005 نقلاُ عن فتوى فضيلة الدكتور حسام عفانه –أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس بفلسطين: أن عقد الزواج كان يتم قديماً بدون وثيقة وبدون تسجيل كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [ لم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يكتبون صداقات لأنهم لم يكونوا يتزوجون على مؤخر، بل يعجلون المهر، وإن أخّروه فهو معروف، فلما صار الناس يزوجون على المؤخر، والمدة تطول وينسى صاروا يكتبون المؤخر، وصار ذلك حجة في إثبات الصداق وفي أنها زوجة له ]. مجموع فتاوى شيخ الإسلام 32/131.
ولكن صار تسجيل عقد الزواج أمراً لا بد منه، ولا يقال لماذا لا نمشي على ما مشى عليه السابقون من عدم التسجيل؟ فأقول: شتان ما بيننا وبينهم فلقد خربت ذمم كثير من الناس وقلت التقوى وكاد الورع أن يغيب في عصرنا لذا أؤكد على وجوب تسجيل الزواج في وثيقة رسمية وأعتقد أن من تزوج عرفياً أو زوج ابنته في زواج عرفي فهو آثم شرعاً وإن كان الزواج العرفي إن تم مستكملاً لأركان الزواج وشروطه صحيحاً شرعاً وكونه صحيحاً لا يمنع من تحريمه كمن حج بمال حرام فحجه صحيح ولكنه آثم شرعاً. قال الإمام النووي: [إذا حج بمال حرام أو راكباً دابةً مغصوبة أثم وصح حجه وأجزأه عندنا وبه قال أبو حنيفة ومالك والعبدري وبه قال أكثر الفقهاء] المجموع 6/62. ومثله الصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة مع أن الغاصب آثم قال الإمام النووي: [الصلاة في الأرض المغصوبة حرام بالإجماع، صحيحة عندنا وعند الجمهور من الفقهاء وأصحاب الأصول ] المجموع 3/165. ومن المعلوم أن كتابة العقود وتوثيقها بمختلف أنواعها أمر مطلوب شرعاً وخاصة في هذا الزمان حيث خربت ذمم كثير من الناس وقل دينهم وورعهم وزاد طمعهم وجشعهم، وإن الاعتماد على عامل الثقة بين الناس ليس مضموناً لأن قلوب الناس متقلبة وأحوالهم متغيرة.
وقد أمر الله جل جلاله بتوثيق الدين حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ .... وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ) سورة البقرة الآيتان 282-283 .
فهذا الأمر الرباني في كتابة الدنانير والدراهم لما في الكتابة من حفظ للحقوق فمن باب أولى كتابة ما يتعلق بالعرض والنسب. ويضاف إلى ما سبق أنه يجب على الناس الالتزام بما نص عليه قانون الأحوال الشخصية فطاعة هذا القانون من باب الطاعة في المعروف وخاصة أنه يحقق مصالح الناس ويحفظ حقوقهم وبالذات حقوق المرأة والأطفال.

خامساً: اهتمام الإسلام برابطة الزواج
اهتم دين الإسلام بضبط أصل نظام تكوين العائلة الذي هو اقتران الذكر بالأنثى المعبر عنه بالزواج فإنه أصل تكوين النسل وتفريع القرابة بفروعها وأصولها، فمن نظام النكاح تتكون الأمومة والأبوة والبنوة، ومن هذا تتكون الأخوة وما دونها من صور العصبة، ومن امتزاج رابطة النكاح برابطة النسب والعصابة تحدث رابطة الصهر، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}[الفرقان 54] لهذا جعل الإسلام الزواج من أسمى مقاصده، ومن ابتغى غيره فقد تعدى الحدود وظلم نفسه وأفسد عائلته، وأساء لمجتمعه، وأدخل الشبهة على نسله، {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } [المؤمنون 5-7] قال ابن القيم رحمه الله "في أعلام الموقعين": إن عقد النكاح يشبه العبادات في نفسه بل هو مقدم على نفلها، ولهذا يستحب عقده في المساجد، وينهى عن البيع فيها، ووصف القرآن عقد النكاح بالميثاق الغليظ فقال: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}[النساء21] أيمكن لعقد تُسْتَحَل به الفروج، وتُقام عليه رابطة العائلة نسباً وصهراً، وصفه القرآن ب"الميثاق الغليظ" أن يتم ب"فاتحة!!" والحال كما وصف الإمام ابن تيمية رحمه الله أن الناس ممن يجهل بعضهم حال بعض، حتى أن سكان عمارة واحدة لا يعرفون بعضهم في الغالب.
إن دين الإسلام حرص على تحقيق رضا المرأة وأهلها بذلك الاجتماع على الزواج حتى يظهر، أن المرأة لم تتولى الركون إلى الرجل وحدها دون علم ذويها، إذ لا يليق بمحاسن العادات دخولها فيه، ولا يرضى بذلك الأولياء في عرف الناس الغالب عليهم، وبهذا يتضح الفرق بين النكاح وبين الزنا والبغاء، ويتحقق لدى المرأة وأهلها حسن قصد الرجل من دوام المعاشرة وإخلاص المحبة، وشرع مراسم الخطبة لإعطاء فرصة كافية للمرأة وأهلها وأوليائها للسؤال عن الخاطب، والتأكد من: تدينه، وأخلاقه، وسيرته، كما أرشد لذلك نبي الرحمة e حين قال:«إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَالَ « إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ» ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. [الترمذي] كيف يرضى الولي بالخاطب إذا لم يتعرف عليه ويسأل عنه! لهذا أكد دين الإسلام على دور الولي في الزواج جاء في البخاري أن قوله تعالى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة232] نزلت في مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ قال مَعْقِلُ بْنُ يَسَار: "زَوَّجْتُ أُخْتًا لِى مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا فَقُلْتُ لَهُ زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ فَطَلَّقْتَهَا ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا لَا وَاللَّهِ لَا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا وَكَانَ رَجُلًا لَا بَأْسَ بِهِ وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ فَقُلْتُ الْآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ" قال الحافظ بن حجر في الفتح: هذه الآية أصرح دليل على اعتبار الولى وإلا لما كان لعضله معنى، ولأنها لو كان لها أن تزوج نفسها لم تحتج إلى أخيها، ومن كان أمره إليه لا يقال إن غيره منعه منه.

سادساً: العقد والوفاء بالعقود
قال الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة1] هذا التصدير يُتقبل بالطاعة والامتثال من كل مؤمن ومؤمنة في كل مكان وزمان، فما هي العقود؟ وما ذا تقرر الآية؟

أولا: العقود جمع عقد بفتح العين، وهو الالتزام الواقع بين جانبين، فالعهود عقود، والتحالف عقود، والتبايع والمؤاجرة ونحوهما عقود، والأحكام التي شرعها الله لنا عقود، إذ قد التزم بها كل من دخل الإسلام وآمن به، {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة 7] والعقد في الشريعة هو: اتفاق أرادتين على إنشاء حق، أو على نقله، أو على إنهائه، أو تحمله، كالنكاح، إذ المهر لم يُعتبر عوضاً وإنَّما العوض هو تحمّل كلّ من الزوجين حقوقاً للآخر.

ثانيا: هذه الآية قرّرت أصلاً من أصول الشريعة، وهو أنّ مقصد الشارع من العقود أمرين:
الأمر الأول: أنّ العقود شرعت لسدّ حاجات الأمّة في العلاقات والمعاملات وتبادل المنافع، وتحمل المغارم وتقاسم المغانم ليصل كل ذي حق إلى حقه ويحفظ له، وهذا من العدل، المغروس في الفطرة والذي أمر به دين الإسلام، فالعدل[4]: تمكين صاحب الحق لحقه، وتعيينه له قولاُ وفعلاُ، فيظهر العدل في: القضاء بين الناس في منازعاتهم، وفي فرض الواجبات والتكاليف عليهم، وفي التشريع لهم والإفتاء، وفي الشهادة بينهم، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام 152] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة 8]
الأمر الثاني: التمام، فالأمر بالإيفاء بالعقود يدلّ على وجوب ذلك، فتعيّن أنّ إيفاء العاقد بعقده حقّ عليه، فلذلك يُقْضَي به عليه، عند الخلاف أو النكران. والشريعة ما جاءت بما جاءت به من تحديد كيفيات معاملات الأمة وتعيين الحقوق لأصحابها إلا وهي تريد تنفيذ أحكامها وإيصال الحقوق إلى أربابها إن رام رائم اغتصابها منهم، وإلا لم يحصل تمام المقصود من تشريعها لأن الحقوق معرضة للاغتصاب بدافع الغضب أو الشهوة، ومعرضة لسوء الفهم وللجهل وللتناسي، فلا جرم أن كان من أهم مقاصد الشريعة بعد تبليغها إقامتها وحراستها وتنفيذها، لئلا تكون في بعض الأوقات معطلة[5]. ولما كان شيوع الفسق بين الناس في المعاملات المالية من قديم أمر الشرع الحكيم بالكتابة لتوثيّق الحقوق وقطع أسباب الخصومات، وتنظيم معاملات الأمة، وإمكان الاطّلاع على العقود الفاسدة، لأنّ الله تعالى أراد من الأمة قطع أسباب التهارج والفوضى فأوجب عليهم التوثّق في مقامات المشاحنة، لئلاّ يتساهلوا ابتداء ثم يفضوا إلى المنازعة في العاقبة[6] فكلما ظهرت بين الناس مشاحنة في معاملة أو علاقات إلا كان من مقاصد الشرع حماية المجتمع من مخاطر ما تؤدي إليه هذه المشاحنات من ضياع للحقوق، وإهدار للمصالح، وزرع للشكوك، ونشر للفوضى.. وهذا لا يتم إلا بالتوثق لرد نكير منكر، وفضح لشهادة زور، ولا يخفى على أحد اليوم كثرة المفاسد ومخاطر الفوضى التي تنشأ عن الزواج ب"الفاتحة" والطلاق ب"كلمة" إضافة إلى صعوبة التحقق من العقود الفاسدة.

سابعاً: العقود في العهد النبوي وشيوع وظيفة"المأذون" أو "العادل" أو القائم ب"التوثيق"
عقود الزواج في عهد رسول الله e والصحابة لم توثق وفي عصر التابعين[7] كذلك، لقدسية أمر الزواج وسلامة المجتمع من المفاسد في عقود الزواج، وقلة الاختلاط بين الناس، فإذا ظهر في مجتمع ما شيوع الكذب، وشهادة الزور، وأصبح الرجل يدعي على امرأة أنه تزوجها ويستعين بشاهدي زور!! أو تدعي هي الأخرى أنه تزوجها وتستعين بشهود زور كذلك، وقد تكون الدعوى من رجل ليس أهلاً للمرأة التي يدعي حصول عقد الزواج بها، لجأت السلطات في مثل هذا المجتمع إلى وسيلة التوثيق لرد نكير منكر، وإبطال الادعاء الباطل، وكشف شاهدي الزور، تحقيقاً للمقصد الشرعي في توثيّق الحقوق وقطع أسباب الخصومات.
فتحملت الدولة: تعيين من له الصلاحية في إعداد ملف عقد الزواج، والتأكد من سلامة أركانه، وتوفر شروطه، وخلوه من التغرير، وأجمعت دول العالم على هذا لشيوع المشاحنات، وتداخل المصالح، وضبط للحقوق. فالفصل في الخصومات بين الزوجين، والتمكن من الميراث، والتحاق النسب، كل ذلك أصبح مرهوناً بتوثيق عقد الزواج.
جاء في لائحة مأذوني عقود الأنكحة بالمملكة السعودية أن المأذون /هو الشخص المرخص له بإجراء عقد النكاح احتسابا، ويشترط فيمن يتقدم بطلب رخصة مأذون عقود الأنكحة ما يلي: أن يكون سعودياً، وأن يكون حاصلاً على شهادة جامعية في العلوم الشرعية وأن لا يقل عمر المأذون عن خمس وعشرين سنة، وهكذا أصبح لكل دولة جهة مختصة بعقود النكاح.

ثامناً: الزواج وأركان عقد الزواج وشروطه
الزواج ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام، غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة، برعاية الزوجين.

أركان عقد الزواج: ينعقد الزواج بإيجاب من أحد العاقدين وقبول من الآخر[8] بألفاظ تفيد معنى الزواج لغة أو عرفا، ويصح الإيجاب والقبول من العاجز عن النطق بالكتابة إن كان يكتب وإلا فبإشارته المفهومة من الطرف الآخر ومن الشاهدين، ويشترط في الإيجاب والقبول أن يكونا: شفويين عند الاستطاعة، وإلا فبالكتابة أو الإشارة المفهومة، وأن يكونا: متطابقين في مجلس واحد، وأن يكونا: باتين غير مقيدين بشرط أو أجل واقف أو فاسخ.

شروط عقد الزواج:
1- أهلية الزوج والزوجة، حسب العرف الشرعي أو القانون.
2-عدم الاتفاق على إسقاط الصداق؛ وهو ملك للمرأة تتصرف فيه كيف شاءت، ولا حق للزوج في أن يطالبها بأثاث أو غيره مقابل الصداق الذي أصدقها إياه.
3-ولي المرأة، فإن امتنع فلها الحق في استجوابه بأن يبين وجه امتناعه، وتأتي له بمن لهم معرفة بدين الإسلام للتحاور معه وفصل الخصام، فإن أفتوا لها ممن يقدرون على الفتوى ب"كفء" من تريد الزواج به جاز لها أن تعقد على نفسها.
4-شاهدي ذوي عدل، لسماع التصريح بالإيجاب والقبول من الزوجين، والتأكد من سلامة العقد من خطر تغرير أحد الزوجين بالآخر{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق2]
5-انتفاء الموانع الشرعية.

تاسعاً: الطريقة السليمة لعقد الزواج أمام السلطات المخولة بإجراء عقود الزواج في هذه البلاد
1- بعد إعداد ملف الزواج والذي يتضمن كل الوثائق التي تمكن من عدم التغرير، مع التأكد من صحتها
2- يتم تعيين الشهود الراشدين المعروفين بالعدل والنزاهة من طرف إنسان خبير بحال الناس وأمور الدين
3- الجلوس مع الشهود بحضور الولي للتأكد من تعيين الصداق وطرق تسليمه، وكتابة وثيقة فيه بعد العقد المدني
4- يوم العقد أمام السلطات، يحضر العقد ولي الزوجة ويحضر نفس الشهود، لأن القانون الفرنسي يحرص على إعلان الإيجاب والقبول أمام الحضور في مكان مفتوح للجميع[9].
وبهذا يتم التقارب بين مجريات العقد في ديننا الحنيف وطرق عقد الزواج في هذه البلاد، فتضمن الحقوق، وتقل الفوضى، ويتحقق المقصد الشرعي من إعلان الزواج وتوثيقه.

عاشراً: الاستئناس بما جاب في قرار المجلس الأوروبي
جاء في قرار المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في الدورة العادية التاسعة[10] قوله:
1- يدعو المجس الأوروبي للإفتاء والبحوث المسلمين في أوروبا إلى اللجوء إلى التحكيم وفقاً للشريعة الإسلامية في كلّ ما لا يتعارض مع القوانين السارية في البلاد الأوروبية ولاسيما في أحوالهم الشخصية ومعاملاتهم المالية، وذلك من أجل الإسراع في حسم منازعاتهم والتخفيف عن المحاكم الرسمية .
2- يمكن أن يتم التحكيم عن طريق الاشتراط في العقد، أو عن طريق وضع اتفاق تحكيمي عند حصول الخلاف، ومن الأفضل توثيق العقد الأصلي أو الاتفاق التحكيمي لدى كاتب العدل أو أ ي جهة رسمية أخرى.
3- يمكن أن يختار الأطراف محكّماً واحداً، رجلاً كان أو امرأة، أو هيئة تحكيمية من عدة أفراد، ويجب أن يكون عددهم وتراً حتى يمكنهم اتخاذ القرار بالأغلبية، ويشترط في المحكّمين أن يكون من بينهم من لديه إلمام بالأحكام الشرعية والقوانين السارية وأن يكونوا معروفين بالنزاهة والاستقامة.
4- يكون قرار التحكيم ملزِماً لجميع الأطراف بناءً على تعهدهم، وعليهم تنفيذه.

كلمة الختام:
نؤكد أنّ عقد الزواج هو عقد مدني محض، وأنّ الجانب الديني فيه لا يختلف على الجانب الديني في أي عقد آخر أو معاملة أخرى يقوم بها المسلم في شأن من شؤونه الحياتية، وأن الإشهاد ما شرع إلا للتوثق، ومتى احتملت الجهالة وجب الضبط والتثبت، فيصبح الأمر أوجب إذا تقينا من اطراد الجهالة.

والله أعلى وأعلم
أخوكم/ الراجي عفو ربه
أبو زيد مارسو


[1] حصلت حادثة معي، خلاصتها: أنني استدعيت لعقد زواج شرعي بعد عقد الزواج المدني، فعندما بدأت التأكد من وثائق من قدموا إلي كأطراف في العقد، اكتشفت أن من قدم نفسه ولي المرأة غير صحيح، فأسررت على حضور الولي فلما اتصلت به قال لي: إن البنت تزوجت رغم أنفي وأنا لست راضي!!!

[2] انظر: شجرة المعارف للعز بن عبد السلام باب: الورع وكذلك باب التعامل بالظنون الشرعية

[3] انظر: فتاوي شيخ الإسلام بن تيمية إصدار: موقع روح الإسلام.

[4] الطاهر ابن عاشور في كتابه: أصول النظام الاجتماعي فصل العدل.

[5] انظر فصل: مقاصد أحكام القضاء والشهادة من كتاب مقاصد الشريعة للطاهر ابن عاشور رحمه الله

[6] التحرير والتنوير - (ج 2 / ص 493) تفسير سورة البقرة. آية الدين


[7] نقلت مجلة عالم الكتب (مج 9 ص202) أنه تم العثور على عقد زواج إسلامي تم سنة 91هـ. والزوج هو ابن عامر ابن هبيرة، وولي الزوجة هو عبد الله بن عدون بن ثمار، وفي نهايته أسماء الشهود، وهم أربعة: محمد بن أبي شمر، ونعيم بن سيف، وعمارة بن عمرو، وابن عياش. ومقدار الصداق عشرة دنانير.) نقلاً عن مجلة المسلمون (ع157 ص17 جمادى الثانية 1408(

[8] الإيجاب هو أول بيان يصدر من أحد المتعاقدين، معبراً عن جزم إرادته في إنشاء العقد، أيا كان هو البادئ منهما، وأما القبول فهو ما يصدر من الطرف الآخر بعد الإيجاب، معبراً عن موافقته عليه.


[9] من كان أصله من بلد إسلامي فعليه - بعد العقد أمام السلطات الفرنسية- الاتصال بقنصلية بلده لمعرفة مجريات تسجيل العقد طبقاً للاتفاقيات بين الدول.

[10] في الفترة 7 - 3 جمادى الأولى 1423 هـ الموافق 17 – 13 يوليو 2002 م المعنقدة بمقر الاتحاد في باريز
 

المرفقات

  • ورقة توثيق الزو&#1.doc
    84 KB · المشاهدات: 0

سيدي محمد ولد محمد المصطفى ولد أحمد

:: قيم الملتقى المالكي ::
إنضم
2 أكتوبر 2010
المشاركات
2,243
التخصص
الفقه المقارن
المدينة
كرو
المذهب الفقهي
مالكي
رد: ورقة للدراسة

جزاك الله خيرا
نسأل الله أن تُستأصل شأفة هذا النوع من الزواج الذي يؤدي إلى هذه المآسي ومما يؤكد أن هذا النوع مذموم شرعا أن إعلان الزواج من أهم الأمور وبه تدرأ الحدود وينفى عن الزوجين دعوى الفجور
والله أعلم
 
أعلى