العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

اضطراب الفتوى: الأسباب والحلول

إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
اضطراب الفتوى
السببوالحل

سبب ظهورخلاف العلماء في هذا العصر:
الظهور الحاصل اليوم في خلاف أهل العلم هو أمرٌنسبي، وفي بعض المسائل، وكان نتيجة طبيعية للانفجار الإعلامي الذي وقع عقب فتراتهدوء من سكون الأقوال واقتصار كل بلاد على ما اشتهر عند علمائها، فهي ليست هي بتلكالنازلة المتغيرة وإنما زادت درجتها فقط في الظهور بسبب تطور أدوات العرض.
وإلا فقد كان اختلاف الفتوى ظاهراً بين أصحابرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يشتد ظهوره في موسم الحج.
فهذا أبو موسى الأشعريرضي الله عنه يفتي بالمتعة في الحج، فقيل له: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنينفي شأن النسك، فقال: ( أيها الناس من كنا أفتيناه بشيء فليتئد، فهذا أمير المؤمنينقائم عليكم، فبه فائتموا...)، والحديث في الصحيح.
وقصة ابن مسعود رضي الله عنهمع عثمان رضي الله عنه في قصر الصلاة بمنى معروفة، وصلاته خلفه ثم قوله:"الخلاف شر".
ومن الخلاف المتأزم ما وقع بين ابن عباس وابن الزبير، رضيالله عن الجميع في قصة الإفتاء بالمتعة.
ومع هذا فلم يكنهذا الاختلاف مؤثراً في سلوك الناس؛ لأن الخلاف يدور بين صفوة الناس، وهم أصحابرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ظهر في الحواضر القديمة صور أخرى ومتعددة من الاختلاف، ففي البلاد التييشيع فيها أكثر من مذهب كان يعرف كل فريق بأقواله، فيعرف هؤلاء مثلاً بتغليسهم فيصلاة الفجر، وأولئك بإسفارهم، وأحدهم يقنت، والآخر لا يقنت، وبعضهم إذا دخل المسجدفي وقت النهي جلس ولم يصل، والآخرون يصلون، ومثل ذلك كثير، وفيه قصص في كتب أهلالعلم، بل كان في الجوامع الكبار عدة محاريب، فكل فريق يصلي وراء إمامه في وقتهمالمختار، وكان في المسجد الحرام أربعة محاريب تمثل المذاهب الفقهية الأربعة!!
فالاختلافكان ظاهراً ومنتشراً، ولكنه لم يكن له أثرٌ ذا بال على سلوك الناس لالتزامهمبمذاهب متبوعة، وأقوال مرسومة، وقد وقع لجماعة تتبع أنواع من الرخص فغلظت كلمة أهلالعلم تجاههم، ويشبه أن يكون أولئك جماعة من الفساق لا من المنتسبين إلى أهلالعلم.
بينماالذي حصل اليوم هو ظهور الاختلاف مع عدم التزام الناس بمذهبٍ معين في الغالبالكثير، وبناء على ذلك فالجديد اليوم ليس هو ظهور الاختلاف وحده؛ فإن هذا قد حصلقديما، وإنما هو مع ذلك: عدم التزام الناس بمذهب معين.
لذا فإنالمعتبرين لمذهب من المذاهب الفقهية الأربعة لا بد أنهم يرون أن الحل هو العودة إلى الأصل، وهو التزام الناسبرسوم إحدى المذاهب المتبوعة، وأن ذلك أضبط لحال الناس، وأن هذا هو حال المسلمينفي زمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الناس في الأمصار على مذهب علمائهمحتى تولَّدت بعد ذلك من رحم هذه الأمصار هذه المذاهب المتبوعة، ولم يزالوا كذلك،فقد جرت عليها الأمة قروناً عديدة، وضُبِطَت كتبها، ولا يزال أهلهامتوافرون.
ويقول هؤلاء: إن ما يعانيه المسلمون اليوم من التفلت من الأحكام الشرعية بتلقف الفتاوى لهوأحد ثمرات إعراضهم عن هذه المنهجية الصحيحة التي استطاعت خلال ألف سنة أن تفتِّتالضرر الناشئ عن اختلاف المفتين.
وقد حكوا الإجماع على ضرورة انضباطالناس في هذه المذاهب، وحكوا الخلاف فيها عن المعتزلة وعن ابن حزم:
يقول إمام الحرمين:
أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهبأعيان الصحابة رضي الله تعالى عنهمن بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبرواونظروا وبوبوا الأبواب، وذكروا أوضاع المسائل، وتعرضوا للكلام على مذاهب الأولين.
والسبب فيه أن الذين درجوا وإن كانوا قدوة في الدين، وأسوةللمسلمين، فإنهم لم يفتنوا بتهذيب مسالك الاجتهاد، وإيضاح طرق النظر والجدال، وضبطالمقال، ومن خلفهم من أئمة الفقه كفوا من بعدهم النظر في مذاهب الصحابة، فكانالعامي مأمورا باتباع مذاهب السابرين...([1]).
وقال المازري فيمن يتخير الأقوال:
إن هذا باب إن فتححدث منه خروق من الديانات وإني رأيت من الدين الجازم، والأمر الحاتم أن أنهى عنالخروج عن مذهب مالك وأصحابه حماية للذريعة، ولو ساغ لهذا لقال رجل أن أبيع دينارابدينارين...وهذا عظيم الموقع في الضرر وهب أني أبحت هذا للسائل...وقضاة بلدهوفقهاؤهم لا يأخذون بذلك ...ولا تسمح أنفسهم بترك مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفةلاتفاق الأمصار على تقليدهم. ([2])
وقال القرافي:
رأيت للشيخ تقي الدين ابن الصلاح ما معناه أن التقليد يتعينلهذه الأئمة الأربعة دون غيرهم لأن مذاهبهم انتشرت وانبسطت حتى ظهر فيها تقييدمطلقها وتخصيص عامها وشروط فروعها، فإذا أطلقوا حكما في موضع وجد مكملا في موضعآخر، وأما غيرهم فتنقل عنه الفتاوى مجردة فلعل لها مكملا أو مقيدا أو مخصصا لوانضبط كلام قائله لظهر فيصير في تقليده على غير ثقة بخلاف هؤلاء الأربعة .([3])

وخلاصة رأي ابن رجب في رسالته "الرد علىمن اتبع غير المذاهب الأربعة:
وجوب تقيد غالب الناس بالمذاهب الأربعة، وليس لأحدأن يتخير من مذاهب غيرهم إلا أن يكون عالما متبحرا وصلإلى رتبتهم، وهذا النوع نادر ويكاد ألا يوجد.
لا يسوغ تقليد غير مذاهب الأئمة الأربعة لأنها لمتشتهرولم تنضبط.
عدم التقيد بمذاهبهم يؤدي إلى فساد الدين منترؤس الجهال والحمقى وابتداعهم ما أجمع السلف على تركه كما وقع ذلك من بعضالظاهريين.
أن ذلك هوما قدره الله وقضاه من جمع الناس على هؤلاء الأئمة المشهورين، كما قدجمعواعلى حرف واحد لأن المصلحة لا تتم إلا بذلك، وأن الناس إذا تركوا يقرؤون علىحروفشتى وقعوا في أعظم المهالك.
أن الأمة قد أجمعت على اتباع هذه المذاهب وهي لا تجتمع علىضلالة، فلا يقع الحق خارج هذه المذاهب الأربعة، وعلى تقدير تسليمهفإنهيقع نادرا، ولا يطلع عليه إلا مجتهد وصل إلى أكثر مما وصلوا إليه وهذامفقودأو نادر، وعلى تقدير وجود هذا ففرضه اتباع ما ظهر من الحقوأما غيره ففرضه التقليد وهو سائغ، ولا يقول القول الحق جميع الخلق.
ويقول ولي الله الدهلوي:
إن هذه المذاهبالمدونة المحررة قد اجتمعت الأمة أو من يعتد به منها على جواز تقليدها إلى يومناهذا، وفي ذلك من المصالح ما لا يخفى لاسيما في هذه الأيام التي قصرت فيها الهممجدا، وأشربت النفوس الهوى وأعجب كل ذي رأي برأيه.([4])
قلت:
الأدق أن لا إجماع على وجوب اتباع المذاهب الفقهية،لكن القول بالإجماع على الجواز من أقوى ما يمكن أن يحكى فيه الإجماع،فيعضده العمل المستمر من المسلمين، وقد ظهر مصلحة انضباط الناس فيها، وخلاف بعضالناس في بعض الأعصر لا يؤثر في ذلك؛ لأنه قدح في بعض صور الإجماع المتعاقبة، ونأيبعض المتقدمين عن ذلك لا يؤثر أيضاً لأنه قبل استقرار المذاهب ، وإنما ظهر النزاعبين أهل العلم في لزوم التمذهب أو عدم لزومه.([5])
والتمذهب لا يعني التقليد وترك اتباع الدليل، وإنما هو لضبطالناس في أصولٍ واحدة، وحتى لا يلعبن بهم الشيطان بالرخص أو الحيرة، كما أن فيهمراعاة للتراكم العلمي المدون، فيبدأ الآخر من حيث انتهى الأول فيبني عليه ويخرجويناقش ويستشكل، وكما هو فاعلٌ في ضبط العلم حتى يسهل على طالبه دراسة الفقه منأوله إلى آخره، ولهذا نجد أن ابن حزم نفسه وهو أشد من قاوم التقليد يصنف متناًيختصر فيه أقواله الراجحة ليستعين به من لا دربة له على الاحتكاك بأقوال الرجال،ولو أن الإنسان كلما أراد أن يرجح في مسالة مرت عليه مدّ عينه للنظر في مرتبتها،واستثار همته للاطلاع على أطرافها، وهو لا يزال في نأنأة أيامه لأوشك أن ينقطع.
وهذا لا يعني أيضاً المبالغة في التمذهب إلى حد التقليدالأعمى والتعصب المقيت، والكبر عن الحق ومنافرة مخالف المذهب، أو منع الاستفتاءالمطلق لغير أهل المذهب ولو مع استدعاء الحاجة.
وإنما هو التفات إلى محل "التمذهب" في تاريخ"الفقه الإسلامي"، وأن الأمة إن لم تجتمع على ضرورتها للضبط، فقد كادت،والضبط هو نشيد المصلحين.
ولا يزال "التمذهب" إلى اليوم ضابطاً لكثير منشرائح المجتمع، ولا يزال كذلك مؤهلاً لقيادة طبقات عديدة ، فإغفاله ليس بسديدلاسيما أن كثيراً ممن عالج المسألة من المعاصرين نبه إلى ضرورة العودة إلىالانضباط فيها لحل مشكلة التفلت والتحير، التي كان سببها الانحراف عن هذهالمنهجية.

لكن يبقى السؤال بواقعية بعيداً عن المثالية المطلوبة:
هل هذا الحل متاحٌ الآن بالشكل المناسب؟
الجواب في نظري: أنه أحد الحلول، ولكنه ليس بكافي؛ وذلك لتراجع عمل هذه المدارس الفقهية وعدمكفايتها ، فلا تكاد تجد في بلاد كثيرة من يكفيك بفتواك على قوانين هذه المذاهب إلافلان وفلان، وإذا وجد في مدينة لم يوجد في أخرى، ناهيك عن تأخرها الاستقلالي فيتكييف النوازل المعاصرة، فالفقهاء المعاصرون اشتغلوا كثيرا بتكييف المسائلالمعاصرة، ولكنك لا تجد أصحاب هذه المذاهب يقومون بنفس هذا الدور في داخل مدارسهمالفقهية، وفي مظانها من كتبهم، فهي لا تزال تكرر القديم، وربما تحتاج إلى مجدد فحللإجراء هذه العملية، لا التكييف، فقد فرغ من أكثره، بل إقحامها فقط في صلب هذه الكتب،وترتيبها في مظانها الفقهية.
والمقصود: أن اختلاف المفتين لم يكن ظهوره في هذا العصر بدعة من الأمر بل قد حدث هذافيما سبق من الأزمنة، ولكن اندفع ضرره بالتزام الناس بالمذاهب المتبوعة، معتحذيرهم من تتبع الأقوال تشهيا، ويمكن اليوم إرجاع الناس إلى المذاهب المتبوعةكأحد الحلول لظاهرة اختلاف المفتين كما هو الحال في السابق، ولكنه يبقى حلا ليسكافياً ولا فاعلاً بالشكل المفترض أن يكون.
وبما سبق يتبين: ظهور اختلاف المفتين لا حدوثه، وإنما الذي وقع هو تراجع الالتزام المذهبيللناس مما جعل من ظهور اختلاف الفتوى سببا واضحاً للربكة.
ويتبين أيضاً:وقوع إجماعهم على تسويغ انضباط الناس في المذاهب الفقهية المتبوعة، فهي مذاهبمقننة ومفصلة، وتسد حاجة الناس، ولا زال عملهم بها إلى اليوم، وأن جماعة من أهلالعلم ذهبوا إلى أبعد من ذلك وهو وجوب التقيد بهذه المذاهب، وحكوا الإجماع علىذلك، ويبقى عدم كفاية هذا الحل اليوم بعد تراجعه.
ما الحلالأمثل لعلاج مشكلة اضطراب الناس في الفتوى:
حَل هذه النازلة يكمنفي أمور:
أولاً:معرفة أسباب هذه المشكلة وهي كما سبق:
زيادة ظهور اختلافالمفتين.
عدم انضباط الناس بمذهب معين.
ثانياً: الاستجابة لأمرهسبحانه في قوله: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم تعلمون}([6]) فيؤمرالناس باستفتاء أهل الذكر فيما أشكل عليهم من مسائل الدين.
يقول الحافظ ابن عبد البر:
"العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بهالأنها لا تتبين موقع الحجة ولا تصل بعدم الفهم إلى علم ذلك لأن العلم درجات لا سبيلمنها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة والله أعلم،ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقول الله, عز وجل:{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] "([7])
ثالثاً: بيان أن أهل الفتياالذين تبرأ بهم ذمم المستفتين أمام الله عز وجل هم أهل الذكر، كما في الآيةالكريمة، وهؤلاء هم أهل العلم وأهل الدين، وكلما كان المفتي أكثر علما وأكثر دينا كانأكثر توفيقاً لإصابة الحق.
وقد اجتمعتنصيحة أهل العلم منذ زمن التابعين وظهور اختلاف المفتين:على تقييد الناس بأهل العلم الذين اجتمع فيهم هذان الوصفان، وهما: العلم والدين، ومازال أهل العلم يكررون ذلك إلى اليوم، وكل ما زاد الخلل زاد أهل العلم في تفصيلهذين الوصفين، فيذكرون في العلم ما يجب أن يجتمع في المفتي منه، ويحذرون من القصاصوالوعاظ وأصحاب العمائم، ويذكرون في الدين ما يجب أن يجتمع في المفتي من الصفات لاسيما الورع، وقد يقلعامل الورع فيحذرون من المتساهل.
إذن هناك إجماع نظريوعملي قديم لم ينقض وهو اتباع العالم المتدين.
وهو يتفق تماما معالنصوص المفيدة بسؤال أهل الذكر لمن لم يكن عالماً، يقول الله عز وجل في آيتين منكتابة في سورة النحل والأنبياء: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم تعلمون}
وفي كتب الفتاوىتفاصيل إذا اختلفت الفتوى: في اتباع القول الأغلظ أواتباع القول الأخف أو سؤال ثالث، أو يتخير بين القولين أو يجتهد في الأرجح منهما.
وقد ذكروا:أن هذا ليس للعامي وأن العامي إما أن يجتهد في معرفة المفتين أو يسأل ثالث.([8])
وهو لا يبعد عما تمتقريره.
ويجيء في كلامهم: الحض على الاحتياطلجانب الدين، وهو معنىً صحيح ولا يتعارض مع التأصيل لهذه المنزلة، فهناك الحكم،وقد يقارن هذا الحكم فضيلة، وهي هاهنا الاحتياط.
وحصول التقصير في الناس اليوم، وتصدر من "تسمَّىبالفقيه المدرس" يدفع إلى الاستيثاق في حصول هذه الأوصاف مع أن ابن الوزيراليماني حاول أن يكتفي ببراءة الذمة بسؤال من انتصب للفتوى وأنه كافٍ في كونه منأهل العدل والاجتهاد لإجماع الناس على استفتاء من كان هذا حاله، وهم في العادة لايجتمعون إلا إلى أولئك. ([9])
ولكن اليوم تغيرالحال وانتصب للفتوى من ليس له بأهل، فلا بد من الاستيثاق في الفتوى لغلبة الهوىوقلة العلم والدين، والله المستعان، لذا فيمكن أن تعكس القضية اليوم، فيقال: إنهلا يجوز أخذ الفتوى من المفتي بمجرد انتصابه في مقامها.
رابعاً: تحذير الناس ممن لايستحق الإفتاء، وأقترح أن تقام بعض الدعاوى عن طريق المحاكم الشرعية في كل بلدبحسب ظرفه بإزاء متطفلي الإفتاء الذين اغتصبوا مواقع المفتين، فإن هذا مفيد ولو إعلامياً، ولو تخويفاً .
خامساً: محاولة ضبط الناسبمذاهبهم الفقهية، وبما يفتي به علماء بلدانهم الثقات:
إن ضبط الناس في حدود معروفةأضحى في منزلة الضرورة ، والشارع له تشوف واضح إلى ضبط الناس، وهذا يكون:
إمابإحياء المدارس الفقهية القديمة إذا توافرت أسبابها، كتأهل المنتسبين إليها،وازدهار تناولها المعاصر، وهذا يمكن تفعليه في كثير من الأمصار.
وإما بإرجاع الناس إلىعلمائهم المبرَّزين في العلم والتقوى، وهذا أقرب إلى الواقع، وقد يكونون أيضاًمنتسبين إلى إحدى المذاهب المتبوعة، فهو لا يتناقض معه.
وهذا الضبط بصورتيه:هو الذي جرى عليه عمل المسلمين خلفاً عن سلف، ويحقق لهم غاية الاطمئنان، والتعبدلله بأصول واحدة، لأنه إذا عمل بفتوى هذافي الصلاة وبفتوى هذا في الحج وقع أن تعبد أحدهم ببعض الأصول المختلفة، و جرت أمةمحمد صلى الله عليه وسلم من عهده بسؤاله إلى عهد أصحابه بسؤال الخلفاء الراشدين،وكبار الصحابة، وعلمائهم الذين تفقهوا في الأمصار، واستمر هذا إلى عهد مدارسالأمصار: مدرسة الكوفة، مدرسة المدينة، مدرسة مكة، مدرسة الشام، مدرسة مصر، إلىعهد المدارس الفقهية الأربعة باتجاهاتها الداخلية، كل مصر، وكل مذهب على فتوىعلمائه.
فإن قيل:لكن أقوال هؤلاء قد تخالف القول الراجح؟
فالجواب:نعم ولا بد، ولو تخيرت لهم أنت الأقوال الراجحة عندك، لكان من بين أقوالك الراجحةما هو مرجوح، فما تخوَّفت منه واقع ولا بد.
ويبقى النظر: في أحظ أهلالعلم إصابة للحق، وهنا تختلف الأنظار.
فإن قيل:الحل الأول والحل الثاني: كلاها حلان قديمان ولم يعودا نافعين اليوم.
فالجواب:أما القدم فنعم ولا يضر، وأما أن كون الحل بطرفيه لم يعد نافعاً فلا، وذلك أن سببعدم فاعليته ليس هو عدم كفاءته ولكن عدم تفعيله بالشكل المطلوب.
فالمشكلة الحاصلةاليوم ليست هي بسبب قصور في تحصيل العلم الشرعي في تناول هذه النازلة، ولكن بسببقصور المشتغلين بالشريعة في القيام بواجبهم، وبسبب قصور الناس في الاحتياط لدينهم.
نقد أمر العامةبالاجتهاد في النوازل عما وافقه الدليل:
إن المذاهب الفقهيةاجتمعت حتى أهل الظاهر منهم على أن الجاهل بالحكم فرضه السؤال، فإدخال عمليةالاجتهاد بالنسبة للمستفتي فيها غرابة فلا آلة لديه تسمح له بذلك.
يقول ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2 / 230): هذاكله لغير العامة فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بهالأنها لا تتبين موقع الحجة ولا تصل بعدم الفهم إلى علم ذلك لأن العلم درجات لاسبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجةوالله أعلم.ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقولالله, عز وجل: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل: 43] وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بميزه بالقبلةإذا أشكلت عليه، فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد من تقليدعالمه.
وأبطل الغزالي فيالمستصفى (2/466): التقليد، ومع ذلك فقد قرر أن العامي يجبعليه الاستفتاء واتباع العلماء لإجماع الصحابة على فتوى العوام وعدم أمرهم بنيلدرجة الاجتهاد، وهذا معلوم على الضرورة والتواتر من علمائهم وعوامهم، وللإجماع علىأن العامي مكلف بالأحكام وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال؛ لأنه يؤدي إلى ينقطعالحرث والنسل، وتتعطل الحرف والصنائع، ويؤدي إلى خراب الدنيا لو اشتغل الناسبجملتهم بطلب العلم، وذلك يرد العلماء إلى طلب المعايش واندراس العلم وهلاك العلماءوخراب العالم.أما التقليد فهو قبول القول بلا حجة، وهؤلاء وجب عليهم ما أفتى بهالمفتي بدليل الإجماع.
وذكر الزركشي في البحرالمحيط (4 / 566): أن الجمهور على أن العاميالصرف يجوز له الاستفتاء ويجب عليه التقليد في فروع الشريعة جميعها ولا ينفعه ماعنده من العلوم [لأنها] لا تؤدي إلى اجتهاد .
و يقول ابن أمير حاجفي التقرير والتحبير (3 / 459):
غير المجتهد المطلقيلزمه عند الجمهور التقليد. ...لم يزل المستفتون يتبعون المفتين بلا إبداء مستندلهم في ذلك وشاع وذاع ولا نكير فكان إجماعا سكوتيا على جواز اتباع العالم المجتهد.
ويقول الحطاب في مواهبالجليل (1/30): الذي عليه الجمهور أنه يجب على من ليس فيهأهلية الاجتهاد أن يقلد أحد الأئمة المحتهدين
وقال الشيخ عليش فيفتح العلي المالك (1/90): أجمع أهل السنة على وجوبالتقليد على من ليس فيه أهلية الاجتهاد حسبما في الديباج للإمام ابن فرحون وعمدةالمريد للشيخ القاني وغيرهما وشاع ذلك حتى صار معلوما من الدين بالضرورة([10]).


إن المدارس الفقهية فرغتبمجموعها من تقييد أصحابها في حدود أقوالها برسوم دقيقة، وقد وقع بينهم خلافٌفيمَنْ لم يلتزم مذهباً بعينة، هل يسوغ له ذلك؟ فمما رجحه ابن الصلاح لزوم التزامالعاميّ مذهباً معيناً يتقيد به، ورجح له مذهب الشافعي، وأن ما سوى ذلك يفتح بابالاختيار والتشهي، ويجر خبطاً في الأعصار المتأخرة، وقد قال هذه الجملة الأخيرة فيمعرض الرد على القول بعدم جواز تقليد الميت.([11])
وأخيراً: فإن كل ما سبق هوجانب نظري، ويبقى الجانب التفعيلي له، وإلا يبقى ما كتب أوراقٌ مسودة بالأحبار،وسبق أن الإشكالية اليوم تعود إلى القصور في العمل أكثر منه في القصور في العلم،ويتحمل القصور في العمل: المفتي والمستفتي، وعلى الدعاة إيضاح السبل القويمةللعوام في تحصيل الحق.


http://www.feqhweb.com/vb/#_ftnref1([1]) البرهان (2 / 744).
http://www.feqhweb.com/vb/#_ftnref2([2]) مواهب الجليل ( 1/31).

http://www.feqhweb.com/vb/#_ftnref3([3]) التمذهب لـ عبد الفتاح بن صالح الشافعي ص 94- 99

http://www.feqhweb.com/vb/#_ftnref4([4]) حجة الله البالغة ص325

http://www.feqhweb.com/vb/#_ftnref5([5]) التقرير والتحبير 3 /461

http://www.feqhweb.com/vb/#_ftnref6([6]) هذه استفادة من العموم اللفظي للآية، وإلا فإن الآية لها سببمختص في النزول.

http://www.feqhweb.com/vb/#_ftnref7([7]) جامع بيان العلم وفضله (2 / 230).

http://www.feqhweb.com/vb/#_ftnref8([8]) أدب المفتي والمستفتيص293-299.

http://www.feqhweb.com/vb/#_ftnref9([9]) العواصم 1/316، الروضالباسم 1/48

http://www.feqhweb.com/vb/#_ftnref10([10]) ينظر: التمذهب لـ عبد الفتاح بن صالح الشافعي ص 94-99.

http://www.feqhweb.com/vb/#_ftnref11([11]) انظر مثلاً: أدب المفتيوالمستفتي ص286-293


 

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,490
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: اضطراب الفتوى: الأسباب والحلول

جزاكم الله خيرا على هذا العرض الدقيق للمشكلة وحلولها
ولكن لا نزال نكتب ونقترح دون تفعيل أو تطبيق لتلك الاقتراحات أو الحلول
والله المستعان
----------------

 

سهيلة حشمت

:: مطـًـلع ::
إنضم
3 ديسمبر 2011
المشاركات
179
التخصص
فقه
المدينة
000000000
المذهب الفقهي
شافعى
رد: اضطراب الفتوى: الأسباب والحلول

جزاكم الله خيرا
 
إنضم
16 أبريل 2010
المشاركات
187
التخصص
إنجليزية
المدينة
تلمسان
المذهب الفقهي
مالكي
رد: اضطراب الفتوى: الأسباب والحلول

جزاكم الله كل خير شيخنا الكريم
حقيقة موضوع جد مهم
الغريب في الأمر كما نرى عند كثير ممن يتصدرون الفتوى إطلاق ألفاظ مهلهلة رجراجة تحمل معاني كثيرة
أحدهم سأل عن حكم الدعاء بعد الصلاة المفروضة ورفع الأيادي
فكان الجواب كالتالي
هذا عمل لا يوجد في كتاب ولا سنة.لم يعرفه رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا الصحابة الكرام
يعني بهذه البساطة من دون التفات لفتاوى سابقة ولا لآثار كثيرة لها علاقة بالموضوع
اضطراب الفتوى له أسباب كثيرة وتوجد حلول ناجعة لو تصدق النوايا ويجتمع العلماء من كل الأقطار وتلتزم الجهات المنفذة بتنفيد توصياتهم
الله المستعان
 
إنضم
19 أكتوبر 2010
المشاركات
55
الكنية
أبو أحمد
التخصص
العام:(الفقه و أصول الفقه)، الخاص:(السياسة الشرعية و الأنظمة- الدراسات القضائية)
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الحنفي، و الدراسة: الفقه المقارن
رد: اضطراب الفتوى: الأسباب والحلول

بارك الله فيكم و أحسن إليكم
 

فاطمة الجزائر

:: مشارك ::
إنضم
18 مايو 2011
المشاركات
204
الكنية
فاطمة الجزائر
التخصص
فقه وأصوله. فقه المالكي وأصوله
المدينة
وهران
المذهب الفقهي
المذهب المالكي
رد: اضطراب الفتوى: الأسباب والحلول

بارك الله فيكم
 
أعلى