د. فؤاد بن يحيى الهاشمي
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 29 أكتوبر 2007
- المشاركات
- 9,059
- الكنية
- أبو فراس
- التخصص
- فقه
- المدينة
- جدة
- المذهب الفقهي
- مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
دوائر التقليد داخل المدارس الاجتهادية
عناصر:
· انزلاق عامودي إلى صلب الموضوع.
· إشارات مروية (خضراء، وصفراء، وحمراء).
· خيال قديم في رسم المجتهد صاحب الاجتهاد الأعظم!.·
حديث خاص مع الشيخ الأندلسي: (الامتدادات الحزمية وأسوار ابن تيمية الشاهقة!).
§ انزلاق عامودي إلى صلب الموضوع:
التقليد له دوره التاريخي في إعاقة التجديد، ولا يزال جاثماً على صدر الأمة منذ أمد بعيد، وله صور شتى، وهو ببراعة فائقة قادر على التكيف حتى في صورة "التجديد نفسه"! وبكامل عدته، ومن بينها "البرهان الأرسطي" في دولة "أفلاطون"!.
إن الثورات العظيمة التي قادها المجتهدون الكبار في تراثنا الفقهي: لم تكد تنهض بوظيفتها، وتتنفس في الهواء الطلق حتى خمدت وقعدت، فإن هلك بطلها! واستيقنوا من استفراغ أنفاسه! فقد يُفْسَح لأتباعه بعد ذلك أن يمضوا بجثمانه، كممثل رسمي معتمد، لدائرة جديدة مقفلة من دوائر التقليد!.
أما اليوم، فقد بات التجديد أو يكاد: قاصراً على استحداث نسخ كربونية مكررة من الأئمة المجددين! وبالمقاسات الصعبة، وتبلغ الظرافة منتهاها حين تبصر النسج الإبداعي في محاكاة مكشوفة، إلى درجة المحافظة على حروف وأدبيات المجدد نفسه! فأي تجديد وأي تقديم! أم أنه محافظة على ثوابت التجديد! أو أن التجديد في التجديد محدث! وتظل الشعارت تطل برأسها: من سلفك؟ وأين فتوى الإمام؟ وأين كان عن هذا شيوخنا الكبار؟؟ فتنة!! فتنة!! لو كان خيراً لسبقونا إليه!!.
قضية الدفع قدماً بالإبداع، وممارسة الاستكشاف، ومباركة الإضافة، هذه مسائل قد تجاوزها العالَم، لا أقول من سنين ولا من عقود، بل من قرون، نعم، قرون، لكنها قرونٌ من مآسينا! أجدني آسَف إلى حد البكاء بدموع ساخنة: أننا لا زلنا نعالج قضايا قد أكل عليها الدهر وشرب!.
§ إشارات مروية (خضراء، وصفراء، وحمراء):
1- إدراج الناس بسائر طبقاتهم ضمن اتجاهات ومسارات معينة، هذا أمرٌ لا مفر منه، وهو الواقع، فإنك لو تأملت لوجدت أن هذه الطريقة ليست قاصرة على أتباع المذاهب الفقهية الأربعة، بل إن هذا واقع في غيرهم أيضا حتى في المدارس التي يقال لها إنها لا تقلد أحدا، أو أنها تنتهج منهج الاجتهاد المطلق، وانظر مثلا إلى تلاميذ محدث العصر: الشيخ ناصر الدين الألباني، وهو أبرز من دعا إلى فتح باب الاجتهاد، ومجابهة التقليد، فإنك تجد طلابه المجتهدين في الغالب الكثير في دوائر شيخهم المجتهد! إن كان ذلك من جهة الأصول والقواعد، وإن كان من جهة الفروع والمسائل، وحسبك أن تعرف أن هناك مسائل انفرد بها الألباني عمن قبله، وصارت مختصة به، وتجد مِنْ هؤلاء مَن يتقيد بها، هب أن الألباني لم يوجد، أكان هؤلاء على هذا القول؟ وقل مثل ذلك في خريجي مدرسة ابن عثيمين الفقهية، ففتواهم على مقاسات الشيخ طولاً وعرضاً! وعندما كنتُ تلميذاً في صفوف جامعة الإمام محمد بن سعود لاحظت أن بعض المدرسين ينقلون نصوص ابن عثيمين في معرض ترجيحهم الخاص! إذن هو ترجيح تقليدي 100%، وحق لصاحبه براءة الاختراع، وشكراً على تجديد القديم!! وإذا رميت ببصرك إلى متبعي مذهب أهل الظاهر قديما وحديثا فإنك تجدهم في الغالب الكثير على رسوم ابن حزم الدقيقة؛ فأي اجتهاد مطلق؟ ولعلك تتساءل معي: لِمَن صنف ابن حزم المتن المعروف بـ "المجلى" على قولٍِ واحد، ويقول في شرحه المحلى: إنما كتبنا كتابنا هذا للعامي والمبتدئ وتذكرة للعالم.
فأين قوله عن تحريم التقليد، ووجوب الاجتهاد، واتباع الدليل؟!
بل لعلي أكشف لك عما يجيش في صدري، إن هذه الطريقة في الجملة هي طريقة الإمامين: مالك وأبي حنيفة، فإن الإمام مالكاً كان على رسوم أهل المدينة، وكان الإمام أبو حنيفة على رسوم أهل الكوفة، فلا توجد مسافات تذكر بين مالك وبين شيوخه على سواري المسجد النبوي، بل كان العمل، وهو أبرز أدلته الخاصة: انعكاساً مباشراً لفقه هؤلاء، أما إبراهيم النخعي فقد كان همزة وصلٍ بين تلامذة علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وبين مدرسة الرأي، فهو المنظر الفعلي لمدرسة الكوفة التي استلم أبو حنيفة رايتها. وإنما كان للإمامين أبي حنيفة ومالك: الإبراز والتقعيد والتأسيس، ومحاولة رد فروع المسائل إلى الأصول المعروفة في مدرسة كل منهما، فهما متحدثان رسميان عن فقهاء المدينة والكوفة، مع استكمالها صفات الاجتهاد، وممارستهما الفعلية لأصولهما.
وقد كان التميز الفعلي من جهة الإبداع والتوليد: للإمام الشافعي رحمه الله، فهو الذي زاوج بين هاتين المدرستين: مدرسة المدينة ومدرسة الكوفة، بعد تتلمذ واحتكاك مباشر، فهو تلميذ مالك ومحمد بن الحسن، ثم أدرج معهما مدرسة فقهاء أهل الحديث ببغداد، فخرج بمذهبٍ جديد من حيث الشكل، وتبعه على ذلك أحمد وإن كان أكثر إشرافا منه في معرفة متون السنة وصحيح الآثار، وكان الشافعي أقعد منه في الأصول والمسائل، وهذا باعترافهما. على أن أبا حنيفة ظهر تميزه إلى الغاية من جهة السبق التاريخي، فهو يكسر القياس بالاستحسان، في تطوير جديد لمدرسة الرأي، بما يشبه نزعات عمر في سننه العمرية، وقد شهد له الشافعي بأنه أول من شقق المسائل وفرَّعها، بينما تميز الإمام مالك من جهة تأصيل القواعد وتأسيسها، حتى اختص بأدلة كبار، كالاستصلاح، والعمل، والاحتياط، وسد الذرائع، وحق له بذلك أن يكون صخرة الإسلام، التي تتكسر عليها شبهات أهل الأهواء، وقد دافع الشافعي عن مدرسة المدينة، حتى أدرج نفسه فيها، ووصفهم بأنهم أصحابه، فيكون باقياً في الدائرة الكبرى داخل مدرسة المدينة، ولم يكن مزاوجته للمدرستين، وتوليده لمدرسته الخاصة كافية في إخراجه عن مدرسته الأم ولو ألف "الأم".
هذا إذا كان ظاهراً في الأئمة الأربعة الكبار، والحال كما رأيتَ، فكيف بمن بعدهم؟
وخلاصة ما سبق: أن التقيد في المدارس الكبرى أمرٌ لم يزل منذ أيام الصحابة ومدارسهم في المدينة ومكة والكوفة، ثم توالت بعد ذلك المدارس، لاسيما مدرسة الأوزاعي في الشام، والليث في مصرـ إلى أن استقرت المذاهب الأربعة المتبوعة، فإنها كادت أن تستوعب الاتجاهات الفقهية المتباينة، حتى جاء ابن حزم، فأحيا مذهب داود، وميزه كمذهب مستقل مفصل له أصوله وفروعه المختصة.
2- من الأمثلة القديمة على الاتجاهات الفرعية: دائرة الخرسانيين والعراقيين من الشافعية، ودوائر المدنيين والمصريين والمغربيين والعراقيين من المالكية، ومن الصور المتكررة على ذلك: دوائر الشيوخ التي يتمسك بها التلاميذ، وينتصرون لها.
3- لا يزال الناس إلى اليوم في ضمن هذه الاتجاهات الفقهية المعروفة وإن كانوا في الغالب يميلون إلى تقليص هذه الدوائر إلى دوائر أضيق، ومع ذلك فالغالب أنهم لا يعترفون بذلك، ويتوهمون بما استقلوا ببعض الأقوال، وقد تكون من جملة الفلتات والغلطات: أنهم تأهلوا بذلك للاجتهاد المطلق.
4- ما سبق يرشد إلى: ضرورة التسليم بالواقع العلمي والفعلي بانحسار غالب الشخصيات والحركات الاجتهادية في دوائر اجتهادية معينة، هذه مقدمة مهمة لاستتمام التصور الصحيح، وأهمية إيقاف هذه المدارس الاجتهادية المقيدة على الدوائر التي اختطت لنفسها من حيث شعرت أو من حيث لم تشعر، فإن في إدراكها هذا المستوى من الاجتهاد المقيد، وهذا المستوى من التقليد المحدد: فوائد كبيرة، منها الانضباط المنهجي، والتنظيم المعرفي، ومعرفة حدودها وقدرها، وأنها مقلدة للإمام المجتهد، فرعٌ عنه، وليست نداً، ولا نظيرا، حتى لا تعيق المدارس الاجتهادية الأخرى بفلسفة تقليدية، فأنا مثلاً مندرجٌ في مدرسة ابن تيمية داخل مذهب الحنابلة، فالمسألة فيها ثلاثة أقوال، لكن الراجح هو القول الخامس الذي اختاره الأئمة المحققون، وهؤلاء الأئمة المحققون إن لم يكونوا مختزلين بجملتهم في ابن تيمية نفسه فهم تلامذته وأتباعه، ومع ذلك فالدعوة صارخة أنه اجتهاد، واتباع للدليل، ولا أدري ما هي الأقوال الراجحة عندنا لو لم يخلق ابن تيمية!.
5- إيقاف دعاة الاجتهاد المطلق إلى تأخرهم عن ذلك المحل، وتنبيه من أطلق قلمه ولسانه فيما لا ينبغي لمثله ومن كان على درجته.
6- إدراك أن الاجتهاد المطلق لا يكاد يوجد إلا مقيدا، وإذا كانت الدعوى على قفل باب الاجتهاد في عصور الأئمة الكبار مع استكمالهم لمقدمات العلوم، واستيعابهم لدقائقها؛ فذلك أولى اليوم مع قلة البضاعة واتساع المعرفة؟ وفي هذا تحجيم مناسب للدعاوى العريضة، لاسيما أصحاب الحلول الكبرى والحاسمة!.
7- ضرورة حل بعض القيود التي أعاقت الاجتهاد.
8- كان من جملة أسباب الدعوة القديمة إلى إغلاق الاجتهاد هو فساد الزمان، فاحتاطوا لدينهم بذلك، وهذه الدعوى وإن لم تغلق الاجتهاد، فقد نجحت في وقت ما في إعاقته، وفي تحديده، وكادت أن تحبس أنفاسه خنقا، لولا رجال بعثهم الله على رأس كل قرن ليبعثوه غضا طرياً.
9- الرمي بالشذوذ يقع أحيانا على من يقع في الشذوذ فعلا، لكنه يقع أحيانا على من قصد الاجتهاد، والخروج من ربقة التقليد، فهذا موضع دقيق وخطير في نفس الوقت.
10- دعوة لدراسة مناهج الأئمة المجددين بشتى مناهجها، فالشاطبي المجدد المقاصدي كان له كتابٌ في البدعة! وكان قد أوذي وامتحن بسبب رميه بالتشدد، وموقفه من الأمور المحدثة، ثم إنه كان لا يفتي إلا بالمشهور في مذهبه المالكي! وبذلك تكون حياته خلاف ما يصور عنه العصريون من أنه كسر قيود الشافعي في الرسالة، ثم إن مصنفاته مشحونة بالقواعد والضوابط، وهذا يتنافى تماماً مع دعاة "الفقه الجديد بلا حرام"! ومن الأئمة المجددين: ابن الصلاح الشافعي، فقد عرف عنه أنه كان موفقاً في الفتوى، مسدداً في الاجتهاد؛ فما أسباب تميزه مع كونه من دعاة قفل باب الاجتهاد، وخلو العصر من مجتهد حتى قفل على الأعصار المتأخرة: باب التصحيح والتضعيف في الأحاديث! .
11- من الملفت أن بعض من ينادون اليوم بفتح الاجتهاد على مصراعيه: لا نراهم يجاوزون في بحثهم كلام من تقدمهم، فهم ينقلون نصوصهم، ثم ينتقلون بينها: فهما وترجيحا ودلالة، وقد أشار الحافظ ابن رجب رحمه الله في معرض رده على من ادعى الاجتهاد المطلق أن عليه أن يفعل مثل ما فعلوا لا أن ينقل منهم ثم يريد أن يرجح!.
12- استنبت إمام الحرمين علم المقاصد على أوراق الدفاتر، ومع ذلك فقد كان منحصرا في دائرة الشافعي، كما كان الإمام ابن تيمية رحمه الله مع إشرافه، وذهابه بعيداً في الاجتهاد، حتى عرف عنه التفرد في الأقوال، ومع ذلك كله فقد كان متردداً في أكثر اختياراته بين روايات أحمد، ولعل تعدد هذه الروايات إلى حد استيعابها لكل ما قيل في المسألة: هي التي أبقته مندرجا في مذهبه، كما كان ابن القيم في دائرة شيخه ابن تيمية، وكان الغزالي في الفقه محافظاً على مقاصد شيخه الجويني لكن بعبارة أعذب، المقصود التسليم بالواقع الفعلي القديم والحاضر من انحسار دائرة الاجتهاد علميا وواقعيا، والأمثلة فوق الحصر، وفيما أشرت من الأمثلة عن هؤلاء الكبار كفاية.
13- أهمية الاجتهاد في حياة الأمة بسبب تجدد الوقائع والحوادث مما يفرض صورا لم ينص على حكمها المجتهدون السابقون، فيحتاج الناس إلى من يبين لهم الحق، يرشدهم إلى طريقه.
§ خيال قديم في رسم المجتهد صاحب الاجتهاد الأعظم:
قال تاج الدين بن السبكي: قال لي الشيخ شهاب الدين بن النقيب: جلست بمكة بين طائفة من العلماء وقعدنا نقول: لو قدر الله تعالى بعد الأئمة الأربعة في هذا الزمان مجتهدا عارفا بمذاهبهم أجمعين، ويركب لنفسه مذهبا من الأربعة بعد اعتبار هذه المذاهب المختلفة كلها لازدان الزمان به، وانقاد الناس له، فاتفق رأينا أن هذه الرتبة لا تعدو الشيخ تقي الدين السبكي، ولا ينتهي لها سواه.
انتهت القصة، وستستكمل إن شاء الله تعالى في حلقة جديدة من:
· حديث خاص مع الشيخ الأندلسي: (الامتدادات الحزمية وأسوار ابن تيمية الشاهقة!).